لعل صدور كتاب جديد لأحد الفائزين بجائزة نوبل للأدب يعد حدثاً عالمياً تحتفي به كبريات الصحف في العالم، وكذلك القراء، الذين ينتظرون الصدفة في عثور أحد ما على مخطوطات لكاتبهم المفضل بعد رحيله. الكتاب الصادر حديثاً عن دار "هانزر" الألمانية الشهيرة للروائية والقاصة والشاعرة الألمانية هيرتا مولر (ولدت في رومانيا في عام 1953)، يدخل ضمن هذا الإطار، بسبب مكانة مولر التي نالت جائزة نوبل في الأدب في عام 2009، إضافة إلى نيلها أكثر من 30 جائزة أدبية، وترجمة الكثير من أعمالها إلى كثير من لغات العالم، ومنها العربية.
كولاج سردي
كما في كتابها السابق "في الحنين إلى مسقط الرأس توجد قاعة زرقاء"، الذي لم يكن رواية أو قصة، بل عبارة عن كولاج شعري، يأتي كتابها الجديد "قال الموظف الحكومي" أشبه بكولاج قصصي، وليس مجرد قصص كما ظهر على غلاف الكتاب. وعلى الرغم من أن هذين الجنسين يبدوان بعيدين عن محتويات الكتاب، فالقارئ يتحير في أي خانة يصنفه.
بدأت فكرة هذا الكتاب، وبقية الكتب التي اشتغلت عليها مولر سابقاً بهذه الطريقة وبلغ عددها 13 كتاباً، من خلال المقدمة التي وضعتها لكتابها السابق، وشرحت خلالها شغفها بهذا النوع الفني من الكتابة والتأليف. فهي كانت تقص الصور من الجرائد والمجلات، وتقص كذلك الكلمات، ولكن الكلمات الملونة، والتي كتبت بأنماط خط مختلفة، وبأحجام مختلفة، مثل كلمات الإعلانات. وصارت تلصق على كل بطاقة صورة وتلصق عدة كلمات في البطاقة ذاتها، ما يجعلها تحصل على لوحة مع "شذرة حكائية"، إذا جاز التعبير، أو قصة قصيرة جداً. هكذا يحصل المرء على كولاج قصصي فني مختلف عن المألوف.
كانت مولر تريد مراسلة أصدقائها في رومانيا، بعد أن اضطرت للهرب منها إلى ألمانيا في عام 1987، لكنها كانت تجد البطاقات العادية والتذكارية، التي تبيعها المكتبات ومراكز البريد، مملة و"حمقاء" ولا تحمل أي إبداع فني، لذلك فكرت في أن تصنع هذه البطاقات بنفسها. تقول مولر: "بعد فترة وجيزة من خروجي من رومانيا، قضيت الكثير من الأوقات مسافرة، ولطالما رغبت في أن أتواصل مع أصدقائي، بحثت في الأماكن، التي وُجدتُ فيها، عن بطاقات بريدية، ولكن كانت مكتوبة فوق "الكروت" السوداء والبيضاء تلك أقوال حمقاء، أرادوها أن تكون مضحكة. أما البطاقات التذكارية المصورة فكانت تحمل ألواناً بشعة وعاقة. وهكذا كانت السماء فوق جميعنا بلون أزرق سميك. وجميع الأشجار لونت بأخضر سميك، وأسقف البيوت كانت بأحمر سميك".
إنها تجربة فنية وتجريبية مثيرة هذه التي قامت بها مولر من خلال صناعة هذه الكتب ونشرها، ولكن هذه التجربة ليست حرة تماماً، بل هناك قيود قيدت الكاتبة نفسها بها، فعليها أن تختار صوراً معينة، ثم كلمات معينة، حتى لو كانت آلاف الكلمات، لكي تكتب مقطعاً شعرياً أو نثرياً على شكل بطاقة بريدية. وهنا الأمر يبدو تأليفاً، وليس سرداً أو تدفقاً ذاتياً. وتأتي الكلمات هنا من خارج الكاتب، وليس من داخله ولا إلهامه. الإلهام تصنعه الكلمات الجاهزة الموضوعة على الطاولة، وليس التي يصنعها دماغ الكاتب وإحساسه وعاطفته، لذلك لا بد أن تجتاح السوريالية نصوص هذا الكتاب، وكذلك الغموض الذي تصنعه كلمات قد لا يكون مكانها مريحاً بجانب كلمات أخرى تأخذ أشكالاً وألواناً مختلفة.
طعم مختلف
تلك الكلمات التي قصتها مولر تبدو متنافرة للوهلة الأولى، لأن كل كلمة كتبت بشكل مختلف عن الكلمة التي تسبقها أو التي تليها. وكل كلمة لها لون مختلف أيضاً. هذان الاختلافان، في الشكل واللون، يعطيان انطباعاً فنياً للقطعة التي جمعت من أجلها هذه الكلمات، والتي من الممكن أن تستخدم في مكان آخر، يخالف وجودها في الفقرة الأولى، ولكنها مع ذلك لا تعطي طعماً مختلفاً. إذا تبدو الكلمات مقصوصة وباردة، بينما الجمل الطويلة تبدو في النهاية ذات طعم خاص ومختلف.
