في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) من عام 1991، اجتمع ثلاثة من رؤساء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، في غابات بيلاروسيا (قبل أن تتحول إلى بيلاروس)، لتدبر أمر التخلص من ميخائيل غورباتشوف والتضحية بالاتحاد السوفياتي، سعياً وراء "استقلال" آل بالامبراطورية السوفياتية إلى ما آلت إليه. وفي ذلك اليوم "غير المأسوف عليه" بالنسبة إلى كثيرين من أبناء الامبراطورية، اختلطت المأساة بالملهاة. وقد أعرب عن مثل هذه المشاعر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين قال إن "انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيوسياسية في التاريخ المعاصر"، وأضاف "مَن لم يشعر بالأسي تجاه انهيار الاتحاد السوفياتي إنسان بلا قلب، ومن يريد استعادة مثل ذلك الاتحاد السوفياتي، إنسان بلا عقل"!
"بطل الرواية" بما ماجت به من أحداث "مأساوية " و"عبثية" في بعض جوانبها، هو بوريس يلتسين الذي استبق الثامن من ديسمبر بالعديد مما أشرنا إليه في الحلقة السابقة، سرعان ما ألحقها بالعديد من "الطرائف" التي ألقت بالدولة الروسية في تسعينيات القرن الماضي بكل تاريخها ومقدراتها في هوامش التاريخ، وكادت تودي بها إلى غياهب النسيان قبل أن يبدأ بوتين في نهاية عام 1999 إعادتها إلى خريطة العالم.
وكان رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا قد اتفقوا على لقاء ثلاثي يجمعهم في بيلافجسكويه بوشا بين أحضان غابات بيلاروس في ذلك التاريخ، لتدبر أمر انفصال جمهورياتهم عن الاتحاد السوفياتي السابق. وكان لكل من الرؤساء الثلاثة حساباته التي التقت عند ضرورة التخلص من غورباتشوف، قبل رغبتهم في الانفراد بجمهورياتهم تحت ستار الانفصال الذي كانوا أعلنوه بعد فشل انقلاب أغسطس (آب) 1991، وإن كان يلتسين سبقهم بأكثر من عام حين أقر السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية مرسوم سيادة روسيا واستقلالها في 12 يونيو (حزيران) 1990. ولم يكن ثمة تساؤل آنذاك عمن استقلت روسيا الاتحادية في ذلك الحين؟
تساؤل سرعان ما رفده آخرون من القوميين الروس بتساؤلات أخرى، منها لماذا تواصل بقاؤها ضمن الاتحاد السوفياتي منذ ذلك التاريخ؟ وكيف كان لها التصويت في الاستفتاء الشعبي الذي أقر الاتحاد السوفياتي إجراءه في 17 مارس (آذار) 1991 لاستطلاع آراء مواطنيه بشأن "بقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية"، وأسفرت نتيجته عن موافقة الغالبية بنسبة تزيد على 75 في المئة على بقاء الدولة الاتحادية؟
ولعله من "المضحكات المبكيات" أنه على الرغم مما أسفر عنه ذلك القرار الذي اتخذه السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية في 12 يونيو من تبعات جسام كانت مقدمة لانفراط عقد الجمهوريات السوفياتية، فقد اختارته روسيا الاتحادية في وقت لاحق "تاريخاً" لعيدها القومي الذي تحتفل به كل عام تحت اسم "العيد الوطني" للاستقلال.
من هنا، نقول إن لكل من هؤلاء الرؤساء الثلاثة كانت "أجندته" الخاصة التي أرادها بوازع ذي صلة بدوائر أجنبية، سرعان ما انتشر ممثلوها بين جنبات ما كان يسمي الاتحاد السوفياتي، اعتباراً من اليوم التالي للإعلان عن سقوطه. وكشفت كثير من المصادر الروسية تباعاً عن أن "المحاولات التي استهدفت إطاحة غورباتشوف كانت قبل انقلاب أغسطس كثيرة من جانب رفاقه في المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي منذ إعلانه عن سياسات "البيريسترويكا" في عام 1985، كما ذكر أندريه غراتشوف، آخر المتحدثين الرسميين باسم غورباتشوف في مقدمة كتابه "الانقلاب" الذي توليت ترجمته بموافقة شخصية من الرئيس غورباتشوف، ونشرته "الشركة السعودية للأبحاث والنشر" في عام 1992 بعد ظهوره على حلقات على صفحات صحيفة "الشرق الأوسط".
