جريمة مخيفة ارتعدت لها فرائص التونسيين أخيراً في منطقة باردو بالعاصمة تونس، حيث عثر على جثث أربعة أشخاص من عائلة واحدة قتلوا على يد الابن، كما خلفت جريمة قتل أخرى راحت ضحيتها امرأة بعد أن أطلق عليها زوجها وهو عنصر أمن النار بسلاحه المهني، موجة احتقان لدى الجمعيات والمنظمات.
واهتز الرأي العام في تونس بسبب جرائم تهدد كيان الأسر التونسية قتل ضحاياها على يد أحد أفراد عائلتهم، رجل يقتل زوجته وابنه الرضيع، وآخر يقتل ابنته، وأم تقتل رضيعها، وشاب في مقتبل العمر يقتل كامل أفراد عائلته. كلها قضايا وضعت الإجرام العائلي على طاولة المهتمين بالشأن المجتمعي في تونس، وأخذت من اهتمام المجتمع المدني، الذي ما انفك يطلق صيحات الخوف أمام انتشار وتيرة العنف بكل أنواعه خلال السنوات الأخيرة.
ولاحظت وزارة المرأة والأسرة في بيان أصدرته عقب إحدى القضايا "أن العنف الأسري قد بلغ أقصاه وارتقى إلى الصبغة الإجرامية الخطيرة بالإقدام على إزهاق روح بشرية".
ونشرت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أخيراً تقريراً تناول النساء ضحايا العنف وأغلبهن من طرف أزواجهن، وقد أتت نتائجه "مفزعة" في الأشهر التسعة الممتدة من يناير (كانون الثاني) 2020 إلى سبتمبر (أيلول) من العام نفسه. وقد سجلت الجمعية لجوء نحو 850 ضحية عنف إليها، مشيرة إلى أن العدد تزايد مقارنة بالعام السابق.
غياب مشروع مجتمعي
وفي هذا الصدد يقول المتخصص في علم الاجتماع محمد الجويلي "نحن في أزمة مجتمع بسبب غياب مشروع مجتمعي يضم الناس حوله"، موضحاً في تصريح خاص "غياب هذا المشروع يجعل الناس في ضياع، كل فرد من الأسرة يعيش مع مشاكله الخاصة، هذا يخلق أجواء من التوتر وفقدان الثقة في الحاضر والمستقبل، فبالتالي كل فرد يتصرف ويرد الفعل على طريقته، إلى أن نصل إلى حدود الجريمة والقتل وهذا تعبير على أن المجتمع في أزمة متمثلة أساساً في غياب المشروع المجتمعي الذي تحدثنا عنه سابقاً". ويضيف "هذا المشروع يجب أن يضم الجوانب الاقتصادية ومحاربة البطالة، وأيضاً يضم إصلاح المنظومات الصحية والتربوية والإدارية والقضائية".
وقال "الشعور بالقلق والخوف يبدأ داخل العائلة، أي من المحيط القريب ثم يخرج إلى المحيط الخارجي". وعن انتشار الجرائم وسط العائلة يقول الجويلي "العائلة أصبحت عبارة عن مشاريع مختلفة، كل فرد منها لديه طريقه الخاص، لا وجود لهدف جماعي يضم أفراد العائلة الواحدة، وكل فرد قد يرى في الآخر عقبة قد تعرقل طريقه".
إذاً لم تعد العائلة حسب القراءة "السوسيولوجية" للجويلي "ذلك المحيط المتضامن، بل أصبحت تمثل مشاريع مختلفة وبالتالي من الممكن نشوء أي خلاف بين أفرادها ويمكن أن يتطور إلى العنف وإلى الجريمة، فيمكن لفرد من العائلة إذا غاب عنها التضامن والوحدة أن يرتكب جرماً بمجرد وقوف فرد آخر في طريقه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جو عام يغذي الجريمة
يقسم الأستاذ إبراهيم ريحاني، المتخصص في مجال الطفولة والأسرة، مستشار قاضي أطفال بالمحاكم التونسية، أسباب انتشار الجرائم العائلية إلى أسباب اجتماعية وأخرى نفسية وحتى قانونية واقتصادية. ويقول "من أهم العوامل الاجتماعية هي هشاشة الضوابط الأسرية، فالعائلة أصبحت تعيش في عزلة بحكم العولمة"، مفسراً "كل واحد من العناصر يعيش في عالمه الافتراضي من خلال الشاشات الإلكترونية، وبالتالي تقل مساحات التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة وتتقلص تلك العواطف والروابط الأسرية التي تجمعهم".
أما عن انتشار العنف والإجرام وسط بعض العائلات التونسية يرى الريحاني أن "الجو العام في تونس يغذي الإجرام، فاليوم أصبحنا نتحدث عن ثقافة العنف التي نجدها في كل مكان وعند الأغلبية وبالتالي أصبحت سلوكاً تواصلياً". مضيفاً "هذه الثقافة تبرز من خلال الإعلام وحتى لعب الأطفال، فأصبح العنف هو المغذي لإثبات الذات وإبرازها في غياب الوسائل التعبيرية الأخرى التي كانت منتشرة في المجتمع كدور الثقافة والنشاطات الفنية والثقافية والرياضية".
وأكد "كل هذه العوامل تجعل الطفل أو الشاب يفقد المناعة الذاتية التي يمكن أن يكتسبها من خلال الأسرة المتلاحمة التي تعتمد الحوار، وأيضاً من خلال محيط تربوي متكامل فيه التثقيف والتعليم وصقل المواهب".
ويرى الريحاني من خلاله مقاربة مجتمعية بأن "كل فرد في الأسرة لديه طاقة من العنف تخرج أحياناً بطريقة مبالغ فيها، مما يجعل الفرد يستنكر ما فعله كأنه كان تحت تأثير شيء ما، وحتى من ارتكب جريمة بعد ارتكابها يستنكر ما فعله ويسأل نفسه كيف فعلت هذا؟" ويفسر الريحاني هذا "بسبب انعدام الضبط النفسي والذاتي".
ويرجع انتشار الجرائم بكل أنواعها بخاصة داخل العائلة إلى "انتشار المخدرات خصوصاً في المحيط المدرسي، إذ بلغت نسبة الطلبة الذين يتعاطون مواد مخدرة نحو تسعة في المئة وهي نسبة مرتفعة جداً"، بحسب تعبيره، و"أيضاً انتشارها حتى داخل الأسر وهذا يفسر ارتفاع العنف والجريمة أحياناً".
من الأسباب الأخرى المهمة يقول الريحاني "الاعتداءات الجنسية داخل العائلة التي لا يتم معالجتها نفسياً، بخاصة ضد الأطفال، والتي تخلق مشاكل نفسية لديهم فتكون ردة فعلهم قوية جداً تصل حد الإجرام في حق حتى أقرب الناس إليهم، فأغلب المجرمين وقع الاعتداء عليهم جنسياً منذ الطفولة".
وينتقد الريحاني الدولة التي تناولت الظاهرة من خلال مقاربة تشريعية ولم تحاول معالجتها بواسطة مقاربة ثقافية وتربوية.
جدير بالذكر أن الترسانة التشريعية في تونس تضم قوانين رادعة ضد العنف تم تعديلها بعد الثورة، يعتبرها حقوقيون بأنها قوانين ثورية تضمن حقوق المعتدى عليه.