حيثما تجولت في شوارع باريس وساحاتها هذه الأيام وبالتأكيد حتى بدايات العام المقبل، سيلفت نظرك إعلان معلق على معظم حافلات الباص التي تنقل الركاب بين شتى أحياء العاصمة ومناطقها، إعلان يحمل صورة لامرأة رائعة الجمال يمكن لهواة الفن التشكيلي أن يتعرفوا فيها إلى تلك المرأة البديعة التي تشغل نقطة المركز في لوحة "الربيع" للفنان النهضوي الإيطالي بوتيتشيلي، أما غير هؤلاء الهواة فقد يخيّل إليهم أن في الأمر إعلاناً عن بضاعة استهلاكية. وذلك أن تلك الحافلات الشعبية نادراً ما حملت إعلانات عن معرض تشكيلي. وما يتعلق به الأمر هنا هو بالتحديد إعلان عن معرض من هذا النوع يقام في متحف "جاكمار – أندريه" وسط باريس ويضم أكثر من ثلاثين لوحة تشكل تراث هذا الذي يعتبر واحداً من أكبر فناني النهضة، ولكن أيضاً الفنان الذي عبر بلوحاته الرائعة التي استعارها المعرض من متاحف ومؤسسات وأحياناً مجموعات خاصة، عن موقف فلسفي يمكن ربطه بكل بساطة بالفكر الأفلاطوني الجديد كما برز في فلورنسا، ولا سيما من حول أميرها الدوق لورنزو آل مديتشي المعروف بلورنزو العظيم. ولنسارع هنا إلى القول بأن بلاط هذا الأمير المتنور يبدو من نواح عدة شديد الشبه ببلاط الخليفة العباسي المأمون حتى وإن افتقر هذا الأخير إلى ذلك البعد الفني الذي مثله بوتيتشللي في البلاط الفلورنسي.
زمن المفكرين الإنسانيين
مهما يكن، لا شك أن هذا المعرض الاستعادي للوحات بوتيتشللي، يشكل مناسبة للعودة إلى ذلك المناخ الثقافي الإبداعي النهضوي الذي وجد الفنان نفسه جزءاً منه معبراً عنه بالخطوط والألوان، في لوحات اتسم بعضها بطابع ديني مؤكد واتسم بعضها الآخر بطابع تاريخي وإنساني لا يبعد كثيراً عن أفكار ذلك "الثلاثي" الذي شكله من حول لورنزو مفكرون إنسانيون وتنويريون كانوا من أبرز دعاة الفكر الحر في تلك الأزمنة الخارجة لتوها من العصور الوسطى: مارسيلي فيسان وبيك دي لاميراندولا وآنجلو بولسيانو من الذين خلدهم تاريخ الثقافة والفكر بوصفهم أفلاطونيين جدداً، وبخاصة من خلال محاولاتهم البديعة لإعادة "تمثيل" كتاب أفلاطون "المأدبة" في جلسات بالغة الجدية، وقد وزعوا حواراته في ما بينهم مركزين خاصة على النصوص المتعلقة بالحب والعلاقات الإنسانية فيه. والحقيقة أن هذا الاهتمام بأفلاطون و"مأدبته" لم يكن من قبيل الصدفة. ففي ذلك الحين كان مارسيل فيسان قد أنجز ترجمته إلى اللاتينية لحوارات أفلاطون الستة والثلاثين التي كان قد حصل على نصوصها في مخطوط قديم أهداه له لورنزو نفسه. واللافت أن الطبعة الأولى من تلك الترجمة التي شغلت ألوف الصفحات نفذت بنسخها الـ1000 ونيّف خلال فترة يسيرة من الزمن في وقت كان الكتاب الأكثر مبيعاً لا يطبع سوى 400 نسخة. كان زمناً نهضوياً بامتياز زمن لورنزو آلا مديتشي.
الفيلسوف نجماً والفكر ينفتح على الآخر
وكان فيسان من نجوم ذلك الزمن الكبار في نقله للفكر الأفلاطوني والسجال حوله مع الدوق في بلاطه حيث تأسست تلك الأكاديمية الجديدة التي سميت بـ"أكاديمية أثينا الجديدة". وإلى جانب فيسان كان هناك بشكل خاص دي لامير أندولا الذي اشتهر بإتقانه ما لا يقل عن سبع لغات بينها اليونانية والعبرية والعربية. وكان مطلعاً على الفلسفات العربية الآتية من الأندلس وعلى نتاجات الرشدية الأوروبية فأضاف إلى الأكاديمية الأثينية الجديدة التي عرفه فيسان إلى أقطابها، قدراً كبيراً من جديد الفكر العربي الذي كان يهتم بأفلاطون قدر اهتمامه بأرسطو، من دون أن ننسى هنا الجهود الجبارة التي بذلها فيسان نفسه للتعريف بالفكر اللاهوتي الإسلامي وترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية منطلقاً من ضرورة الانفتاح على الأديان التوحيدية الأخرى إلى جانب الانفتاح على الفكر اليوناني والفكر اللاتيني لدى الأوائل. ويقيناً أن هذا كله جعل من تلك الأكاديمية الجديدة مثالاً للانفتاح على الآخر كما مثالاً لكوزموبوليتية جديدة تنضم إلى عصر النهضة من موقع القوة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بالنسبة إلى موضوعنا: أين ساندرو بوتيتشيلي من ذلك كله؟ وما كان دور الفن في الفكر الجديد كما عبر عنه مفكرون كبار متحلقون من حول ذلك الحاكم المتنور؟
