بين رمضان الذي يهل عبر المذياع معلناً أن اليوم هو المتمم لشهر شعبان، وأن اليوم التالي غرة شهر الصيام، وصيحة الصغار فرحاً لصدور المرسوم الرمضاني ببدء حمل الفوانيس وتهليل الكبار، وتراوح رد الفعل بين الدق على باب الجيران ومهاتفة المعارف للمبادرة بالتهنئة والمسارعة بأخذ العدة لتجهيز السحور، وبين رمضان ذي الخيوط المتشابكة والتطبيقات المتلاحقة يقف مارك وبريان وجان، ومعهم جاود وستيف وتشاد، منضماً لهم مارك وريد في وقت لاحق ليعلنوا أن جانباً غير قليل من رمضان المصري صار عنكبوتياً بامتياز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
امتاز رمضان في مصر على مر عصور ودهور مضت بأجواء الصخب، وأضواء الفرح، وتصاعد العلاقات الاجتماعية، وتقارب العلاقات الأسرية بشكل بات يعرف بـ"رمضان المصري". الذي ليس كمثله رمضان.
مصر الـ"أوف لاين"
مصر التي هي "أوف لاين" حيث شوارع مزدحمة من بعد الفجر بقليل إلى قبل فجر اليوم التالي بقليل، ومصالح معطلة حيث الموظفين مرفوعون موقتاً عن العمل، وأصحاب حِرف في بيات رمضاني لحين صيام الستة البيض من شوال، وبرامج مقالب لا تنقطع ومسلسلات درامية تتواتر على مدار الساعة، وتجمعات بشرية في كل ركن، وأنشطة مصرية صميمة لا تجري إلا في شهر رمضان لم تعد سيدة الموقف، بل تنافسها مصر أخرى. إنها مصر الـ"أون لاين" في رمضان.
مصر التي هي "أون لاين" في رمضان فيها عجب العجاب. فيها روحانيات وأدعية وأذكار على مدار الساعة. وفيها نكات وسخريات ومجادلات لا تتوقف إلا ساعة للإفطار وأخرى للسحور. وفيها شد وجذب في قضايا دينية وسياسية تنفتح على مصراعيها مع مطلع الشهر الكريم. وفيها أيضاً بحث محموم عن وصفات الأكل ومقترحات العصائر وقوائم المطاعم وأسرع "الدليفري". كما أن مجموعاتها العنكبوتية التي تخصص نشاطها وتوجه عملها لقضايا رمضانية بحتة تملأ العالم العنكبوتي صخباً وهرجاً ومرجاً.
مكبرات الصوت... جدل مستمر
الصخب الناجم من تناحرات فكرية ومشادات نظرية على صفحات "فيسبوك" ومجموعات "واتسآب" بدأ قبل رمضان بأيام. ويتوقع له أن يستمر حتى قبل صلاة العيد بقليل. مطاحنات ساخنة ومشاحنات متأججة تدور رحاها في ضوء التصريح الرمضاني الموسمي الذي تطلقه وزارة الأوقاف في مستهل شهر رمضان من كل عام (باستثناء عام حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر) عن اقتصار استخدام مكبرات الصوت على الأذان وخطبة الجمعة. فبين مجموعة مؤيدة لقرار الوزارة وأخرى معارضة ومطالبة ببث صلاة التراويح كاملة عبر مكبرات الصوت، تعكس محتويات مواقع التواصل الاجتماعي الاحتكاك المكتوم والصراع المحموم بين فريقين في مصر. الأول يعتنق فكراً دينياً يبالغ في الاهتمام بمظاهر التدين ولا يعترف بالحريات والخصوصيات الشخصية، حيث كل معترض على بث التراويح عبر مكبرات الصوت هو حتماً يدعو إلى الفسق والفجور، وكل معارضة على التدخل في شؤون الغير الإيمانية هي دون أدنى شك تسعى لمحاربة الدين وإلحاق الأذى بالمتدينين. والثاني يرى أن رمضان في الأعوام القليلة الماضية بات فرصة للتذكرة بمدنية الدولة المنصوص عليها في الدستور، وذلك عبر ما يتيسر من مواقع التواصل، وما يتوفر من مقالات رأي يتم تداولها في صفحات مغلقة على أصحابها، وأخرى مدشنة من أجل جر شكل الفريق الآخر.
