كانت واحدة من أطرف وأعمق الندوات الفكرية تلك التي عقدت عند بدايات ثمانينيات القرن الفائت في العاصمة الفرنسية وشارك فيها عدد كبير من الباحثين الألمان والفرنسيين وحتى البلجيكيين، لدراسة نص لم يكتمل أبداً كان المفكر والناقد والباحث الألماني والتر بنجامين شرع في إنجازه قبل ذلك بنحو أربعة عقود وبالتحديد عشية انتحاره في الجنوب الغربي الفرنسي عند الحدود مع إسبانيا، وهو ما سنعود إليه بعد سطور، وبعد أن نتوقف عند تلك الندوة التي سوف تصدر دراساتها ومناقشاتها لاحقاً في كتاب يربو على ألف صفحة لتصبح حدثاً كبيراً في عالم النشرـ ولتستعيد في طريقها ذلك الكاتب الكبير والناقد الذي كان يعتبر منتمياً إلى الحياة الثقافية الفرنسية قدر انتمائه إلى نظيرتها الألمانية. بل إنه هو نفسه كان يعطي لارتباطه بفرنسا اهتماماً يفوق ارتباطه بوطنه الألماني.
ممرّات عاصمة النور وكآبتها
ومن هنا لم يكن صدفة أن تنتهي حياة بنجامين في البلد الذي كرس له بعض أقوى كتاباته وأحياناً باللغة الفرنسية نفسها. هو الذي كان يحلو له أن يذكر دائماً بأن كتابه العمدة "باريس عاصمة القرن التاسع عشر" وبالتالي اشتغاله على "ممرّات باريس" إنما ولد لديه انطلاقاً من عمله على ترجمة العديد من نصوص بودلير إلى الألمانية وبخاصة قصيدة بودلير الكبرى "كآبة باريس" حتى من دون أن يسهب في شرح الرابط بين تلك الكآبة و"الممرات". ولكن ما هي تلك "الممرّات" وما الذي وجّه اهتمام الكاتب إليها؟ الحقيقة أنه لن يكون في وسعنا أن نجيب عن هذين السؤالين في هذه العجالة طالما أن باحثي الندوة المذكورة كرسوا للإجابة مئات الصفحات وبقي التحليل منقوصاً كما حال المشروع نفسه الذي انطلق بنجامين يشتغل عليه ذات ليلة باريسية كئيبة. ولكن يمكننا أن نقول على الأقل ما هي تلك الممرات التي يدرسها بنجامين وكأن باريس تنفرد بوجودها فيها. أو على الأقل هذا ما أراد الباحث الألماني أن يصل إلى تأكيده من خلال فكرة ترصد فرادة الممرات الباريسية، جمالياً وعمرانياً ولكن أيضاً بالنسبة إلى مدنيتها الخالصة، لا سيما انطلاقاً من الدور الذي تلعبه في حياة باريس كما في نظرة كتاب باريس إليها كنقطة فاصلة بين تاريخين للمدينة يتقاطعان خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر يوم تغلبت باريس البورجوازية على باريس العريقة وريثة الملكية وزمن الإقطاع. ومن الواضح أن ثمة هنا استنتاجات سوسيولوجية – عمرانية كان بنجامين لا يزال في حاجة إلى التوصل إليها قبل أن يتوقف في مشروعه عند النقطة التي توقف فيها. وما الدراسات التي ألقيت في الندوة ونشرت في الكتاب سوى محاولة بالغة الجدية لمواصلة عمل بنجامين من حيث توقف يوماً. بل من حيث وضع بنجامين بنفسه حداً لحياته.
مزحة قاتلة
حدث ذلك عند الحدود الفرنسية - الإسبانية يوم الخامس والعشرين من سبتمبر (أيلول) 1940. في ذلك اليوم كانت جماعة من اللاجئين تحاول الهرب من فرنسا التي كان ألمان هتلر النازيون يحتلون أجزاء كبيرة منها وفي مقدمتها العاصمة باريس ويهددون بالزحف لاحتلال بقية المناطق. وبالفعل تمكنت الجماعة يومها من عبور الحدود واصلة إلى داخل الأراضي الإسبانية، لكنها هناك اصطدمت برجال الجمارك الإسبان، الذين راح واحد منهم، بين المازح والجاد، يهدد الهاربين بتسليمهم إلى الجنود الألمان. لسنا ندري ما الذي فكر فيه سائر أفراد الجماعة أمام ذلك التهديد الذي سوف يتبين لاحقاً أنه كان مجرد مزاح، ولكننا نعرف أن واحداً من أفراد المجموعة أخذ التهديد، كما يبدو، على محمل الجد. لذلك حين راح يتصور ماذا سيكون مصيره إن وقع حقاً في أيدي الجنود الألمان؛ أي فريسة للبرابرة الجدد، آثر أن يضع حداً لحياته، فحقن نفسه بجرعة قوية من مادة المورفين، جرعة كانت كافية لقتله.
مجرد هارب من النازيين
بالنسبة إلى رجال الجمارك الإسبان كان المنتحر مجرد شخص يخشى النازيين. لكنه كان، في الحقيقة، أكثر من ذلك بكثير: كان واحداً من كبار نقاد الأدب والفن وفلاسفتهما في القرن العشرين. كان ألمانياً ويهودياً - وربما كان هذان العاملان سبب خوفه الكبير - وكان يدعى والتر بنجامين في الثامنة والأربعين من عمره، وكانت الكتب العديدة التي نشرها خلال حياته قد جعلت له شهرة كبيرة لدى الأوساط الأدبية والفكرية في ألمانيا كما في فرنسا.
ومن هنا، حين وصل هتلر إلى السلطة في ألمانيا كان من الطبيعي لوالتر بنجامين أن يلجأ إلى باريس ليعيش فيها، وهو ما بارحها بعد ذلك بسنوات إلا لأن هتلر وصل إليها. ولئن كان بنجامين قد عرف من قبل المثقفين الألمان منذ 1920 بفضل ترجمته لمجموعة بودلير "اكتئاب في باريس"، فإن شهرته الفكرية قامت أساساً على واحد من أبرز كتبه الذي كان بدوره عن باريس وهو كتابه "باريس عاصمة القرن العشرين"، وهو الذي كان ينتظر صدوره في العاصمة الفرنسية يوم داهمتها القوات النازية.
حياة متقطعة
ولد والتر بنجامين عام 1892 في برلين، ابناً لتاجر عتائق، وتلقى دراسته الثانوية في مدرسة خاصة، وحين أعلنت الحرب العالمية الأولى شاء أن يخوضها متطوعاً لكنه سرعان ما سرح، ليتزوج وليتوجه إلى سويسرا حين حصّل من جامعة بيرن في 1919 دبلوماً عن أطروحة قدمها بعنوان "مفهوم النقد الفني في الرومانطيقية الألمانية". وعاد بعد ذلك إلى برلين حيث نشر تلك الأطروحة في كتاب، ثم بدأت في ذلك العام نفسه (1920) مصاعبه العائلية والمالية غير أن ذلك لم يمنعه من أن يواصل أعماله الكتابية فاهتم خاصة بكتابات غوته قبل أن ينصرف أواسط سنوات العشرين للاشتغال على واحد من أهم أعماله التاريخية - النقدية وهو كتابه الضخم "جذور الدراما الباروكية الألمانية" الذي كان مصيره الأول أن رفض من قبل جامعة فرانكفورت، ما أوقع المؤلف في يأس جعله يقرر أن يتجه مذاك للكتابة في الصحف، وكان هذا ما مكّنه من أن يقوم برحلات عدة في العديد من المدن الأوروبية، وكانت تلك هي الفترة التي ارتبط، خلالها، بصداقة عميقة مع برتولد بريخت واعتنق الشيوعية وصار من المدمنين على زيارة موسكو، حيث كان يكلف بين الحين والآخر بكتابة دراسات حول الأدب الألماني، ومنها دراسة حول أدب غوته نشرتها "الموسوعة السوفياتية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خيبة أمل معتدلة
بعد ذلك بفترة سيعبّر بنجامين عن خيبة أمله في الستالينية، لكن تلك الخيبة لم تصرفه عن الشيوعية، بل دفعته إلى التمييز بين الماركسية والستالينية، على غرار ما راح يفعل أقطاب مدرسة فرانكفورت من أصحاب النظرية النقدية، الذين سرعان ما صار بنجامين واحداً منهم، حيث عين عضواً في "معهد فرانكفورت للعلوم الاجتماعية" الذي كان مركز تلك الحركة التي كان من بين أبرز زعمائها تيودور آدورنو وهوركهايمر وهربرت ماركوزه.
والحقيقة أن انضمام والتر بنجامين إلى ذلك التيار الماركسي النقدي كان أمراً طبيعياً بالنسبة إلى كاتب قامت كل كتاباته على مبدأ التساؤل بالتضاد مع "ماركسية ستالينية" مبتذلة كانت تنطلق دائماً من منطلقات اليقين. تلك الفترة كانت على أي حال فترة غنية في حياة والتر بنجامين، نشر خلالها العديد من الدراسات، وارتبط بصداقات عميقة، وبدا عليه أنه وجد أخيراً طريقه، وهو عبر عن ذلك، ولكن مع حد أدنى من التفاؤل في مجموعة من مقالات ودراسات نشرت ضمن كتاب حمل اسم "اتجاه وحيد". وكان ذلك الكتاب آخر ما نشر لبنجامين في ألمانيا قبل وصول هتلر ونازييه إلى السلطة.
الهروب الكبير
بعد ذلك فر بنجامين، مثل غيره من كبار المبدعين الألمان والنمساويين، لاجئاً إلى فرنسا، حيث تابع نشر أعماله وكتابة دراساته النقدية. وأصدر بعض أفضل أعماله ومنها "العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنياً"، وهو الكتاب الذي لا يزال حتى اليوم يعتبر مرجعاً أساسياً في بحث الصلة بين العمل الفني والعصر الذي يحول ذلك العمل إلى سلعة يعاد إنتاجها تقنياً إلى ما لا نهاية. عندما غزا الألمان فرنسا ملحقين بها الهزيمة كان بنجامين يعيش في باريس، فاضطر إلى الهرب جنوباً، حين كانت نهايته عند الحدود الإسبانية - الفرنسية بسبب مزحة، في وقت كان الخطر قد زال عنه.