تشهد مدن إقليم كردستان منذ أيام تظاهرات طلابية غير مسبوقة، شارك فيها الآلاف معلنين إضراباً مفتوحاً، احتجاجاً على استمرار قطع مخصصاتهم المالية وتدني المستوى المعيشي، فيما حذر سياسيون ونواب في المعارضة من خطورة تفاقم الوضع المعيشي الناجم عن سوء الإدارة والفساد.
وكانت الحكومة تمنح الطلبة المقيمين في داخل المدينة مبلغاً شهرياً يقدر بنحو 34 دولاراً، وضعف المبلغ للقادمين من خارجها، قبل أن تقرر الحكومة قطعه عقب تعرض الإقليم إلى أزمة مالية خانقة منذ عام 2014، وما أعقبها من تبعات سيطرة تنظيم "داعش" لمناطق واسعة من البلاد ووصوله إلى مشارف أربيل، بموازاة هبوط حاد لأسعار النفط الذي يعد المصدر الرئيس للواردات، مع عجز الحكومة عن دفع مرتبات الموظفين إثر تعمق الخلافات مع نظيرتها الاتحادية آنذاك.
ويشكو المحتجون أيضاً من سوء في الخدمات المقدمة للطلبة المقيمين ضمن "الأقسام الداخلية" للجامعات والمعاهد، وافتقارهم إلى وسائل التدفئة والتيار الكهربائي.
غياب للعدالة
وواصل مئات الطلاب (24 -11 -2021)، احتجاجاتهم أمام مبنى جامعة السليمانية وفي أربيل، وسط إجراءات أمنية مشددة حاولت منع الصحافيين من تغطية التظاهرة بموازاة تظاهرة مماثلة أقل كثافة في مناطق أخرى من الإقليم.
وعنون مركز "ميترو" للدفاع عن الحريات الصحافية تقريره لليوم الرابع من الاحتجاجات بعبارة "الدستور والقوانين النافذة لا تحمينا"، مؤكداً تلقيه "شكاوى من 47 صحافياً أصيبوا باختناقات، وخمس حالات تهديد مباشر، و19 حالة منع من التغطية، و15 حالة هجمات على الفرق الإعلامية". وأفاد بأن "طلاباً تجمعوا داخل جامعة أربيل ومنعوا من الخروج إلى الشارع، وتجمع عشرات آخرين أمام وزارة التعليم العالي، وسط انتشار أمني مكثف ومنع الصحافيين من الإقتراب للتجمعات، ومصادرة هواتف العشرات"، ولفت أن "السليمانية شهدت تجمعات أمام المبنيين القديم والجديد للجامعة، ومنع المتظاهرين أيضاً من الخروج للشوارع الرئيسة، وسجلت حالات اختناق بالغاز المسيل للدموع، بينما نقلت سيارات الإسعاف المصابين".
وقبل وقت الغروب، تعرضت مقار حزبية ومكاتب حكومية إلى عمليات حرق في مناطق عدة وبلدات تابعة لمحافظة السليمانية، في وقت كانت حكومة الإقليم تعقد اجتماعاً عاجلاً للنظر بالمطالب، معلنة عن "دعم مالي لوزارة التعليم العالي لتحسين ظروف الطلاب المقيمين في الأقسام الداخلية"، وهددت باتخاذ "الإجراءات القانونية بحق الذين حرقوا العلم الكردي".
وقال الطالب بيستون أحمد إن "الاحتجاجات ليست وليدة اليوم، ولا تنحصر بمسألة استمرار قطع مخصصات الطلاب، بل إن الوضع المعيشي والغلاء لم يعد يطاق، وهذا ناجم بالطبع عن سوء الإدارة والفساد المستشري".
وتساءل، "لماذا كل هذه الفوارق وغياب العدالة، أبناء المسؤولين يتمتعون بكل الامتيازات والنعم، والآخر لا يقوى على تأمين قوت عيشه وعلاجه ومصاريف دراسته، هل هذه هي تلك الديمقراطية التي وعدنا بها وناضلنا من أجلها طوال العقود الماضية، أم أن النعم والمناصب أوصلتهم إلى مرحلة الغرور وعدم المبالاة".
