ثلاث ساعات مرت، ولا يزال أحمد زريق (55 سنة) وأشقاؤه الأربعة بانتظار الجنود الإسرائيليين ليفتحوا البوابة الزراعية لهم، فبعد حرمان دام أكثر من عام لأسباب أمنية غير معروفة، سيحتضن زريق أرضه الواقعة داخل منطقة التماس (بين الخط الأخضر والجدار العازل) ليجني محصوله من شجر الزيتون. وعلى الرغم من أن تصريح الدخول إلى الأرض التي تقدر مساحتها بعشرة آلاف متر مربع، يمنحه عدة ساعات يومياً للقطاف ولأيام محدودة، فإنه يأمل إنجاز المهمة التي باتت صعبة ومرهقة إلى حد بعيد. كيف لا والجنود عند البوابة منعوه من تمرير سيارته وجراره الزراعي، والمعدات الزراعية الضرورية للقطاف، بل ومنعوا عدداً من أفراد عائلته من الدخول لمساعدته، بحجة عدم وجود تصريح.
يقول زريق، "كانت لنا قطعة أرض زراعية كبيرة وقطيع أغنام، وبعد أن تبين لنا أن الأغنام بحاجة إلى تصريح دخول بعناها، واليوم نزرع أشجار الزيتون، وهذا أيضاً غير سهل، فتصريح الدخول لا يشمل الأبناء أو الأحفاد لمساعدتنا، وقد لا نرغب في المخاطرة بزراعة الأرض مرة أخرى، فقد لا نحصل على تصريح للزراعة أو الحصاد. نشعر بكم كبير من الإحباط والألم عندما يتم تفتيشنا عند تلك البوابات التي تفتح مرة أو مرتين في السنة".
مناطق معزولة
بدأت السلطات الإسرائيلية ببناء الجدار العازل على أراضي الضفة الغربية عام 2002، بهدف منع دخول الفلسطينيين إلى المدن والمستوطنات الإسرائيلية، وتنفيذ العمليات الإرهابية، لتعزل بذلك أكثر من 73 ألف فلسطيني يعيشون في 50 قرية، عن أراضيهم الزراعية وحقولهم ومراعيهم التي تقع غربي الجدار، والتي تقدر مساحتها بـ9.4 في المئة من مساحة الضفة الغربية.
وبعد سنة على بناء الجدار، أعلن الجيش الإسرائيلي أن المنطقة الواقعة داخله هي منطقة عسكرية مغلقة، ويتوجب على سكانها من الفلسطينيين الحصول على تصريح "مقيم دائم"، وقيد بشدة دخول الفلسطينيين إلى أراضيهم داخل الجدار. معطيات عام 2020 التي قدمتها الإدارة المدنية الإسرائيلية لمركز الدفاع عن الفرد "هموكيد"، أظهرت أن الجيش الإسرائيلي رفض 73 في المئة من طلبات المزارعين الفلسطينيين لفلاحة أراضيهم في مناطق التماس.
المديرة العامة لـ"هموكيد" جيسيكا مونتيل، تقول إن "نهج الجيش مرفوض، فحق الإنسان مكفول في أرضه لأي سبب كان. يترتب على المزارعين إثبات وجود حاجة للوصول إلى أراضيهم، والأخطر من ذلك أن عليهم الصمود في وجه متاهة بيروقراطية غير متناهية من أجل الحصول على تصريح لهذا الغرض. كان ينبغي منذ وقت طويل تفكيك هذا الجدار المبني داخل الضفة الغربية، وإلغاء نظام التصاريح، ومن المستحسن القيام بذلك في أسرع وقت ممكن".
وتضيف "طالما ظل الجدار قائماً داخل الضفة الغربية، فإنه سيتسبب في خرق حقوق مئات آلاف البشر في التحرك بحرية، فإسرائيل لم تعد تحاول التظاهر بأنها تحتكر حق أصحاب الأراضي الفلسطينيين بالوصول إلى أراضيهم المحتجزة خلف الجدار، بل تنفذ البيروقراطية العسكرية في هذه المناطق باسم الأمن. عملية نهب للأراضي بشكل فعلي".
