في روح الوداعة الفائقة التي وسمت كيانه كله، غادر الفيلسوف اللبناني بولس الخوري الوجود التاريخي المنظور هذا، وانتقل إلى وجود آخر لم يكن يهوى التحري عن قوامه وهيئته ونظامه ومداه الكوني. كان في سيرته وأخلاقه وفكره وإنتاجه الفلسفي من صفوة أرباب الإبداع ونخبة العلم الرصين، ومن الفلاسفة العرب النادرين الذين لا يدنسون قلمهم ولا يلوثونه بالشوائب الانحيازية والمبايعات الأيديولوجية. عاش فقيراً ومات فقيراً، إذ زهد في المناصب والمجالس، فأغنى حياته بثراء فكره وعشق طلابه ومريديه، ذلك بأن أثمن ما كان يحتضنه في وعيه حريته الذاتية الأصيلة التي كان يذود عنها ذود الأبرار الأطهار، وفي يقينه أن الإنسان إما أن يكون حراً وإما ألا يكون إنساناً على الإطلاق، لذلك وقف ذاته على خدمة الفكر الإنساني الحر الذي يمنحنا القدرة على ابتكار أنماط جديدة من الوجود تلائم عمق التوق الإنساني الناشب في عمق كياننا، يحثنا باستمرار على تطلب المطلق في كل أمر وكل مسعى وكل إنجاز.
100 سنة
بولس الخوري (1921-2021) فيلسوف لبناني نسيج وحده، ابتنى عمارة فلسفية بهية الهندسة شديدة المتانة المضمونية. إنه من مواليد قرية وادعة في جنوب لبنان اسمها ديردغيا (قضاء صور) أنجبت للبنان كوكبة من أخيار النساء والرجال، وما لبث معظم أهلها أن ارتحلوا عنها جراء الإهمال الإداري واحتدام الأوضاع في الحرب اللبنانية. على تعاقب سنواته الـ 100، عاصر بولس الخوري جميع الوضعيات السياسية والثقافية الحديثة والمعاصرة، اللبنانية والعربية، وجميع أصناف الأنظمة والأيديولوجيات والتيارات والمذاهب. نشأ في بيئة مسيحية متدينة فدرس اللاهوت والفلسفة في بيروت والقدس وروما وباريس ولايدن (هولندا)، وما لبث أن انحاز إلى الفلسفة انحيازاً رهبانياً. نذر حياته كلها في سبيل خدمة الفكر الفلسفي الحر المتطلب المنفتح الجريء. في تعليمه الجامعي، سواء في الجامعات اللبنانية (جامعة القديس يوسف - بيروت، جامعة الروح القدس - الكسليك، معهد القديس بولس للفلسفة واللاهوت - حريصا) أو الأوروبية (معهد العلوم الدينية جامعة بولونيا بإيطاليا، مركز الدراسات العربية والإسلامية جامعة منستر بألمانيا، قسم الدراسات الشرقية الإسلامية - جامعة هايدلبرغ بألمانيا)، كان شديد الحرص على بث روح السؤال الفلسفي المربك، واستثارة الشك الخلاصي في العقول والنفوس.
أكب بولس الخوري في أبحاثه يستكشف وضعية الاختبار الإنساني الأعمق، ويستنطق معنى السعي الفلسفي الأصدق، ويستجلي واقع الثقافة العربية في صميم مطلبها. في الحقول المعرفية الثلاثة هذه أنشأ عشرات الكتب باللغتين الفرنسية والعربية، نشرت في لبنان وفرنسا وألمانيا. ومن المحزن أن فلسفته ما برحت رهينة الكتب التي نشرها وأسيرة النخبة التي صاحبته وأدركت فرادة فكره وأصالة حدسه ونبوغ إسهامه. قل من اطلع على نتاجه الفلسفي في العالم العربي، مع أن الأوساط الجامعية والثقافية اللبنانية كرمته غير مرة، ونشرت عنه دراسات في لبنان وأوروبا، وأعدت أطروحات دكتوراه في فكره، آخرها أطروحة ما فتئت في طور الإنجاز تعدها في جامعة غوتنغن الباحثة الألمانية كاتا موزر (Kata Moser) التي اضطلعت أيضاً بكتابة سيرته الفلسفية في الموسوعة الفلسفية الألمانية التي تتناول في أربعة مجلدات ضخمة تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي منذ القرن السابع حتى اليوم، والتي يشرف عليها أورليش رودولف (Ulrich Rudolph) في جامعة زيوريخ بسويسرا (Grundriss der Geschichte der Philosophie. Philosophie in der islamischen Welt).
الفلسفة اعتراف بالواقع وقدرة على تجاوز محدوديته
ينطوي فكر بولس الخوري الفلسفي على واقعية نقدية تنطلق من تحليل الرغبة المتوثبة على الدوام في صميم كيان الإنسان، فالإنسان يرغب في الحصول على مبتغاه ولكنه لا يلبث أن يضجر من مرغوبه المتحقق، فيلفي نفسه راغباً في مرغوب آخر يتخطى ما سبق فحصل عليه. استناداً إلى الظمأ الكينوني هذا، ينظر بولس الخوري في العلاقة الجدلية الناشطة بين الواقع القائم والمعنى المنشود.
