Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية عن الإيمان

"صلاة من أجل بتول" نص روائي - مسرحي انتقل بين الجنوب الأميركي وباريس حاملاً توقيعين كبيرين

ويليام فوكنر: وسيلة مبتكرة لاستعادة الإيمان (ويكميديا)

ملخص

كان لب موضوع رواية "صلاة من أجل بتول" التي استقاها ويليام فوكنر من واقع أميركي، ثم استلهمها ألبير كامو من فوكنر ليفرنسها ويصبح لدينا ذلك العمل الكبير الذي عرف كيف يعبر المحيط الأطلسي بمهارة، قبل أن يتحول في أزمنة لاحقة إلى عمل مسرحي ينسى كثر أصوله كرواية لفوكنر ويقدم مترجماً إلى عدد كبير من اللغات

من المؤكد أن هذا الأمر لا يحدث كثيراً في عالم الأدب، بمعنى أنه لا يحدث كثيراً أن نصاً روائياً كتب في الجنوب الأميركي على يد واحد من أكبر كتاب ذلك الجنوب، يتحول إلى نص مسرحي على مبعدة ألوف الكيلومترات من مهد ولادته وتحديداً في العاصمة الفرنسية، إلى عمل مسرحي يحمل هنا توقيع واحد من كبار الكتاب والمفكرين الفرنسيين أواسط القرن الـ20. والحقيقة أننا نتحدث هنا عن ذلك النص الروائي الحواري الذي انتهى الأمر به كي يكون في باريس مسرحية تقدم بالفرنسية كتبها ألبير كامو وقدمها بعنوانها الفوكنري نفسه مع تبديل اضطر كامو إلى إحداثه كيلا تبدو المسرحية بالنسبة إلى جمهوره نوعاً من عودة منه إلى ذلك الإيمان المسيحي الذي لم يكن من شيمه، ولسان حاله يقول إنه لئن نقل يوماً مسرحية إغريقية قديمة تزخر بالإيمان إلى اللغة الفرنسية "فهل سيكون معنى هذا أنني بت مؤمناً بألوهية زيوس؟". ومع ذلك نراه يحدث تبديلاً في خاتمة المسرحية لمجرد أن يحدد الفوارق الجذرية في هذه النقطة بالذات بينه وبين ويليام فوكنر الذي بدا من خلال كتابته هذا النص أنه فعلاً يعود إلى الإيمان. غير أن ذلك لم يكن لب الموضوع على أية حال. كان لب الموضوع تلك الدراما الكئيبة التي استقاها فوكنر من واقع محلي ما، ثم استقاها كامو من فوكنر ليفرنسها ويصبح لدينا ذلك العمل الكبير الذي عرف كيف يعبر المحيط الأطلسي بمهارة، قبل أن يتحول في أزمنة لاحقة إلى عمل مسرحي ينسى كثر أصوله كرواية لفوكنر ويقدم مترجماً إلى عدد كبير من اللغات كما حال العدد الأكبر من مسرحيات كامو، الذي عرف ككاتب مسرحي بقدر ما عرف كمفكر وروائي بل حتى ككاتب عرفت السينما كيف تقتبس رواياته، ومنها بخاصة "الغريب" التي اقتبسها الإيطالي لوكينو فسكونتي في واحد من أقوى أفلامه.

حكاية أميركية بامتياز

غير أن ذلك العبور لم يمنع "صلاة من أجل بتول" من أن تبقى ذات ذهنية أميركية خالصة وإن كان في أجوائها ما يكشف عن تأثر صاحب "الصخب والعنف" بأجواء أدب فيينا (أدب الكابوس السعيد، كما كان يسمى)، عند بدايات القرن الـ20 (من ويدكند إلى شنيتزلر) غير أن هذا التأثر لا يبدو هنا كبير الأهمية. المهم هنا هو تلك الوحدة الأسلوبية ووحدة رسم الشخصيات في انتمائها إلى المكان الذي تعيش فيه وتتحرك في إطار الذهنية الجنوبية الأميركية من دون أن تتمكن من الإفلات منه إفلاتاً حقيقياً مهما حاولت ذلك. ثم يتعين علينا ألا ننسى في هذا السياق أن "صلاة إلى بتول" لم تكن بالنسبة إلى فوكنر سوى استكمال لروايته الكبيرة السابقة "الحرم" التي كانت حين صدرت واحدة من أشهر رواياته لكنه أحس دائماً أن ثمة نقصاً ما فيها. ومن ثم كان من الطبيعي له حين انكب على الكتابة بعد ذلك بأعوام قليلة، أن يستكملها أو بالتحديد أن يستكمل مصير شخصيتها المحورية، تامبل دريك، بعد أن بدا في "الحرم" وكأنه أوقف ذلك المصير عند نقطة محددة يصعب عليه أن يتجاوزها.