من الكوميديا الإلهية إلى النهضة
كان بوتيتشللي واحداً من الفنانين الكبار الذين واكبوا ذلك التحرك أولاً من خلال اهتمامه بوضع عشرات الرسوم لكتاب دانتي النهضوي المؤسس "الكوميديا الإيطالية" كما بخاصة من خلال رصده وإدماج العديد من شخصياته في لوحاته، وكان هؤلاء الفنانون النهضويون الكبار يحملون أسماء سابقة على بوتيتشللي وبعضهم مثل غيرلاندايو وفانيني وحتى فيروكيو معلمه المباشر وفازاري الذي أرخ لهم جميعاً وإن بقليل من الموضوعية غالباً، كانوا أسلافاً كباراً له في نهضويته حتى وإن عرفوا كيف يوازنون بين اللوحات الدينية واللوحات الإنسانية ذات البعد النهضوي الواضح، وهي على أية حال ممارسة سار هو على خطاها بوضوح جاعلاً سمات فنانين ومفكرين نهضويين يعكسون في أفكارهم وحواراتهم ما كان يشكل جوهر الفكر السقراطي – الأفلاطوني. وهكذا مثلاً نلاحظ كيف أنه في واحدة من أعظم لوحاته الدينية وهي "عبادة ملوك المجوس" (1470 – 1475) يحرص على أن يتخذ عدد من أبرز الحضور في اللوحة سمات الفلاسفة والمفكرين وهم محيطون بلورنزو؛ وهو نفس ما سوف يفعله بعد ذلك بعشر سنوات تقريباً، حين يجمع في لوحته "معجزة التطويب" الثلاثة الكبار في الأفلاطونية الجديدة، ميراندولا وفيسان وأنجيلو بوليسيانو في وقفة واحدة ما يدل على تبنيه التام لأفكارهم.
ربيع إغريقي وفينوس معاصرة
فإذا كان بوتيتشللي قد أدخل هذا البعد الأفلاطوني، من خلال أساطينه في ما لا يقل عن لوحتين "دينيتي" كبيرتين من لوحاته، كيف تراه عبر عن انتمائه هذا في لوحات دنيوية يُنظر إليها اليوم بوصفها المنعطف الذي حدث لديه في خط الفصل فيها بين الدين والدنيا؟ للإجابة عن هذا السؤال الهام، يمكننا بالطبع أن نتوقف عند لوحاته التي تعتبر أعماله الأساسية، جمالياً وفكرياً في الوقت نفسه، ولا سيما منها لوحتاه الكبيرتان "الربيع" و"مولد فينوس". ففي لوحة "الربيع" مثلاً وهي لوحة جمع فيها بين مشهد مقتبس من نصّ لأوفيد وبين تصوير موديل ليست في حقيقة أمرها سوى سيمونيتا فسبوتشي التي كانت الحب الأكبر في حياة جوليان آل مديتشي وريث لورنزو، فضمها الفنان إلى مخزونه الدنيوي بكل بساطة رمزاً للحب والجمال. أما في لوحة "مولد فينوس" فقد استخدم ملامحها كذلك وبشكل أكثر جرأة للتعبير عن ملامح إلهة الحب الإغريقية غير مبال بالتفاوت بين الاحتشام الذي ينبغي أن تكون عليه تلك التي اشتهرب بكونها "إبنة الكنيسة" والعري في اللوحة الذي أصر عليه هو الذي كان همه الجمع على أية حال بين البعد الديني المسيحي في تلك المرحلة النهضوية، وبين الدنيوية، بل حتى الوثنية الإغريقية. ومن الجليّ هنا أن هذا التعبير الجامع إنما كان رسالة فصيحة من فنان تشرب الفكر الأفلاطوني وشارك سجالاً كما رسماً وتجديداً فيه، وبخاصة في تلك السجالات التي ذكرنا أعلاه كيف كانت لفترة موضوعاً مفضلاً لدى الأفلاطونيين الجدد مستندين في السجال من حوله إلى "مهابة" معلمهم الفيلسوف الإغريقي الكبير وتحت رعاية صديقهم وراعيهم الحاكم الفلورنسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مداولات طويلة لمعرض جامع
من الواضح هنا من خلال تركيزنا المختصر على السمات الفكرية والجمالية الأساسية لساندرو بوتيتشللي وفنه النهضوي الإنساني الكبير، إننا إنما نعكس هذه العودة الباريسية الجديدة إلى فن كان يستحق دائماً مزيداً من الاهتمام وليس فقط نوعاً من وقفة استعادية مرة كل عقد أو حتى كل جيل، تتاح فقط في كل مرة يتمكن فيها منظمو معرض جديد يضم الباقي لدينا حتى اليوم من متن فني كبير يعيش مشتتاً بين العديد من المدن والمعارض. ولعل من شأننا أن نلاحظ اليوم كيف أن هذا المعرض الجديد لأعمال صاحب "الربيع" و"مولد فينوس" وما نتج منه من صدور عدد كبير من كتب رائعة عن الفنان، لم يكن ممكناً إلا بفضل مداولات دارت طويلاً بين متاحف ومدن ومؤسسات أخرى وبعض مالكي لوحاته من أثرياء يحتفظون بها كالجواهر الثمينة، وكيف لا يفعلون ونحن نعرف أن واحدة من لوحاته وهي "بورتريه شاب" قد بيعت أوائل هذا العام نفسه مقابل أكثر من 92 مليون دولار بينما كانت تساوي قبل 40 عاماً ما يزيد قليلاً على 3.1 مليون دولار لا أكثر!