وأضاف غراتشوف أن الأمر لم يكن في حاجة إلى إطاحة الدولة، من أجل التخلص من مجرد فكرة طَرَحَها غورباتشوف. وقال إنه "كان يكفي آنذاك الإعلان عن اقتراع سري في النسق الأعلى للقيادة الحزبية لوقف عملية الإصلاحات من دون الحاجة إلى دبابات". من هذا المنظور، ومن واقع شاهد عيان، نقول إن القوى المحافظة تحولت إلى انتهاج أسلوب أغسطس، أي الأساليب الانقلابية، تحت تأثير تنامي نشاط القوى القومية الانفصالية التي حظيت داخل موسكو بدعم أبرز ممثليها وعلى رأسهم يلتسين بعد نجاح هذه القوى في تشكيل ما يسمى بمجموعة "النواب الإقليمية" التي سبق وقادت عملية إعلان استقلال روسيا وسيادتها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بوقت طويل. ونذكر أيضاً أن هذه المجموعة التي قادت حملة تأييد القوى الانفصالية في جمهوريات البلطيق، كانت أول من وجّه سهامه ضد غورباتشوف في محاولة للتخلص منه لتعود في أغسطس 1991 إلى محاولة أداء دور المنقذ! ولعل أحداً لا يستطيع اليوم إنكار أن العلاقات الشخصية التي احتدم أوارها بين غورباتشوف ويلتسين منذ أطاح الأول الثاني من عضوية المكتب السياسي، كانت في مقدمة أسباب تداعي أركان الدولة ثم انهيارها.
غورباتشوف ويلتسين
وننقل عن يلتسين ما قاله في شأن خلافاته مع غريمه غورباتشوف في كتابه "ذكريات رئيس":
"بات واضحاً أن البيريسترويكا يريدها غورباتشوف ليس من أجل إعادة البناء من حيث الجوهر، بل من أجل الحفاظ على السلطة المركزية وعدم منح الجمهوريات سلطاتها المستقلة وروسيا بالدرجة الأولى. إنني أرفض مواقف الرئيس وسياساته. إنني أطالب باستقالته فوراً".
ونذكر أيضاً ما قاله يلتسين في حديث صحافي نُشر في 14 فبراير (شباط) 1991، أي قبل انقلاب أغسطس 1991 الذي استهدف تنحية غورباتشوف من جانب عدد من أبرز القادة السوفيات من ذوي الميول المحافظة ومنهم نائب الرئيس ووزيرا الدفاع والداخلية ورؤساء أجهزة الأمن والاستخبارات والبرلمان، بقرابة نصف العام، قال فيه:
"إننا لن نستطيع على ما يبدو الدفاع عن سيادتنا من دون تشكيل جيش لروسيا". وهو التصريح الذي رد عليه غورباتشوف لاحقاً، وفي كتابه "ميخائيل غورباتشوف... الحياة والإصلاحات"، بقوله إن ذلك كان يعني أن الجيش الروسي يصبح مدعواً إلى الدفاع عن استقلال روسيا ضد القوات المسلحة الاتحادية التي يشكل الروس فيها نسبة 80 في المئة من جنودها".
ولا يفوتني بهذا الصدد الاستشهاد بما قاله ليونيد كرافتشوك، رئيس أوكرانيا، في عام 1992، خلال اللقاء الأول معه في مكتبه الكائن في مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني السابق الذي تحول منذ ذلك الحين إلى مقر لرئاسة الجمهورية في العاصمة كييف، تعليقاً على خلافاته مع غورباتشوف ودور يلتسين في انهيار الاتحاد السوفياتي. روى كرافتشوك أن يلتسين زاره في كييف في أعقاب مداولات إعداد المعاهدة الاتحادية التي كان من المفروض أن يوقعها رؤساء الجمهوريات السوفياتية عدا جمهوريات البلطيق وجورجيا ومولدوفا وأرمينيا. (هذه التصريحات عاد كرافتشوك إلى روايتها وكأنها حدثت قبيل توقيعه مع يلتسين المعاهدة الانفصالية في غابات بيلاروس).