وأقدم متظاهرون على طرد زعيم حركة "الجيل الجديد" المعارضة رجل الأعمال شاسوار عبدالواحد لدى محاولته الانضمام إلى صفوف المحتجين، وتداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوراً يظهر إطلاق المحتجين هتافات تطالبه بالمغادرة، وقال أحدهم "لا نريد أن يستغلنا أحد ويدعي بأنه يقودنا، ولن نقبل بأن يفرض الطابع الحزبي على الاحتجاجات، نحن بحاجة إلى دعم جميع شرائح المجتمع".
أعمال قمع وعنف
في المقابل، قطع المحتجون مساء الثلاثاء (23-11-2021) طرقاً رئيسة في مدينة السليمانية والمناطق التابعة لها، مثل خانقين وكويسنجق وكلار ودوكان وجمجال، فضلاً عن احتجاجات مماثلة شهدتها جامعات محافظتي حلبجة وأربيل، وحاول المحتجون إغلاق الباب الرئيس لجامعة السليمانية، وتوجهوا لاحقاً إلى قطع شارع حيوي يربط المحافظة بمحافظتي أربيل وكركوك، وتجمهر المئات أمام مبنى الحكومة المحلية، فيما اندلعت النيران في جزء من مكتب تنظيمات حزب "الاتحاد الوطني" الذي كان يتزعمه رئيس الجمهورية الراحل جلال طالباني، والذي يتمع بالنفوذ الأكبر على مستوى المحافظة، بينما شوهد قيام محتجين برمي الحجارة على نوافذ المبنى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأبدى المتحدث باسم حزب "الاتحاد الوطني" أمين بابه الشيخ دعم حزبه "مطالب المحتجين العادلة"، داعياً حكومة الإقليم إلى "صرف مخصصاتهم وحل مشكلاتهم"، والأجهزة الأمنية إلى الابتعاد من "استخدام العنف والقمع".
في سياق متصل، كشفت وسائل إعلام محلية "اختطاف أحد المقربين من الرئيس المشارك لحزب الاتحاد لاهور شيخ جنكي، من قبل مسلحين بعد الاعتداء عليه بالضرب المبرح في منزله"، مشيرة إلى أن "دوافع الخطف تتعلق بقيام المختطف بالتحريض على حرق مقر الحزب"، وأكدت تسريب مقطع مصور يظهر لحظة عملية الاقتحام.
وكان الرئيس المشارك لحزب الاتحاد بافل طالباني أعلن إبعاد جنكي عن منصبه عقب تفاقم الخلافات بينهما على زعامة الحزب منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.
واستخدمت القوات الأمنية الغاز المسيل للدموع والعصا الكهربائية لتفريق المحتجين، مما أوقع إصابات عدة، وتداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي مقطعاً مصوراً تقوم فيه عناصر أمنية بضرب أحد الطلاب، وضرب أحد أفرادها بقدمه على رأس متظاهر، مما أثار موجة من الغضب وحملات إدانة طالبت بالكشف عن هوية المرتكبين ومحاسبتهم قضائياً.
بيانات إدانة
وأعلن النائب البارز في برلمان الإقليم علي حمه صالح أن نائب رئيس الحكومة قباد طالباني تعهد له "باعتقال العناصر المعتدية على الطالب ومحاسبته". ونشر صالح عبر حسابه في "فيسبوك" أسماء قال إنها تعود للعناصر الأمنية المعتدية، وأنهم يتبعون اللواء الأول في أمن السليمانية، وأكد أن آمر اللواء اتصل به وتعهد بتسليم أي عنصر ارتكب خروقاً وتسليمه للعدالة.
كما دان رئيس الحكومة المحلية هفال أبو بكر بشدة وقوع أعمال عنف، مؤكداً أنه "تم توجيه الجهات المعنية للتحقيق والكشف عن أولئك الأفراد الذين اعتدوا على المحتجين من دون أي اعتبارات لحقوق الإنسان".
وأعلنت مديرية أمن المحافظة أنها "اعتقلت المشبته فيه في ضرب الطالب"، وأكدت أنها "لن تسمح لأي عنصر أمني بالتعامل مع المحتجين بعنف خارج الإجراءات القانونية"، داعية الطلاب "إلى منع أي متظاهر من استغلال المطالب لأهداف سياسية، وتحريفها باتجاه العنف وزعزعة الأمن العام".
وتعهدت "اللجنة الأمنية العليا" في السليمانية أنها "ستتعامل مع المحتجين بأعلى درجات الاحترام وفقاً لأوامر صدرت من جهات عليا في الحكومة، وأن مطالبهم وصلت للجهات المعنية، ونأمل الالتزام بسلمية الاحتجاج"، واستدركت أن "تقويض الأمن وتعطيل حياة المواطنين خط أحمر، وسيواجه المخالف أقسى العقوبات القانونية".
كما أكدت وزارة الداخلية على لسان وكيل الوزارة اللواء جتو صالح في مؤتمر صحافي "صدور أوامر للتعامل بشكل حضاري مع المحتجين"، كاشفاً عن "وقوع إصابات في صفوف القوات الأمنية نتيجة للصدامات".
أخطار النقمة
ودعى رئيس مركز "ميترو" للدفاع عن الحريات الصحافية رحمن غريب، السلطات الكردية إلى "تلبية مطالب المحتجين وحماية حق التظاهر والاحتجاج، والابتعاد من استخدام القوة والعنف، إذ وقعت إصابات بليغة في صفوف الطلبة"، مشيراً إلى أن "عدداً من الأطقم الصحافية تعرضت إلى مضايقات شتى، ولا شك في أن اتباع أسلوب العنف يعد المسبب الرئيس لما حصل من فوضى وليس الاحتجاج السلمي المكفول قانوناً للمطالبة بالحقوق".
من جهته، حذر زعيم "الاتحاد الإسلامي" المعارض صلاح الدين بهاء الدين من أن "الأوضاع القائمة تنذر بوقوع زلزال سياسي يستدعي استجابة سريعة من قبل الحكومة للمطالب".
وتزامناً، أطلق نشطاء من مختلف المحافظات العراقية وسم "السليمانية تقمع"، تضامناً مع الاحتجاجات، ووجهوا انتقادات لسياسات حكومة الإقليم.
كما أصدرت مجموعة من رجال الدين المسلمين بيان تضامن مع المحتجين وإدانة العنف الذي يتعرضون له، وقالوا لقوات الأمن والشرطة إن "واجبكم الوطني مسؤولية إلى يوم القيامة، ولا تتحملوا المسؤولية في دفاعكم عن الظلم والظالم"، وشددوا على أن "هناك مؤشرات خطرة إزاء الوضع في الإقليم، في ظل معاناة الشعب من أزمة الرواتب والخدمات أوصلته إلى حال اليأس، والمسبب لهجرة الشباب الذين يموتون خلال عبورهم البحار".
وتأتي الاحتجاجات مع موجة انتقادات تتعرض لها السلطات الكردية على خلفية أزمة المهاجرين الذين ما زالوا عالقين بين بيلاروس وبولندا، ويقدر عددهم بين 3000 إلى 4000 شخص، معظمهم من مواطني الإقليم.
وفي السياق ذاته، أعلن السياسي البارز عثمان حاجي محمود، أحد مؤسسي حركة "التغيير" المشاركة في الحكومة الائتلافية، أن "هناك حقائق وأدلة كشفت خلال مدة قصيرة موقف غالبية الجماهير تجاه عقلية السلطة الحاكمة وطبيعتها، وهي المقاطعة الواسعة للانتخابات الاتحادية الأخيرة التي تؤكد فقدانهم الأمل في الانتخابات، فضلاً عن الهجرة الجماعية إلى الغرب هرباً من الظلم والفساد واليأس من النظام ووعوده، وأخيرا الاحتجاجات الطلابية الواسعة التي تعم الإقليم".
واتهم رئيس كتلة "جماعة العدل" الإسلامية عبدالستار مجيد، الحزبين الحاكمين في الإقليم "الاتحاد" و"الديمقراطي" بأنهما "عينا أكثر من 50 ألف موظف وهمي، ولم يعالجا هذا الفساد ضمن برنامجهما المعلن للإصلاح، في حين يدعيان وجود أزمة مالية وقلة في الواردات".