من الحقائق المعروفة أن بيئة الإنسان تسهم في تشكيل هويته وأحلامه وطموحاته، فهو لم يختر جنسه أو جنسيته أو اسمه أو دينه، فهي له من اللحظة الأولى التي ولد فيها فتتشكل دون أي دور له، وبعدها يبدأ في السعي والركض خلف أحلام وأمنيات شُكلت له أيضاً، فتجده وهو طفل يتمنى أن يكبر ويدخل المدرسة في سن السادسة الذي لم يتخذ قراره بالأساس، بل اُتخذ نيابة عنه ثم يشكل صداقات فرضت عليه من خلال بيئته التي حوله لأنه لم يختر مدرسته وعليه أن ينجح ويتخرج في سن معينة وبعدها عليه أن يكون مهندساً أو طبيباً أو محامياً، أو إحدى الوظائف التي يفرضها المجتمع. وهو لا يعي بأنها مفروضة عليه، بل يرى أنها حلم يسعى إلى تحقيقه.
عليه أيضاً أن يتزوج في سن معينة وإلا فاته القطار، ثم ينجب وينتظر أبناءه يكبرون ثم يتخرجون ثم يتزوجون تلك هي دورة الحياة البسيطة المتفق عليها في المجتمعات، ولك الخيار والاختيار والتغيير في أشياء هامشية في حياتك، لكن هل حدث وتوقف كل واحد منا وطرح سؤالاً على نفسه هل تلك الخيارات لي؟ هل هي أحلامي الحقيقية؟ أم هي صُممت لنا وانخرطنا فيها بلا وعي تحت مسمى سنة الحياة؟
هذه أفكار وتساؤلات ألهمت المهندس المعماري والفنان التشكيلي يوسف المانع الذي استنبط من خلال عمله في العمارة والتصميم كيف أن منازل السعوديين متشابهة مثل أفكارهم، فكل منزل لا يختلف عن الآخر، فالتصميم واحد بشكل كبير، فهي عبارة عن صالات ومجالس وغرف نوم وسور خارجي وباب رئيس، وليس لك سوى اختيار الزخارف ومساحات الغرف وعددها. من هنا خرج بعمل فني خلال مشاركته في برنامج الإقامة المحلية "مساحة" التي كانت تحت عنوان "الوطن الوجود والانتماء".
يقول الفنان التشكيلي السعودي يوسف المانع عن تفاصيل العمل الفني، "اليوم يستنبط التصميم المعماري والحضري لمدينة الرياض مباشرة من الخطة العمرانية التي وضعها قسطنطينوس دوكسياديس ومهندسو حي الملز الذي يعرفه أهل المنطقة، فهو في وسط العاصمة السعودية، ولمن لا يعرفه أشهر وأهم حي في مدينة الرياض طيلة العقود الماضية، ويعد أول الأحياء الحديثة في المدينة". يشير إلى "أن هذين المثالين هما ما طبقا في تصميم مدينة الرياض طوال النصف الثاني من القرن الماضي وحتى يومنا هذا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوضح المانع أثر هذا في حياة السعوديين اليوم بقوله، "إن أثر العولمة والانفتاح على البناء والتصميم العمراني في السعودية بات متكرراً؛ فترى المنازل في المنطقة الشرقية والغربية، وهي مناطق ساحلية، والجنوبية الجبلية، والوسطى في السعودية متطابقة، فلم تعد تصمم المنازل على حسب البيئة، ولم يعد لشخص أي بصمة في الاختيار والتصميم، فهل يمكن لنا أن نقول اليوم إن منزل الفرد الذي يعيش فيه يعكس ثقافته وهويته وحياته الفكرية والاجتماعية؟".
يوضح "أن الوضع الحالي يشكل طمساً لكل الطرز التقليدية العمرانية والمعمارية"، ويضيف "لا يمكن أن تحكم على جمال منزل أي فرد دون معرفة مدى موافقة التصميم لطبيعة وشكل حياته".
ومن خلال الوسائط الرقمية التي أصبحت جزءاً من الخامات الفنية في ظل الثورة التقنية التي غيرت الوسائل المستخدمة في مجال الفنون قدم المانع عمله برسم 1400 شخصية وهمية مختلفة لكل شخص ملامحه الخاصة، وذلك بتقنية 3D، وتم رسم بيت خاص لكل شخص، ومن خلال العمل يوضح "أن لكل شخص علاقة قوية مع منزله أقوى من علاقتنا نحن مع منازلنا" والسبب "أن هؤلاء، بتصور الفنان يوسف المانع، قاموا بتصميم منازلهم بالطريقة التي تناسبهم وتناسب احتياجاتهم، فنحن بدلاً من أن نصمم منازلنا لحاجتنا أصبح المنزل هو الذي يصمم حياتنا وأصبحنا نغير نمط حياتنا بناء على ذلك".
ويأتي على حائط الغرفة التي يعرض فيها العمل عرض لمنازل السعوديين وكيف هو التطابق بينها، فنراها عبارة عن أسوار خارجية وأبواب لا تختلف إلا في الزخارف وفي الأحجام، وهنا يذكر الشبه بين منازلهم وحياتهم وكيف هي متطابقة ومصممة قبل أن يولد الشخص، وذكر "أن التفاصيل الصغيرة في حياتنا هي التي تضيف معنى للحياة".
جاء هذا العمل من بين الأعمال التي عرضت في فعالية أسبوع مسك للفنون برنامج الإقامة المحلية "مساحة" التي جمعت 10 فنانين من السعودية ومن أنحاء العالم ضمن موضوع "تكوين" الذي يتمحور حول تشكيل الهوية واستكشاف مكامنها من منظور الفن والتصميم والعمار.
وتعد هذه الأعمال نتاج برنامجي "منحة مسك للفنون" و"إقامة مسك للفنون" اللذين انطلقا في وقت سابق هذا العام في مسعى يهدف إلى إثراء الإنتاج الفني وتقديم برامج داعمة تثري تجربة الفنان بشكل احترافي، وتقدم منحة مسك للفنون التي يعتبرها الفنانون فرصة مهنية لتحقيق مشاريع أحلامهم من خلال برامج إرشادية صارمة مع منسقين ومتخصصين عرب إلى جانب المواطنين السعوديين.