رمضان على الشبكة العنكبوتية
الفريقان وما بينهما من مجموعات رمضانية عنكبوتية – قدرت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عددهم في شهر أبريل (نيسان) الماضي بنحو 41 مليون مستخدم - يشكلون ما بات يعرف برمضان مصر العنكبوتي، أو رمضان مصر الـ"أون لاين".
التسوق الإلكتروني
"ديجيتال ماركتينغ كوميونيتي" أو "مجتمع التسويق الرقمي" (مؤسسة على الإنترنت تعني بأبحاث ودراسات التسويق الرقمي) حددت ستة أنواع للمتصفح الرمضاني في كل من مصر والسعودية والإمارات. الأنواع الستة هم: المشاهد المتفرغ والذي يتابع المسلسلات والبرامج والإعلانات على المواقع المختلفة، وعشاق الأكل الباحثين عن وصفات لطهي طعام الإفطار والسحور وأرقام مطاعم تقدم خدمة توصيل الطلبات، والمعتنون بأنفسهم سواء عبر البحث عن كل جديد في الملبس والمظهر لحضور حفلات الإفطار والسحور، بالإضافة إلى الحفاظ على المظهر في رمضان، والمتسوقون الباحثون عن شراء الهدايا الرمضانية لأنفسهم وغيرهم، والمسافرون الباحثون عن وجهات السفر وتفاصيلها لا سيما للإعداد لعطلة عيد الفطر المبارك، والصائمون المخلصون الباحثون عن الروحانيات عبر قراءة القرآن الكريم، والبحث عن التفسير، ومتابعة مناهل السنة، والتنقيب في رحلات العمرة.
"الدين أون لاين"
وبحسب توصيف أستاذ الاجتماع ورئيس قسم الدراسات الدينية في جامعة واترلو الكندية الدكتور لورنن دووسون في كتابه "الدين أون لاين"، فإن "شبكة الإنترنت أصبحت منصة بازغة للتدين الشعبي، يسهل من خلالها لملايين الأفراد العثور على من يشبههم في التوجهات الدينية (الإيمانية)، وتيسر بشكل غير مسبوق تبادل المعلومات "الدينية" بينهم، دون الحاجة للجوء إلى مرجعية أو مؤسسة دينية رسمية بعينها". وأطلق دووسون مسمى "التدين الشعبي" على موجات التدين العنكبوتي التي تنبأ بأن تشكل خطراً حيث يزيد هامش الحرية الدينية في التفسير والدعوة والادعاء دون مراجعات.
مراجعات عدة يقوم بها جانب من المصريين من مستخدمي الإنترنت في "رمضان العنكبوتي". وما أشارت إليه مجلة "لغة العصر" المصرية الصادرة عن مؤسسة الأهرام في عددها الصادر في 15 سبتمبر (أيلول) عام 2015 بـ"إيمان الموبايل" يتحقق على أيادي المصريين في شهر رمضان. "الدين الرقمي أصبح ظاهرة. تطبيقات المحمول الدينية خلقت ما يمكن تسميته بإيمان الموبايل. وجانب كبير من تطبيقات المحمول ذات طابع ديني لتذكرة صاحب المحمول بأوقات الصلاة أو للمساعدة في طريقة وموقع أدائها. وهناك السنن والأذكار والأدعية التي تنتشر انتشار النار في الهشيم على أجهزة المحمول المصرية، ومنها ما يعرف طريقه إلى الهاتف المحمول في شهر رمضان لتنمية المشاعر الإيمانية ورسم هالة روحانية".
"روحانيات" و"إسلاميات" و"إيمانيات" لا أول لها ولا آخر تتنفسها صفحات فيسبوك، وتزخر بها مجموعات واتسآب وحسابات إنستغرام. كمٌّ مذهل من الآيات القرآنية التي تزين بروفايلات الصائمين، وتكلل مساهماتهم في واتسآب، وتظهر روحانيتهم في إنستغرام. لكن ما يلفت النظر أكثر هو أن المعايدات الدينية وتبادل التهاني بالشهر الكريم والتبرع بإطلاق النصح، وتوجيه الدفة نحو الصلاح والتقوى والاستقامة، أخذت الكثير من الواقع لصالح الافتراضي، ومن الإنساني لصالح الرقمي.