تامبل ومصيرها

ومن يعرف رواية "الحرم" يتذكر بالطبع كيف أن تامبل دريك قد تحررت من النذل بوباي الذي كان يستغلها في بيت الهوى الذي كان يأسرها فيه منذ صباها، تحررت منه بفضل القبض عليه وإعدامه بتهمة تتعلق بجريمة ارتكبها. وهنا في الرواية الحوارية الجديدة نعود لنلتقي تامبل بعد أعوام، وقد باتت الآن امرأة ناضجة تنتمي إلى البورجوازية الأميركية بعد زواجها من حبيبها الأول، الذي كان على أية حال هو من تسبب لها بالمذلة التي عرفتها في صباها، وباتت أماً لولدين تخدمها صبية زنجية كانت بدورها فتاة هوى سابقة وتدعى نانسي. ولكن الآن وسط السعادة المفترضة التي تعيشها تامبل، يدخل على الخط رجل شرير حدث له بما يشبه الصدفة أن عرف كثيراً عن ماضيها بفضل رسائل كانت هي ترسلها إلى أخيه الذي ارتبطت به ذات مرحلة، يوم كانت لا تزال تعيش في بيت الهوى، وها هي الآن إذ يهددها ويبتزها هذا الرجل الشرير بفضل اكتشافه ماضيها، تقرر الهرب من الحياة الزوجية. ومن هنا تقرر خادمتها نانسي حين تكتشف تلك الحكاية أن "تنقذها" من بؤسها الجديد المرتقب ولكن عبر مؤامرة مرعبة: وهي مؤامرة تسفر، بسبب جملة من أخطاء ترتكب في سياق تنفيذها، عن قتل واحد من الولدين. وتتدخل تامبل هنا تحت تأثير عمها محامي نانسي، فتتوجه إلى حاكم الولاية متوسلة إليه أن يعفو عن نانسي لكنه لا يفعل. ومع ذلك فإن تامبل تجد في ذلك كله وسيلة للحصول على الغفران المتعلق بماضيها. ولكنه لم يكن أكثر من غفران لا يتم الحصول عليه إلا عن طريق الخضوع لما يمليه عليها الإيمان من خنوع وعذاب وذل يكرس إيمانها المستعاد وكأنها أنا/ آخر لفوكنر نفسه، الذي كان من الواضح أنه كان يبحث من ناحيته وفي تلك الآونة بالذات عن استعادة إيمانه المفقود هو الآخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الجنوب الأميركي إلى أوروبا الوسطى

ومن الواضح أن ألبير كامو، حين اتخذ من الجزء الاستكمالي من عمل فوكنر المزدوج ذاك أساساً لمسرحية باتت تحمل اسمه ولو بشكل جزئي، لم يبال كثيراً بالحياة التي عاشتها تامبل خلال أعوام شبابها الأولى والتي شغلت "الحرم"، بل اهتم فقط بالجزء التالي الذي تعامل فيه مع القسم الأخير من حياتها، ذلك القسم الذي بدا واضحاً أنه يستجيب إلى رغبته الدفينة والقديمة في محاكاة نص "لولو" لويدكند، الكاتب الروائي والمسرحي النمسوي الشهير الذي اعتبر دائماً من خير المعبرين عن حياة الليل في أوروبا الوسطى عند بداية القرن الـ20. تلك الحياة التي كثيراً ما كانت جزءاً أساساً من مناخات روايات أوروبا الوسطى بصورة عامة وفيينا نهايات الإمبراطورية النمسوية بصورة خاصة، والتي في سياق ولادة التحليل النفسي فيها على يد سيغموند فرويد، عند نهايات القرن الـ19، شهدت ازدهاراً لافتاً في الأدب والفن المسرحي والتشكيل يتماشى مع التحليل النفسي الذي عاش مراحله الأولى منفصلاً عن الإبداع لكنه عاد والتحم به بصورة خلاقة. ويبدو أن ذلك الالتحاق راق لكتاب طليعيين حتى في أميركا البعيدة، كما راق لفوكنر بصورة خاصة فساروا على منواله سيراً، من المؤكد أن "صلاة من أجل بتول" أتت لتعبر عنه خير تعبير، وبخاصة حين رأى كامو فائدة تحويلها إلى تراجيديا مسرحية فقام بنفسه بذلك التحويل الذي وجد ضرورة تقديمه كما هو إلا من ناحية خاتمته الإيمانية المتهمة بصدق لا لبس فيه بلغة ويليام فوكنر، لكنه سرعان ما وجد نفسه أمام التعليقات التي راحت تتكاثر على ألسنة أصدقاء سارتر الذين اعتبروا ذلك الإيمان في ختام المسرحية تراجعاً من كامو عن وجوديته وما كان قد عبر عنه في مجمل كتاباته ومواقفه، مما اضطره إلى أن يحدث في الفصل الأخير من المسرحية ذلك التبديل الجذري الذي تحدثنا عنه أول هذا الكلام... التبديل الذي كان لا بد منه بالنسبة إليه كيلا يبدو معه فعل الإيمان المنشود وكأنه يتمناه هو أيضاً!!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة