كم عدد الرسائل التي يمكن أن يكتبها شخص عاش حياة لم تكن طويلة بأي حال من الأحوال؟ 5 آلاف؟ 10 آلاف؟ بل 25 ألف رسالة إذ تعلق الأمر بالكاتبة الفرنسية آمانتين أورور دوبان، التي ستعرف وتخلد باسم ذكوري اختارته لنفسها ذات يوم وعلق بها هو، جورج صاند.
ولعل السؤال الأول الذي يخطر في البال هو من أين أتت صاند بالوقت الكافي لكتابة ما قد يزيد على 10 رسائل يومياً وبشكل منتظم هي التي لم تعش سوى 70 عاماً، أمضت معظمها في كتابة عدد كبير من الروايات والدراسات والمقالات والمسرحيات، كما في النضالات الثورية والاشتراكية والتبادلات الغاضبة والناقدة والمحبذة لأعمال غيرها، ناهيك عن اتساع وقتها الخاص، وكذلك لعشرات العشاق الذين كانت تبدلهم أحياناً بعد أن تسأم منهم خلال أيام، أو تحتفظ بهم سنوات طوال لا يفوتها خلالها أن ترتبط بعلاقات عابرة متعدد، من دون أن ننسى أنها لم تعش على أي حال، الحب الحقيقي سوى مرتين في حياتها، أولاهما مع الشاعر والروائي ألفريد دي موسيه، الذي كتب عنها ومن وحيها بعض أجمل نصوصه، والثانية طبعاً مع الموسيقي البولندي فردريك شوبان الذي كانت الحب الأكبر في حياته وملهمته في أجمل مؤلفاته الموسيقية.
مع الألوف من طريق الرسائل
الطريف في الأمر أن العدد الأكبر من الرسائل لم تتبادله صاند مع عشيقيها الكبيرين، بل مع ألوف من مراسليها وأصدقائها وحتى مع أناس لم تعرفهم في حياتها، لكنهم كانوا يكاتبونها إعجاباً أو استشارة أو احتجاجاً على نص لها من هنا أو آخر من هناك، من دون أن ننسى أولئك الذين كانوا يكتبون إليها لمجرد الاتصال بها متحججين برغبتهم في أن تفسر لهم ما بدا لهم غامضاً في كتبها وكتاباتها، ولقد خلق كل ذلك متناً في أدب الرسائل قل نظيره واستغرق الباحث جورج لوبان 50 عاماً من حياته وجهوداً جبارة لجمعه ونشره، وهو الذي سيرحل عن عالمنا مخلفاً ألوفاً أخرى من رسائل كتبتها السيدة، ويتم العثور عليها بين الحين والآخر، لكنها لم تنشر بعد حتى الآن.
أما ما نشر فقد احتل 25 مجلداً نشرت بين العامين 1964 و1991 فيما نشر جزء يحمل الرقم (26) في العام 1995. وفي العام 2004 نشر ثييري بودان وهو كما يبدو حفيد لجورج صاند مجلداً جديداً بعنوان "رسائل عثر عليها" إضافة إلى مجلد ضخم يحمل عنوان "رسائل حياة" صدر مستقلاً عام 2004. ولختام هذا كله بصورة مؤقتة لا بأس في أن نذكر أنه قد صدر كتابان في العامين 1994 و1996 تباعاً، عنوان أولهما "جورج صاند، مراسلات" وهو بحث في رسائل الكاتبة لنيكول موزيه، و"عن الكينونة في الرسائل" للكاتبة آن سان سانس هو عبارة عن سيرة لصاند من خلال رسائلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع مشاهير زمانها
نتوقف عن التعداد هنا وإن كنا نعرف أن لائحتنا لا تستوفي كل ما كتبته جورج صاند من رسائل، ولكن لا بأس من الإشارة إلى أن عدة كتب صدرت أخيراً في باريس يقبل القراء عليها بوفرة، يتفرد كل واحد منها بنشر مراسلات صاند مع عدد من مشاهير زمانها كفلوبير وفكتور هوغو وباربيس المناضل الجمهوري الذي ارتبطت معه بعلاقة نضالية وثورية، ناهيك عن كتاب يضم بعض مراسلاتها مع شوبان الذي لا بد من الإشارة هنا إلى أن ما بقي للباحثين من الرسائل المتبادلة بينه وبين جورج صاند ضئيل العدد بالنظر الى أن الجزء الأكبر من رسائلهما قد اختفى أو بالأحرى مزق وأحرق من قبلها أو من قبله، وآخر يحوي رسائل متبادلة بينها وبين ألفريد دي موسيه.