الرقمي والبشري
وعلى الرغم من أن الرقمي مطلوب والعصر الرقمي في العمل والعلم قادم لا محالة، فإن رمضان الرقمي يقلق كثيرين في مصر. السياسي والإعلامي نادر الشرقاوي يقول "إن ظاهرة المعايدات الافتراضية في رمضان التي تتلخص في إرسال الرسائل وكتابة التدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي ستؤدي إلى مرض التوحد المجتمعي". ويضيف "إنها ظاهرة باتت واضحة في المجتمع المصري، لا سيما بين الأجيال الأصغر سناً والتي تعتبر الهاتف المحمول هو الأب والأم والصديق. وتكون الدقائق القليلة التي تتطلب منهم التجمع مع الأهل أو الأقارب في مناسبات مثل رمضان ثقيلة على قلوبهم ويمضونها على مضض".
يضيف الشرقاوي "أن البشرية اعتادت منذ فجر التاريخ وظهور المناسبات التي تستوجب الاحتفال أن يتجمع الناس وجهاً لوجه، ويتشاركون في الحديث والاحتفال وتناول الطعام. لكن مع دخولنا بكل قوة العصر الرقمي، أفرطنا في الدخول، وتحول جانب كبير من الاحتفاء برمضان إلى مشاعر افتراضية في الفضاء الإلكتروني. وكلمة إلكتروني هنا تعني افتراضي أي غير حقيقي. فكيف قبلنا أن ننقل مشاعرنا الإنسانية إلى عالم الافتراض؟".
افتراضياً، يستقبل جانب كبير من الـ40 مليون مستخدم للإنترنت في مصر بلايين من رسائل التهنئة والموعظة والتذكرة. لكن واقعياً تقرأها وتتلفت إليها وتعي محتواها، بل وتراجع فحواها قلة قليلة جداً. فمن وجهة نظر دينية، يشير إمام مسجد الزهراء في حي مدينة نصر (شرق القاهرة) الشيخ محمد فضل أن "محتوى هذه الرسائل غير موثق وغير معلوم المصدر. وبالتالي يمكن تمرير أي معلومة دينية خاطئة أو فكرة مضللة متخفية وراء الرسالة ذات المظهر الديني التي تبدو وكأنها تدعو إلى الخير والصلاح. ويتضاعف الضرر لدرجة لا يعلمها إلا الله وحده في حالة الرسالة التي يرسلها أحدهم لعشرة ويستحلف كلا منهم أن يرسلها لعشرة آخرين، وهلم جرا".
ارسلها لعشرة
يشار إلى أن دار الإفتاء المصرية طالبت المصريين بعدم الالتفات إلى أو حذف الرسائل ذات الطابع الديني التي تستقبلها هواتفهم المحمولة في شهر رمضان، معللة ذلك بأن رمضان شهرٌ للعبادة، وقراءة القرآن، وإحياء نوازع الخير، وأن إهدار ثواب الشهر الكريم فيما لا يفيد هو إهدارٌ لفضله العظيم. وحذرت دار الإفتاء عبر صفحتها على "فيسبوك" من ظاهرة إرسال الرسائل الدينية التي انتشرت أخيراً، لا سيما في شهر رمضان، والتي تستحلف المرسل له بإعادة إرسالها مهددة إياه بتعرضه للخطر أو الضرر لو لم يفعل.
وقد فعل بعض المصريين خيراً في الأيام القليلة التي سبقت شهر رمضان المبارك، إذ وجهوا رسائل عبر تدوينات وتغريدات لأصدقائهم على فيسبوك وتويتر يطالبونهم بعدم إرسال مثل هذه الرسائل المستفزة والسخيفة.
سخافة من نوع آخر يشير إليها نادر الشرقاوي وهي اختزال المشاعر الإنسانية والإساءة لها عبر تحويل مشاعر الود والتهنئة للمقربين والأحباب إلى دقة زر ترسل الرسالة سابقة التجهيز نفسها إلى مئة أو ألف أو ألفين من المعارف. يقول: "للأسف يشهد رمضان في السنوات القليلة الماضية وبشكل متزايد توجه كثيرين لتحويل التهاني الودودة إلى رقمية خالية من الإنسانية. وقد يرسل الشخص رسالة المعايدة بضغطة واحدة للآلاف، ويضطر المستقبل إلى الرد عليها حتى لو كان رافضاً للفكرة معارضاً للتهنئة المجانية غير الموجهة".
تطبيقات رمضانية
توجه آخر بات يميز رمضان المصري العنكبوتي، لكنه هذه المرة موجه صوب التطبيقات الرمضانية. وفي ظل النمو المطرد لدور الإنترنت في حياة المصريين، وتزايد أعداد مطوري التطبيقات، لا سيما من الشباب، تظهر في رمضان هذه الأيام موجة واضحة من الإعلان عن تطبيقات رمضانية. والتسارع على أفضل تطبيق لدعم الإيمان، أو تيسير العبادة، أو تسلية الصائم، أو تذكرته، أو تهيئته، أو رشاقته أو غذائه في شهر رمضان، يجد الصائمون ملاذاً تطبيقياً على الشبكة العنبكوتية.
تطبيق "مسلم برو" لمواعيد الصلاة وتلاوات القرآن الكريم. تطبيق "زاد الصائم" للأذكار والخلفيات الرمضانية. تطبيق "رمضان ليغاسي" Ramadan Legacy ويحوي تنظيما دقيقا لتفاصيل اليوم الرمضاني من عبادات وغيرها، ومعه خاصية "تدفق التفكير" Reflection Stream التي تتيح للصائمين، لا سيما الشباب مشاركة تفاصيل حياتهم اليومية بالفيديو.
وتحولت تطبيقات المرور، لا سيما "بيقولك" إلى سمة رئيسية ومركزية في رمضان المصري العنكبوتي حيث إقبال منقطع النظير على متابعة الحالة المرورية في الشوارع التي يرتادونها أو يضطرون إلى اجتيازها في نهار رمضان وليله. ويعتمد التطبيق على آخرين موجودين في الشوارع ذاتها يدونون حالة السيولة لمساعدة الآخرين.
"كوميكس" سياسي مغلق
آخرون يغرقون في رمضان المصري العنكبوتي في طوفان من "الكوميكس". فبين مبتكر ومعيد لتدوير الابتكار يمضي كثيرون ساعات الصيام في الضحك ومشاركته. أغلب "كوميكس" رمضان مأخوذ من مشاهد من أفلام مصرية، وبعضها من صور سياسية، حيث سخرية شديدة من أشكال وملامح وجوه الصائمين أثناء ساعات العمل، ودق على أوتار الإفراط في تناول الطعام على السحور والإصابة بتخمة أثناء النهار، وكسل الشباب، وتعب المذاكرة والامتحانات أثناء الصيام وغيرها كثير.
أما الكوميكس السياسي فيتم تداوله أيضاً في رمضان العنكبوتي، ولكن في حذر شديد وبين المجموعات المغلقة على أصحابها خوفاً من رقابة هنا أو عقوبة هناك.
ومن هنا إلى هناك، ومن القاهرة إلى الصعيد ومدن الدلتا، ومنها إلى شرق مصر وغربها تصدح رنات الهواتف الإسلامية الرمضانية على مدار 29 أو 30 يوماً من الصيام. هذا البيزنس مترامي الأطراف ينتعش في شهر رمضان حيث تقبل الملايين على إضفاء روح رمضان على رنة الهاتف المحمول. أدعية و"وحوي يا وحوي" وأذكار و"هاتوا الفوانيس يا ولاد" وأحاديث شريفة وأدعية شهيرة للشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي، وأغاني فوازير الفنانتين نيللي وشريهان، وحتى صوت انطلاق مدفع الإفطار وغيره تتداخل وتتشابك في الأماكن والمواصلات العامة حيث جموع المصريين يأملون في باص طال انتظاره، أو تطبيق تأخر تحميله، أو رسالة تحتم عليه إعادة إرسالها مئات المرات ابتغاء للحسنات، واتقاء للسيئات، أو مدفع إفطار يتوقع انطلاقه عبر خاصية "تذكرة بموعد الإفطار" وذلك في رمضان العنكبوتي في مصر. إنها مصر الـ"أون لاين" في مواجهة مصر الـ"أوف لاين".