في كتابه الذي نشر في باريس في طبعة ثانية سنة 2007 (Le fait et le sens. Esquisse d’une philosophie de la déception)، يذهب إلى أن الإنسان لا يرضى على الإطلاق بما يفوز به من مرغوبات وجوده ومبتغياته، لذلك لا بد من السؤال عن أصل التجاوز الدائم الناشب في أعماق الرغبة الإنسانية. كيف للإنسان أن يظل على التطلب المفتوح في الحاجة إلى تحقيق ذاته؟ ما الصورة الإنجازية الأكمل التي تجعله يشعر بطمأنينة الفوز بالمعنى الكينوني الوجودي الأقصى؟ هل يجوز للإنسان أن يرغب في الملء الأونطولوجي، وقد تصوره كمالاً في الوجود وخلوداً في الحياة وأصالةً في المعنى وفيضاً في السعادة، على صورة المحرك الأول المنتصب فعلاً محضاً متحققاً في جميع قابلياته المنطوية فيه؟
يبدو أن الجواب الفلسفي لا يستطيع أن يتخطى عتبة المحدودية التاريخية التي فطر عليها الإنسان، ذلك بأن الوجود الإنساني برمته مجبول على الاستثارة الذاتية التي تدفع بنا إلى تجاوز وضعيتنا المتحققة بمعزل عن درجات الإنجاز المادي والجسدي والنفسي والعقلي والروحي، على المستوى الفردي والجماعي.
في الموضع التحليلي الدقيق هذا يباغت بولس الخوري خلفيات المطلق الذي يحار الناس في طبيعته وطبائعه. إذا أراد المرء أن يعرف الواقع قال بإنه محصول ما تنجزه الرغبة في تضاعيف الزمان الإنساني، في حين أن المعنى هو القطب التجاوزي الذي يجعل الإنسان لا يهنأ بأي ضرب من ضروب الإنجاز والتحقق والاكتمال، وعليه كان المعنى طاقة التجاوز التي تستثير في الإنسان الرغبة في تطلب أقصى ما يقوى على تصوره. لا سبيل إلى مداواة المحدودية الإنسانية هذه إلا بانتهاج سبيل من السبيلين، إما الإصرار على الرغبة في ما يتجاوز كل رغبة، وإما إماتة الرغبة والركون إلى السكينة الكيانية الوادعة. من استحالة إشباع الرغبة في التطلب الوجودي المطلق يمضي بولس الخوري إلى اعتماد تعريف للإنسان يضعه بين اللاهوت والناسوت. إنه الأنتروبوس (anthropos) الذي يحمل في كيانه مقصد المطلق من غير أن يسقط في محنة اختزال الإنسان الراغب في الإنسان المتحقق التاريخي، أو في محنة توريط الإنسان الراغب في الإنسان اللاتاريخي.
يسمي بولس الخوري محنة الاختزال الأولى الإسراف الإنسانوي، ومحنة الرد الثانية الغلو اللاهوتاني، لذلك يختار السبيل الأنثروبولوجي الذي يحفظ للإنسان قدرته على الانعتاق من أسر الذات المتحققة، ويحفظ الإنسان من محنة السقوط في تمجيد الذات المتعالية. في الكتابين اللذين نشرهما بالفرنسية "الانسداد المعرفي" (Aporétique) و"لعبة الحياة" (Le jeu de la vie)، ينظر الخوري في جوهر المطلق الذي يليق بكرامة الإنسان الأنتروبوس، فيعاينه على صورة الاقتضاء التجاوزي المطرد، ويستحث الإنسان على تحرير ذاتيته من جميع أصناف العبوديات التاريخية، ما خلا محدودية الانتساب إلى حراك الزمان. غير أن الزمان يحتضن طاقات التوثب العظيمة التي ينطوي عليها وعي الكائن الإنساني، فيضحي منفسحاً رحباً لجميع ألوان الابتكارات الوجودية والابتداعات الفكرية والاختلاقات الجمالية.
مصالحة التراث العربي مع الحداثة الغربية
في إثر الاجتهاد الأنثروبولوجي الاتضاعي هذا، يعود بولس الخوري إلى التأمل في واقع العالم العربي، وقد أنشأ فيه بضعاً من الدراسات غدت مرجعاً أساساً من مراجع دراسة الفكر العربي. أذكر منها كتاب "العالم العربي والتحول الاجتماعي الثقافي" (شركة المطبوعات والتوزيع والنشر، بيروت، 2007)، وثلاثية "الإسلام والغرب" الصادرة باللغة الفرنسية (1994-1996)، وموسوعته الفريدة "التراث والحداثة" التي استعرض فيها بالتحليل والنقد والتقويم معظم ما أفرزه الفكر العربي المعاصر في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ 20، وعلاوة على الجهد البحثي الاستثنائي هذا، تحرى الخوري عن كل ما قاله المسيحيون والمسلمون في حواراتهم اللاهوتية في القرون الوسطى بين القرنين الثامن والـ 12 عشر، فنشر خلاصات هذه المجادلات في 20 مجلداً حلل فيها أبرز المفاهيم المستخدمة والبراهين المستثمرة والأدلة المسوقة. لا شك في أن أبرز ما أتى به الخوري في الدراسات الثمينة هذه القول بإمكان التوفيق الفعلي بين التراث والحداثة في نطاق الاجتماع العربي والثقافة العربية والفكر العربي، بيد أن حدسه الفتاح في هذه الأطروحة ما زال مجهولاً جراء الإهمال الظالم.