والحقيقة أن ما يمكن ملاحظته في هذه الرسائل أن الكاتبة التي لم تعش يوماً من دون حكاية غرام، كان من النادر لها أن تسهب في الحديث عن حالاتها العاطفية في رسائلها حتى حين تتبادلها مع عشاقها الكثر أو حبيبيها الكبيرين، ومن هنا ربما يمكن القول إن نصوص تلك الرسائل تشكل قبل شيء آخر سيرة حياة واستعراضا للأفكار وتبادلات حول شؤون سياسية وأدبية عامة، وقد يحدث في أحيان كثيرة أن تكتب صاند لمراسل ما، من خاصتها، بعد ساعات من لقائها به وافتراقها عنه بعد اللقاء، كتابة تستطرد فيها حديثاً أو مساجلة كان الفراق قد قطعها، ويشكل هذا بالطبع متناً فكرياً متكاملاً، ولا شك في أن كل الذين كتبوا سيرة للكاتبة قد استعانوا به مصدراً لتحري أفكارها بل حتى لمتابعة سيرة حياتها، إضافة إلى كون المتن في مجمله يكاد يحدثنا عن التاريخ الفكري والسياسي والأدبي لمعظم عقود القرن الـ 19 الذي كانت جورج صاند نجمته الفرنسية من دون أدنى ريب.
يوم فوتت لقاءها مع مصر
ومن دون أدنى ريب أيضاً يمكننا القول إن هذه الكاتبة ربما تكون الأقوى والأفضل خلال العقود التي عاشتها متنقلة خاصة بين نوهان، حيث بيت العائلة الذي سيكون بيتها حتى نهاية حياتها، وباريس التي كانت نجمة صالوناتها الأدبية، لا سيما صالون المناضلة الاشتراكية والنسوية الكبيرة جولييت آدم التي كانت صديقتها المقربة كما كانت صديقة الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل ويعقوب صنوع، "أبو نضارة"، أحد مؤسسي المسرح المصري الحديث وأحد المناضلين الكبار في سبيل القضية المصرية في باريس. ونشك طبعاً في أن جورج صاند التقت لدى السيدة آدم بالفعل، بأحد هذين المصريين الكبيرين هي التي رحلت عن عالمنا عام 1876 قبل وجودهما في حياة جولييت آدم وصالونها، لكنها كانت بالتأكيد تعرف أموراً كثيرة عن نضال المصريين وتاريخهم، بحيث إن تمعناً في بعض مراسلاتها قد يكشف عن هذا.
في نهاية الأمر عرفت صاند في رواياتها كما في نضالاتها التقدمية، كيف تقف إلى جانب القضايا العادلة ومنها بالطبع قضية المرأة، إذ حرصت ذات يوم على أن تكون أول كاتبة في العالم، أو على الأقل في اللغة الفرنسية، تكتب وتنشر سيرتها الذاتية بنفسها بعنوان "حكاية حياتي" (1854 – 1855) علماً بأن العدد الأكبر من رواياتها ومهماً بدت هذه الروايات "موضوعية" تحكي حكايات أشخاص "آخرين"، كانت في نهاية الأمر نوعاً من كتابة الذات. وهو أمر يمكن لمن يتبحر في الرسائل كما فعل جورج لوبان، أن يستشفه بسهولة.
عائلة أرستقراطية موسرة
ومع ذلك يبقى للمراسلات نكهتها الخاصة، بل نكهة تحمل من الخصائص ما يفوق الوصف بخاصة أن الكاتبة التي ولدت عام 1804 في باريس لعائلة أرستقراطية وحرمت باكراً من أبيها ثم أمها لتربيها جدتها التي أورثتها من الأطيان والأموال ناهيك عن القصر العائلي في نوهان، مما أغناها عن العمل أو حتى العيش على حساب أزواجها وعشاقها المتتابعين، تمكنت حتى من أن تمول أكثر من مطبوعة واحدة مهتمة فيها، أولاً بنشر بعض أجمل رواياتها مثل "بحيرة الشيطان" و"هو وهي" و"إنديانا"، التي كانت في العام 1832 أول رواية توقعها باسم جورج صاند، الذي نحتته من اسم عشيق لها التقته في إيطاليا. جورجيو كان أيضاً واحداً من عشاقها كذلك، وشاركته باسمها الحقيقي في توقيع عدد من الكتب المشتركة قبل ذلك، و"ليليا" و"خطيئة السيد أنطوان" وغيرها من أعمال كانت فاتحة أدب نسوي كبير ستثري تقاليد كتابته من بعدها، ويعرف ازدهاراً كبيراً في فرنسا وغيرها.
مساهمات مالية في القضايا العادلة
غير أن جورج صاند لم تكتف بالكتابة الروائية، بل إننا نجدها وخلال مرحلة مزدهرة من حياتها تكتب العديد من مسرحيات كانت تقدم على الخشبات الباريسية وغيرها بنجاح جماهيري كان يفوق في أحيان كثيرة نجاح رواياتها.
الطريف أنها على الرغم من ثرائها كانت تصر على قبض حقوقها عن كل عمل ينشر لها وعن كل مسرحية تحمل توقيعها، لكنها مقابل ذلك كانت تسهم بسخاء في تمويل التحركات السياسية كثورة العام 1848 وجمهوريتها ومساعي مناضلي كوميونة باريس (1870)، علماً بأنها لم تخف في كتاباتها، لا سيما في بعض مراسلاتها، خيبة أمل مريرة إزاء هاتين المحاولتين الاشتراكيتين واحدة تلو الأخرى.