عرفت الأزمة الليبية وجهاً جديداً وسياقات مختلفة في العام 2021، الذي كان عام انتقال النزاع من ساحات الحروب إلى مطابخ السياسة، وكان هذا التحول الجوهري بقيادة دولية من الأمم المتحدة، التي أشرفت على توقيع الأطراف المحلية على اتفاق سلام وصف بالتاريخي، وخريطة طريق تنتهي بانتخاب رئيس وبرلمان، في الأسبوع الأخير من العام.
وعلى الرغم من النجاحات الكثيرة التي حققها الفرقاء المحليون وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في النصف الأول من العام الحالي، بالتوصل إلى أكثر من اتفاق مهم في المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية، إلا إن النصف الثاني شهد تجدد الخلافات حول قضايا مفصلية ما زال حل بعضها معلقاً، مثل خروج القوات الأجنبية من البلاد.
وتجدد النزاعات السياسية، دفع الشارع إلى التعلق أكثر بطوق النجاة الوحيد، وهو الانتخابات العامة، لكن حتى بصيص الأمل هذا سرعان ما حاصرته المخاوف والشكوك، مع ظهور خلافات قانونية لا حصر لها حول التشريعات الانتخابية والشخصيات المترشحة لها، كل هذه التطورات أنتجت أسئلة كثيرة حول مصير الأزمة الليبية، وأبرزها، هل تكون نهاية العام نهايةً للصراعات المتعددة الأشكال والتداعيات، أم تكون بداية العام الجديد بداية لصراع أشد بأساً وتأثيراً؟
من منقذ إلى مشكلة
كان الحدث الأبرز في ليبيا والأكثر مدعاة للتفاؤل في الربع الأول من العام، هو الاتفاق على تشكيل أول حكومة موحدة للبلاد منذ عام 2014، بقيادة رجل الأعمال المصراتي عبد الحميد الدبيبة، الذي هزم أقطاباً كبيرة في الساحة الليبية، في الاقتراع على اسم رئيس الوزراء على هامش الملتقى السياسي الذي رعته الأمم المتحدة، في جنيف.
لكن النزاعات التي ظهرت بعد ذلك بسبب الخلاف على اقتسام الحقائب الوزارية، الذي شاركت فيه كل الأطياف السياسية والجهوية وحتى العسكرية، التي دخلت في نزاع على حقيبة وزير الدفاع، ما تسبب في رفض أسماء الوزراء التي طرحها الدبيبة أكثر من مرة من قبل البرلمان في طبرق.
وانتهت هذه الأزمة بعد أسابيع بسبب الضغوط الدولية التي مورست على البرلمان لتمرير الحكومة، لكنها أعطت مؤشرات تحولت إلى واقع سياسي ملموس بعد أشهر قليلة، خلاصتها أن الوفاق الليبي الذي تغنت به الأمم المتحدة منذ بداية العام ما هو إلا وفاق هش، يفتقد لبناء ثقة حقيقية، وأن الصراع على السلطة باق على حاله، مع تغير الأدوات، فما لم ينتزع بالسلاح يؤخذ بالسياسة.
تقاسم الكعكة
ويرى أستاذ العلوم السياسية جمال الشطشاط أن "الارتباك الذي صاحب تشكيل الحكومة والتنازع على تقاسم الكعكة، كان دليلاً واضحاً على أن اتفاق السلام الليبي عالج أزمات سطحية وترك جذور الخلاف باقية على حالها، فكان في كل مرة ينمو حول مسألة جديدة، حتى وصل إلى ما وصل إليه عند فتح باب النقاش حول مسألة الانتخابات وقوانينها وتشريعاتها"، ويعتبر الشطشاط أن غياب الحلول الجذرية جعل حيثيات الصراع باقية كالنار تحت الرماد، وقابلة للاشتعال في أي لحظة، "حتى الآن، لا يمكن لأحد إعطاء توقع منطقي ونهائي حول الفصل الأخير من الأزمة الليبية، فكل المسائل الخلافية لا تزال معلقة، وليس صحيحاً أنها حلت، من أزمة الوجود الأجنبي إلى توحيد المؤسسات السيادية، بخاصة العسكرية والاقتصادية، والأكثر أهمية هو مصير العملية الانتخابية "، ويخلص إلى أنه "لا يوجد أي ضامن لإجراء الانتخابات ولا لقبول نتائجها إذا أجريت، ولا يوجد أي شيء مؤكد بخصوص السيناريو التي ستودع به البلاد العام الحالي، مع اقتراب موعد الانتخابات واتساع الخلافات حولها".