نقل كرافتشوك ما أبلغه به يلتسين عن أنه مكلف من جانب غورباتشوف بأن يعرض عليه، أي على كرافتشوك، إدخال ما يراه مناسباً من تعديلات كي يتسنى طرح المعاهدة للتوقيع. وكان ذلك قبل سفر غورباتشوف في إجازته السنوية في أغسطس 1991. وقال كرافتشوك إنه رد سائلاً يلتسين "وما رأيك أنت في مثل هذا الاقتراح؟". وحين أخبره يلتسين بأنه سيوافق على ما يعلنه كرافتشوك من مواقف، قال الرئيس الأوكراني إنه لن يوقع على أي معاهدات اتحادية. وهو ما عقّب عليه يلتسين بقوله "وأنا أيضاً لن أوقع مثل هذه المعاهدة". ومن هنا، ولدت فكرة اللقاء الرباعي بين رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان، بشأن الخروج من الاتحاد السوفياتي، وهي الفكرة التي تراجع عنها رئيس كازاخستان نور سلطان نزاربايف ونفذها رؤساء الجمهوريات الثلاث بتوقيع معاهدة بيلوفيجسكويه بوشا، في 8 ديسمبر 1991. وكان نزاربايف قرر تحويل مسار رحلته إلى بيلاروسيا، والهبوط بطائرته في موسكو، بهدف إعلام غورباتشوف بتفاصيل ما يضمره يلتسين ورفاقه من مخططات في بيلاروسيا، ورفضه الانضمام إليهم.
مؤامرة
أما عن تفاصيل ما يسمونه مؤامرة بيلوفجسكويه بوشا وتوقيع اتفاقيات انفصال الجمهوريات الثلاث عن الاتحاد السوفياتي، قال غورباتشوف إنه علم بنبأ الزيارة المرتقبة ليلتسين إلى بيلاروسيا، ما دفعه إلى سؤاله عن سببها، وهو ما رد عليه يلتسين بقوله إنه "يريد مناقشة بعض الاتفاقيات الثنائية مع ستانيسلاف شوشكيفيتش رئيس برلمان بيلاروسيا، وإنهما وجها الدعوة إلى ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا للتشاور". واستطرد غورباتشوف ليقول إنه طلب من يلتسين التمسك بصيغة المعاهدة الاتحادية التي اتفقوا بشأنها في نوفواوجاريوفو (ضواحي موسكو)، انطلاقاً من المواقف السابقة للرئيس الروسي والمؤيدة للصياغة الجديدة للمعاهدة الاتحادية أبلغ الرئيس الأوكراني بموافقته مسبقاً على ملاحظاته على هذه المعاهدة شريطة إعلانه الموافقة عليها. وأضاف غورباتشوف أن يلتسين سأله عما يمكن أن يفعله من أجل إقناع أوكرانيا بالانضمام إلى المعاهدة الاتحادية، وهو ما أجاب عنه بضرورة أن يبدأ يلتسين بتوقيعها، عندئذ ستوقعها أوكرانيا طالما أنه، أي يلتسين، أعلن في أكثر من مناسبة عن تأييده لبقاء الاتحاد السوفياتي دولة موحدة بما يتفق مع نتيجة استفتاء 17 مارس 1991. واختتم غورباتشوف حديثه قائلاً بنبرة تتسم بالمرارة: "إنه كان يخدعني".