اعتبارات أمنية
بدورها، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية معظم الالتماسات التي قدمت لها، وعددها أكثر من 150، وتبنت وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية، بأن الجدار مؤقت واعتبارات بنائه أمنية، وقررت أن المس بحقوق الفلسطينيين "لم يكن مفرطاً". وقضت بأن النظام الذي يعتمده الجيش في مراقبة تنقل الفلسطينيين إلى منازلهم أو أراضيهم عبر الجدار اعتماداً على تصاريح خاصة "يحافظ بأكبر قدر ممكن على نسيج حياة الفلسطينيين، كما كانوا يتمتعون بها قبل غلق المنطقة"، وأن الضرر الذي نتج عن اعتماده، كان "متناسباً مع فوائده الأمنية المتمثلة في منع حصول هجمات فلسطينية على الإسرائيليين". كما أكدت المحكمة أن الحكومة الإسرائيلية "تدخل تحسينات على نظام التصاريح، بما في ذلك إلغاء قاعدة كانت تسمح لكل فلسطيني يحمل تصريحاً باستعمال بوابة واحدة من بوابات الجدار".
مدير دائرة العمل الشعبي في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، عبد الله أبو رحمة، رد على ادعاءات المحكمة بالقول، إن "الضرر الذي تدعي المحكمة أنه ليس مفرطاً، ألحق ضرراً بالغاً في مختلف نواحي حياة المزارعين الفلسطينيين، فالجدار الذي يمتد بطول 770 ألف متر (85 في المئة في الضفة الغربية) يوجد فيه 84 بوابة، تسع منها فقط مفتوحة بشكل يومي وعشر تفتح مرة في الأسبوع، فيما بقية البوابات والبالغ عددها 65 تفتح بصورة موسمية. وهي لا تتيح للفلسطينيين حرية التنقل والوصول إلى أراضيهم خلف الجدار، بفعل القيود التي فرضت على إصدار التصاريح، ففي معظم الحالات يتم رفض منحها للمزارعين بحجة المنع الأمني، أو عدم تقديم ما يكفي من المستندات لإثبات ملكية الأرض، أو علاقة القرابة بمالكها. وغالباً ما يتأخر الجنود ويهملون ساعات الافتتاح المقررة ظهراً، ويحرم المزارعون من الوصول إلى الأراضي".
ويضيف "يحظر الجنود على المزارعين تمرير السيارات والجرارات الزراعية والمعدات الزراعية الضرورية الأخرى عبر البوابات، ما لم يحصلوا على تصريح خاص بذلك، ما يمثل انتهاكاً لحق الفلسطينيين في التنقل والوصول إلى حقولهم وممتلكاتهم. وتسمح الإدارة المدنية بإصدار تصاريح لمالكي الأراضي فقط، فيما تمنع دخول أبناء العائلة الموسعة والعمال الزراعيين، إلا ضمن شروط صارمة لا تأخذ في الاعتبار الظروف المتغيرة".
شروط صعبة
عام 2003 وتحت عنوان "الإعلان عن إغلاق منطقة التماس"، أعلنت القوات الإسرائيلية ضم كل الأراضي التي عزلت خلف الجدار إلى إسرائيل (تبلغ مساحتها 184 مليون متر مربع)، لمنع الدخول إليها إلا بتصاريح خاصة تصدر عن القائد العسكري.
وأشارت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أنه نادراً ما تسمح إسرائيل للفلسطينيين بدخول أراضيهم الزراعية على الجانب الآخر من الجدار، وأن رفضها مطالب الحصول على تصاريح دخول اعتمد على معايير بيروقراطية متشددة وليس على أسباب أمنية محددة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول جوك ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، وفق موقعها الإلكتروني، "يمنع نظام التصاريح الفلسطينيين من العمل في أراضيهم من دون مبرر. لقد أبقت المحكمة العليا في إسرائيل على نظام يتسبب في عزل الفلسطينيين عن أراضيهم من دون وجود غاية أمنية متناسبة، حسب ما يقتضي القانون. وبينما تقوم بإجراء فحوص أمنية للفلسطينيين العاملين لدى المستوطنين بشكل سريع، وتسمح لهم بالعبور، تعمد إلى منع الفلسطينيين الراغبين في الوصول إلى أراضيهم في الوقت الذي تتلف فيه محاصيلهم".