معضلة الوجود الأجنبي
ظلت معضلة الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا من أكثر القضايا إثارة للجدل والخلاف بين كل الأطراف المرتبطة بالأزمة الليبية، وبقيت صداعاً مزمناً ليس على الصعيد المحلي فقط، بل الدولي كذلك، وكانت المفاوضات العسكرية التي أنتجت وقف إطلاق النار في جنيف، قد نصت كذلك على تشكيل لجنة عسكرية مشكلة من خمسة أعضاء من كل طرف، في الشرق والغرب، من أبرز مهامها إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من الإشادات التي تتلقاها اللجنة على عملها من قبل المجتمع الدولي تحديداً، إلا أنها عجزت حقيقة عن حسم أهم ملفين كلفت بإيجاد حل لهما حتى الآن، وهما، إضافة إلى إنهاء الوجود العسكري الأجنبي، توحيد مؤسسة الجيش التي ظلت منقسمة بين بنغازي وطرابلس، وتحاول اللجنة العسكرية حالياً إقفال ملف الوجود العسكري الأجنبي بشكل نهائي، عبر مفاوضات شرعت فيها للمرة الأولى مع المتدخلين البارزين من خارج الحدود موسكو وأنقرة.
ورأى الصحافي الليبي محمد حركة، أنه "لا معنى لإجراء الانتخابات في ليبيا واختيار سلطات جديدة للبلاد مع استمرار فقدان السيادة، باستمرار وجود قوات عسكرية أجنبية فوق الأراضي الليبية"، واستغرب حركة "إصرار الأمم المتحدة على إجراء انتخابات غير مضمونة النتائج، ووسط مشهد معقد ومن دون ضمانات حقيقية على كل المستويات، من دون إجبار القوات الأجنبية على مغادرة ليبيا، وهي التي تبقى تهديداً حقيقياً للاستقرار، ومن الممكن أن تستخدم من قبل حلفاء الداخل في حال رفض أي طرف نتائج الانتخابات، ومحاولته للانقلاب عليها كما حصل في مرات سابقة "، وأضاف أن "المشهد العسكري مع اقتراب نهاية العام الحالي، يبقى أكثر المشاهد غموضاً وتعقيداً، وفي ظل استمرار انقسام الجيش وبقاء القوات الأجنبية، فإن حصيلة هذا المسار في حصاد السنة الفائتة يبقى صفراً كبيراً".
استمرار الأزمة الاقتصادية
وكان العام الحالي، عام انتعاش للإنتاج النفطي في البلاد، مع نهاية الإقفال القسري للحقول والموانئ النفطية، واقتراب مستويات التصدير من معدلاتها السابقة، وعلى الرغم من هذه الخطوة المهمة للاقتصاد الليبي الريعي الذي تأتي معظم موارده من انتاج النفط، إلا أن البلاد لم تجد حلاً حقيقياً لأزمتها الاقتصادية، مع استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي وغلاء الأسعار ونقص السيولة في المصارف.
ويظل تغير الواقع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه ليبيا مرتبطاً بالحالة السياسية والأمنية في البلاد، وهو ما دفع البنك الدولي إلى توجيه دعوة منذ أسابيع، حثّ فيها على "تقدم العملية السياسية الليبية بشكل إيجابي، وإلى استقرار الوضع الأمني، حتى تتمكن البلاد من مواصلة طريق الانتعاش الاقتصادي".
وتوقع البنك في تقرير عن ليبيا، أن "تسجل البلاد نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.78 في المئة، إذا أجريت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها ووحدت المؤسسات العامة واستمر إنتاج النفط، كما توقع أن "تسجل أرصدة التجارة والحساب الجاري فوائض كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، كما سيسجل الميزان المالي فائضاً أيضاً، نظراً للانتعاش القوي في إنتاج النفط وصادراته وانخفاض قيمة العملة، ما قلل من تكلفة تمويل رواتب القطاع العام والسلع والخدمات باستخدام عائدات النفط المقومة بالدولار"، وامتدح البنك الدولي "التقدم الهائل الذي أحرزته ليبيا نحو إنهاء الصراع الذي دام عقداً من الزمن، ما أدى إلى انتعاش قوي في إنتاج النفط والنشاط الاقتصادي، وما تبعه من انتعاش في الموازين المالية والتجارية والحسابات الجارية".