في يوم ما، تقول صاحبة رواية "أرجوحة النفس"، في هذا الصدد:" اشتريت بطاقة فهرسة وقلم صمغ وبدأت في القطار، أو في الطائرة عندما كان يسمح للمرء أن يأخذ معه مقص أظافر، بقص صور وكلمات من الجريدة. على بطاقة ما ألصقت الصورة مع عدة كلمات: الكلمة العنيدة إذاً، أو ملمس الشهوة عندما يوجد مكان حقيقي، أو النشالون الذين هم أنا".
"إنها ألاعيب"، تكمل صاحبة رواية "الملك ينحني ليقتل". وتضيف: "كنت مندهشة، لأن كلمات وحيدة كانت تستطيع أن تحكي حكاية، ولأن بضع كلمات تستطيع أن تؤلف ذلك الغموض، وذلك لأن القليل من كل نوع يوحي بقصة سرعان ما تتابع جريانها. لاحظت ذلك حينها، فالقصص لم تكن على البطاقة أصلاً. مع الوقت صارت النصوص دائماً أطول، تشكلت قصص من ألوان وخطوط مختلفة. في كل مكان".
عرض مسرحي للكلمات
بدأت مولر هذه الإصدارات من الكولاجات منذ عام 1987 مع نصوص ضمن كتاب حمل عنوان "حلية الحياة الباردة". "كانت الكلمات تنتظر"، تقول، كان يجب على فقط قصها. كانت تنتظرني خارج نفسي، لم يتوجب عليّ، كما في الكتابة، البحث عنها في رأسي".
كانت النصوص ترن، لأن الألوان المختلفة للكلمات كانت تطن، وتعطي الكاتبة أحجاماً مختلفة وأصواتاً مختلفة. على كل بطاقة كان النص يصعد مع الصورة، كما لو أنها تصعد خشبة المسرح. كل بطاقة صنعت عرضها الصغير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا، صارت مولر تقص الكلمات والصور في البيت أيضاً، ومع تتالي هذا النوع من الإصدارات، يمكن توقع وجود خزانة في جوارير كثيرة خاصة بالكلمات في بيت هيرتا مولر. في كل مرة تقرر فيها اللعب مع كلماتها، وتذوق أو تأليف جمل أو قصص أو شذرات شعرية، تذهب إلى خزانتها تلك وتبدأ بـ"تأليف" نص جديد، من خلال "لصق" وربط كلمات كانت غافية، وربما ميتة، قبل ذلك في أحد الأدراج.
هناك أسئلة عدة يمكن طرحها عن ماهية هذا الكتاب، الذي جاء في أكثر من 150 صفحة من القطع الكبير، وكذلك عن شعور الكاتبة نفسها وهي تستخدم مقصاً وقلماً وصحفاً ومجلات وبطاقات فارغة بدلاً من أوراق فارغة وكلمات تتجول وتتصارع في الرأس. العلاقة مع المفردات بين تذوقها من خلال التجربة الداخلية الشخصية ورؤيتها على الطاولة، ومحاولة إيجاد حياة جديدة لها. وكذلك عن ميكانيكية الكتابة كمهنة، وليس كإلهام خاص.
مختارات من الكتاب
"في بعض الأحيان أفتقد نفسي. وغالباً ما يشعرني بالعيش، بشكل غير متوقع، ذلك الأثاث الأكثر غرابة في مقصورة قطار".
"كان الضباب عند الزاوية مثل رافعة كبيرة من القطن. ذهبت خلاله، وسألته، إذا كان بإمكانه رفع الشارع للأعلى. لا. قال لي. وبعدها فعل ذلك".
"المساءات جاءت مبكرة أمام المقهى. زَهَت القناديل في المكان، مثل أضاليا بيضاء في الثلج".
"حدث مرة، عندما كنت أعاني الحزن لفترة طويلة، أن قفز غزال من فنجان القهوة. منذ ذلك الحين لم آخذ أبداً فنجاناً أبيض اللون".
"حلمت أن أمي تضع الحقيبة وتقول: انظري. جلبت معي الأيام القصيرة والانتظارات الطويلة. خلال الثلج تبدو الشمس مثل قرص نحاس مصفر، والليل مثل القطران. أنا لا أقول هراءً، مع أن الحقيبة فارغة بالفعل".
"حول قمة الفنار تدلى خيط. سحابة رقيقة وسوداء".
"في المطعم جلست وحيدة. على الطاولة عكس الحساء حيواناً يشرب الحساء. أنصت لابتلاعي جرعات الحساء، وتملكه الخوف مني".