من جانبها، أكدت الإدارة المدنية الإسرائيلية (وحدة تنسيق أعمال الحكومة)، عبر صفحة المنسق على "فيسبوك"، أن الجيش الإسرائيلي يعمل على مدى الساعة من أجل وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم، وأن الوجود الدائم للجيش، وأحياناً برفقة الشرطة، في مناطق الاحتكاك يهدف إلى "ضمان الهدوء والاستقرار، وعدم المساس بأي أحد من المزارعين، وضمان عدم وقوع اعتداءات من المستوطنين".
وأعلنت وحدة التنسيق في الضفة الغربية أنها شرعت بداية العام الحالي في إطلاق حملة مركزة لتوزيع البطاقات الممغنطة على سكان مناطق التماس، كنوع من "التسهيلات"، بما يمكنهم من استخدام التصاريح التي يملكونها بكل سهولة في البوابات السريعة.
واحد في المئة
وفق الأرقام الصادرة عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، فإن "أكثر من ثمانية آلاف طلب لاستصدار تصاريح كان قد تقدم بها المزارعون الفلسطينيون للدخول إلى أراضيهم في منطقة التماس، بيد أن 2187 طلباً فقط تمت المصادقة عليها".
وعلى الرغم من أن إسرائيل صرحت مراراً وتكراراً بأن "الاعتبارات الأمنية" هي السبب الوحيد الداعي لمنع دخول المزارعين إلى منطقة التماس، فإن المعطيات التي كشفتها "هموكيد" أظهرت أن أقل من واحد في المئة فقط من الطلبات تم رفضها بدواع أمنية، إذ غالباً ما تكون الأسباب مرتبطة بـ"البيروقراطية"، وتحديداً صعوبة تلبية المتطلبات الصارمة والمتزايدة من قبل سلطات الجيش.
ويؤكد عضو حملة "أوقفوا الجدار" صلاح الخواجا أن نظام التصاريح العسكرية "يعامل جميع الفلسطينيين على أنهم يمثلون تهديداً أمنياً، ويفرض عليهم قيوداً خانقة وغير ضرورية، ويعرض حياتهم إلى الخطر".
ويضيف "تعتمد 37 في المئة من القرى التي يخترقها الجدار (67 قرية ومدينة في الضفة، بما فيها القدس) على الزراعة، وأصبح سكانها من دون مصدر للدخل، فالجدار العازل أضر بالأراضي في مناطق التماس، حيث انخفض إنتاج زيت الزيتون في الضفة الغربية بنحو 22 ألف طن سنوياً، إضافة إلى 50 ألف طن من الفاكهة، و100 ألف طن من الخضراوات. كما منع عشرة آلاف من الماشية من الوصول إلى المراعي خلف الجدار. وأجبرت هذه القيود الكثير من المزارعين على عدم زراعة أرضهم، خوفاً من عدم الحصول على تصريح".
توترات متصاعدة
يذكر أن موسم قطف الزيتون يشهد توترات متصاعدة بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين في أنحاء متفرقة من الضفة الغربية، بخاصة عند مناطق التماس، وغالباً ما تتضمن أحداث عنف وهجمات متفرقة بين الجانبين، كان آخرها في قرية بورين شمال الضفة الغربية، حيث أقدم مستوطنون إسرائيليون يرتدون الزي الديني، على إشعال مساحات شاسعة من أراضي القرية والاعتداء على المزارعين الفلسطينيين فيها، الذين قالوا بدورهم إن الجيش وبدلاً من التصدي للمستوطنين، أطلق قنابل صوتية باتجاههم. لكن الجيش الإسرائيلي قال إن "قوة الدورية الأولى التي وصلت إلى الموقع كانت تتألف من عدد قليل من الجنود الذين انتظروا تعزيزات لتفريق المتورطين في الحادثة، لكن عند وصول التعزيزات، رشق الفلسطينيون الجنود بالحجارة، مما دفعهم إلى الرد باستخدام وسائل للسيطرة على أعمال الشغب".