أختصر نظريته الجديدة بالقول إن جوهر التراث العربي قريب من مضمون الحداثة، إذ إن التراث في عمق مطلبه اعتراف بالتسامي والتعالي وسعي إلى الأصالة، والحداثة في صميم مسعاها نقد وتقويم وابتكار. والحال أن النظر الفطن يستطيع أن يستخرج من التراث جوهره الصافي ومن الحداثة مضمونها الحق، فيجمع بينهما بواسطة مقولة التجاوز المتطلب، ذلك بأن جوهر التراث العربي اعتراف بتجاوز كل الممكنات التاريخية، ومضمون الحداثة إقرار بتجاوز كل المنجزات المتحققة والأنظومات المشيدة والعمارات المغلقة. ومن ثم فإن مقولة التجاوز تستطيع أن تصالح التراث العربي، وقد أدركه الإنسان إدراكاً جوهريا يستصفي منه عمق مطلبه، والحداثة الغربية، وقد اعتمدها العقل سبيلاً آمناً من التحوط الفطن والاستبصار الناقد والابتكار المتجدد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا السياق يستحضر الخوري ما قاله الفيلسوف واللاهوتي الألماني الوسيطي نيقولاوس الكوزاني (1401-1464) من ضرورة تلاقي الأضداد (coincidentia oppositorum) في مسار التطور الحضاري العالمي، فالحضارات تتلاقى على قدر ما تقبل بنسبية تصوراتها وتعترف بحاجتها إلى نقيضها الذي ينير جوانب شتى من عمارتها الفكرية الذاتية، فيكملها ويغنيها ويجملها. من المؤسف أن تظل النظرية الفذة هذه أسيرة الاجتهاد الفردي الذي أفرجت عنها كتابات بولس الخوري.
تناول شيخ الفلاسفة اللبنانيين الثقافة العربية قديمها وحديثها، فرآها متخمة بالإلهيات ومجادلاتها المحتدمة، فاستنبط لها سبيلاً أنثروبولوجياً يضع فيها الإنسان موضع المركز الأبرز، فيعرض عن الغلو اللاهوتاني والإسراف الإنسانوي، متيحاً للإنسان- الأنتروبوس أن يستكشف في باطنه الرحيب طاقات التجاوز العظيمة التي تستوطنه وتستحثه على الانعتاق من أسر الإنجاز الناقص. حين يتعلم الإنسان العربي كيف يستثمر الغنى الفائض المبثوث في تضاعيف الكائن الإنساني يستطيع أن يدرك أن الإنسانية واحدة إلا أن الناس مختلفون، والعقل واحد إلا أن الثقافات مختلفة، والحقيقة واحدة إلا أن الآراء مختلفة، على ما كان يذهب إليه الخوري في إنشاءاته الفلسفية ("العالم العربي والتحول الاجتماعي الثقافي"، ص 19).
في اعتقاد الخوري أن مشكلات العالم العربي تتلخص في مشكلة التحول الثقافي، بيد أن هذا التحول لا يعني الإعراض عن التراث العربي والانتقال إلى الحداثة الغربية، بل الانتقال بالتراث العربي عينه من صورته التاريخية القديمة إلى صورة تاريخية حديثة تراعي مقتضيات التجاوز التي ينطوي عليها جوهر التراث ومضمون الحداثة على حد سواء، "الثورة العربية لا تهدف إلى محو الطابع العربي عن الإنسان العربي، كما لا يمكنها أيضاً أن تعزل الإنسان العربي وتسجنه في ماضيه بحجة المحافظة على هويته في مواجهة خطر التشويه. الثورة تعني في آن واحد استمرار الهوية وإحداث التغيير، أي تحرير الطاقات حتى تستعيد قدرتها الخلاقة في الاتجاه الذي توجد فيه شخصيتها" ("العالم العربي والتحول الاجتماعي الثقافي"، ص 89-90). لا بد لنا، والحال هذه، من أن نستعيد فكر هذا الفيلسوف، ونستثمره في استنهاض الوعي العربي ودفعه إلى تجاوز انعطاباته التاريخية، حتى يستطيع أن يبتني له عمارة حضارية متجددة تصون كرامة الإنسان في الأوطان العربية، وتبهجه في حرية اختبار معاني الحياة.