ومن جانبه، يذكر يلتسين في مذكراته التي اختار لها عنوان "ذكريات رئيس"، أن الحيرة انتابت أعضاء الوفدين الروسي والأوكراني بسبب صعوبة إيجاد التبرير القانوني لمشروعية الانفصال. واعترف الرئيسان بأن سيرغي شاخراي مساعد الرئيس يلتسين للشؤون القانونية كان صاحب فكرة "الصياغة القانونية" التي تقول بأحقية الجمهوريات السلافية الثلاث في المبادرة بإعلان خروجها من هذا الاتحاد، بوصفها الدول التي كانت بادرت إلى الإعلان عن تأسيس الاتحاد السوفياتي في عام 1922. وقال شاخراي إن الجمهورية الرابعة التي كانت شاركت في تأسيس الاتحاد السوفياتي، وهي جمهورية ما وراء القوقاز الاشتراكية الاتحادية السوفياتية، كانت انتهت قانونياً بانقسامها إلى جمهوريتين اتحاديتين، هما أرمينيا وأذربيجان وما احتوتهما من جمهوريات ذات حكم ذاتي. ومن ثم، فإنه يجوز قانوناً الاكتفاء بالجمهوريات الثلاث، روسيا وبيلاروس وأوكرانيا. ولم يستغرق شاخراي مع رفاقه كثيراً من الوقت للتوصل إلى الصياغة النهائية التي استقروا عليها، ليعهدوا إلى إيغور غايدار القائم بأعمال رئيس الحكومة الروسية بإعادة كتابتها بخط أفضل من خط شاخراي، وتسليمها إلى السكرتيرة لطباعتها على الآلة الكاتبة. ولما كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير، فقد عهدوا إلى أندريه كوزيريف وزير خارجية يلتسين آنذاك، الذي انتقل إلى الإقامة في الولايات المتحدة في منتصف تسعينات القرن الماضي، بالقيام بهذه المهمة. ولم يكلف كوزيريف نفسه عناء التأكيد على السكرتيرة بالاهتمام بهذه المهمة، مكتفياً بالدفع بالنص إلى أسفل باب غرفة السكرتيرة، حرصاً منه على عدم إزعاجها في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، كما قال في ما بعد. لكن، ما إن حل الصباح واجتمعت "الأطراف المعنية" وطلبت الإطلاع على ما كتبته السكرتيرة، حتى اتضح لهم أن كوزيريف أخطأ في رقم الغرفة، ودفع بمثل هذه الوثيقة بالغة الأهمية، إلى غرفة أخرى. ما كان كافياً للإطاحة برؤساء الجمهوريات الثلاث ومن معهم إلى غياهب السجون في حينه. وذلك ما كان مثار دهشة الجميع وسخريتهم.
إجابة سرية
ولم تتوقف سلسلة "المضحكات المبكيات" في هذه الأحداث عند هذا الحد، إذ تصاعدت وتشابكت وبلغت حد إصابة الرؤساء الثلاثة بالحيرة، تجاه عمن يعهدون إليه مهمة إبلاغ الرئيسين السوفياتي غورباتشوف والأميركي جورج بوش الأب بما جرى الاتفاق بشأنه. وأصاب الارتباك كلاً من يلتسين وكرافتشوك تجاه اختيار الرئيس الذي يمكن أن يتولى مهمة إبلاغ الرئيس الأميركي بوش بقرارهم. وهو ما قام به يلتسين بعد تردد لم يدم طويلاً بمساعدة وزير خارجيته كوزيريف الذي تولي مهمة الترجمة، بينما تولى رئيس السوفيات الأعلى لبيلاروسيا شوشكيفيتش مهمة إبلاغ غورباتشوف بنتائج ذلك اللقاء التاريخي. الأمر الذي طَيّر صواب غورباتشوف ليطلق صيحته المدوية "العار كل العار. أن يعلم الرئيس الأميركي بقرار حل الاتحاد السوفياتي قبل رئيس هذا الاتحاد".
الغريب والمثير هو أن الرئيس الأميركي بوش علّق على ما أبلغه به يلتسين بقوله: "وماذا تريدون مني أن أفعل؟".
أما عن الإجابة، فلم يُمِطْ أحد عنها اللثام حتى اليوم.
وتتوالى مشاهد المأساة ليجتمع رؤساء من بقي من جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وكانوا تسعة في المآتا العاصمة القديمة لكازاخستان في 21 ديسمبر للاتفاق بشأن إنهاء وجود الاتحاد السوفياتي وإحالة رئيسه إلى التقاعد. وهو الاجتماع الذي رفض غورباتشوف حضوره. في هذا الاجتماع، أقر المجتمعون معاشاً تقاعدياً لغورباتشوف، شاءت سخرية القدر أن تكون قيمته الفعلية أربعة دولارات بعد تعويم قيمة العملة الروسية خلال السنوات الأولى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي!
أذكر أيضاً الخامس والعشرين من ديسمبر 1991، وهو التاريخ الذي تلا فيه غورباتشوف مرسوم استقالته الرسمي من منصبه رئيساً للاتحاد السوفياتي، في لقاء لم يحضره من الصحافيين الأجانب المعتمدين في موسكو سوى ستيف هيرست مراسل قناة "سي أن أن" الأميركية. وكان غورباتشوف أصر على أن يكون توقيعه على المرسوم على الهواء مباشرة. غير أنه وحين همّ بالتوقيع لم يطاوعه القلم، وإمعاناً في سخرية القدر رفض الامتثال لقراره. ما جعل ستيف يسارع بمناولته قلمه "مونت بلان"، بما كان يعني أن وثيقة نهاية الاتحاد السوفياتي سُجلت بمداد غربي!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما إن فرغ غورباتشوف من كلمته وعلت موسيقى السلام الوطني السوفياتي للمرة الأخيرة في التاريخ، حتى هرع حرس الكرملين إلى إنزال علم الاتحاد السوفياتي الأحمر ذي المنجل والمطرقة، ليرفعوا مكانه علم روسيا القديم بألوانه الثلاثة "الأبيض والأزرق والأحمر"!
وتعود سخرية القدر لترفض التوقف عن المضي في طريق "المضحكات المبكيات"، ليرتفع العلم الروسي "الجديد القديم" بلونه الأحمر معتلياً اللونين الأبيض والأزرق، وهو ما اضطرهم لاحقاً إلى إنزاله لرفعه ثانية في وضعه الصحيح "الأبيض في الجزء الأعلى من العلم، ثم الأزرق ثم الأحمر!
ولم يتوقف مسلسل العبثية عند هذا الحد. فما إن انتهى غورباتشوف من كلمته التي أذاعها التلفزيون الروسي بكل قنواته ونقلتها عنه مئات القنوات التلفزيونية الأجنبية، حتى تحول إلى توقيع مرسوم تسليم "الحقيبة النووية" رمز السلطة المركزية والقائد الأعلى للقوات المسلحة إلى يلتسين، رئيس روسيا الاتحادية الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي. لكن يلتسين وإمعاناً في إهانة غريمه، رفض اللقاء مع غورباتشوف لتسلم الحقيبة، قائلاً إنه لا يلتقي مع رئيس سابق. وأوكل المهمة إلى المارشال شابوشنيكوف وزير الدفاع في ذلك الحين.
واستئنافاً لمسلسل الإهانات التي ظل غورباتشوف يتجرعها لأشهر طوال بعد رحيله عن منصبه، قرر يلتسين الاحتفال على طريقته بتجرع "كثير من زجاجات الخمور" في مكتب رئيس الاتحاد السوفياتي، مع رفاقه الذين سهر معهم في هذا المكتب حتى وقت مبكر من صباح اليوم التالي، ليترك المكتب في حالة قالوا عنها إنها "أبعد ما تكون عن الآدمية". وذلك ما أبلغه إلى غورباتشوف، جيرينكو المدير السابق لمكتبه في صباح اليوم التالي، وما كان مثار كثير من التعليقات الساخرة في حينه.
لكن للقصة فصولاً أخرى وتفاصيل تبدو في بعض جوانبها أكثر إثارة من القصص البوليسية، بما تحتويه من مفردات شجار وتنافس بين اثنين من كبار رموز الدولة، سرعان ما أسفرا عن انهيار الدولة التي طالما كانت ملء السمع والبصر بما تحتويه من قدرات وثروات تبلغ ما يزيد على 30 في المئة من ثروات العالم، وتمتد على خريطة العالم لتشغل حوالى ثمن مساحة اليابسة. أما عن الأسباب التي ساهمت في ذلك الانهيار المريع فقد تراوحت، إلى جانب ما تناولنا في هاتين الحلقتين، بين تدهور الأوضاع الاقتصادية وانفجار المشكلة القومية ونجاح بعض الدوائر والأجهزة الغربية في التسلل إلى صفوف القيادة السوفياتية. وهو ما سبق وتناولنا بعض تفاصيله في أكثر من تقرير من موسكو.