عادت دارفور خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وتحديداً في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى ساحة الأحداث والعنف مجدداً بعد هدوء نسبي لفترة من الزمن، نتيجة انخراط غالبية الحركات المسلحة في العملية السلمية التي توجت بتوقيع اتفاقية جوبا للسلام في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020 بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية التي تضم عدداً من حركات الكفاح المسلح التي كانت تقاتل القوات الحكومية في عهد نظام الرئيس السابق عمر البشير منذ اندلاع الحرب في هذا الإقليم 2003.
تركز النزاع هذه المرة في ولاية غرب دارفور المتاخمة لدولة تشاد بسبب نزاعات قبلية، أوقعت بحسب بيان صادر عن لجنة الأطباء في دارفور 138 قتيلاً على الأقل، و106 جرحى، فضلاً عن خسائر في الممتلكات وإحراق للقرى.
وأشار بيان لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في السودان (أوتشا) إلى أن هذه الأحداث أدت إلى نزوح ما لا يقل عن 15500 شخص، وأن تقييم الاحتياجات في هذه المنطقة لن يكون ممكناً قبل استتباب الوضع الأمني.
حول تطورات هذه الأحداث وأبعادها ومآلاتها على واقع إقليم دارفور ومستقبله، وما تم من جهود لمعالجة هذه الأوضاع وحجم آثارها، التقت "اندبندنت عربية" حاكم إقليم دارفور المكلف محمد عيسى عليو للحديث عن أبرز التطورات.
فرق تسد
في البداية، كان سؤالنا عن أسباب وتطورات تلك الأحداث، فأجاب عليو "ما يحدث في دارفور عبارة عن صراعات ورثناها عن النظام السابق، فحكومة الرئيس المخلوع عمر البشير أورثتنا مصائب كثيرة خصوصاً في هذا الإقليم الذي لا حظ له ولا لإنسانه، إذ انتهجت الحكومة السابقة سياسة فرق تسد بين القبائل، بالتالي انعدم قبول الآخر للأسف الشديد بين سكان المنطقة الواحدة، والذين قد يكونون قلة لا تذكر، فكل واحد يرفض الآخر، وأي موضوع يثار بين شخص وآخر أو ضمن مجموعة بسيطة من الناس يفسر بالسوء، وليس بالتي هي أحسن، وتكون النهايات محتومة وعواقبها كبيرة تصل إلى حد القتل والنهب والحرق".
وتابع "هذه الصراعات التي تحدث من وقت إلى آخر في منطقة ما من هذا الإقليم، لا يمكن أن نطلق عليها صراعاً بالمفهوم القبلي، لأن الصراعات القبلية تقودها قياداتها عقب اجتماعات عدة ومن ثم تقرر خوض النزاع ضد قبيلة بعينها، لكن جميع الصراعات الأخيرة سواء في جبل مون ومنطقة كرينك في ولاية غرب دارفور بدأت كمشكلة فردية، ومن ثم تطورت لتصبح صراعاً شاملاً فقد السبب في تطورها مسألة تتعلق بمصالح معينة أو وجود طرف ثالث له مصلحة في زعزعة أمن واستقرار الإقليم بشكل خاص، والسودان بوجه عام".
مجتمعات منقسمة
حول أبعاد هذه الصراعات وإذا كانت هناك اتهامات لجهات خارجية تقوم بهذه الأفعال خصوصاً أن وسائل إعلام محلية تحدثت عن دخول قوات من داخل تشاد المتاخمة في حدودها مع إقليم دارفور، أوضح عليو "ليس بالضرورة أن تكون هناك قوات تشادية شاركت في هذا الصراع، فكل المسألة تتعلق بوجود نفسيات مريضة ومجتمعات منقسمة فيما بينها بشكل منفر وعميق، ويرجع كل ذلك إلى أنه منذ توقف الحرب لم تحدث مصالحات وترضيات وتعويضات لمن تضرر وهم كثر، فتعمقت الاحتقانات والأحقاد داخل النفوس، فهناك مجموعات ما زالت تقبع في النزوح، وأخرى تنتشر في الخلاء الشاسع بلا مأوى ومأكل ناهيك عن خدمات الصحة والتعليم وغيرها من سبل الحياة، فلا يوجد عمل أو برامج تقرب بين هؤلاء المجموعات والأفراد، ولا رعاية من الدولة أو المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، فالوضع مؤلم حقاً".
تكامل الأدوار
وفي سؤال عن المعالجات على مستوى المركز (الحكومة الاتحادية) وحكومة الإقليم لتهدئة هذه الأوضاع، أجاب حاكم دارفور المكلف، "في الحقيقة، القضية أكبر من إمكانات الإقليم في كل شيء، ومع ذلك فإن الإقليم ليس عاجزاً، لكن لا بد من تكامل الأدوار مع المركز بأن تكون هناك آلية حاسمة وقرارات مختلفة وتوصيف مختلف لهذه الصراعات؛ لحسم ما يحدث من فوضى. ومن المهم أن تشمل المعالجات إنهاء ملف الترتيبات الأمنية الوارد في اتفاقية السلام بجوبا، وتكوين القوات المشتركة من القوات النظامية وقوات الحركات المسلحة الموقعة للسلام بالسرعة المطلوبة، وتحقيق العدالة الانتقالية للذين تضرروا من الحرب، فضلاً عن إعادة توطين النازحين على أن يترافق ذلك القيام بمصالحات على مستوى الإقليم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت أنه قام في إطار الجهود الرامية للحد من النزاعات وتقوية وتفعيل جانب الإدارات الأهلية، بزيارة ولايات دارفور الخمسة لفترة استغرقت ثلاثة أسابيع، إذ تم خلالها إقامة ملتقى للإدارة الأهلية لتكون فاعلة وذات نفوذ وسلطة بالنظر إلى وجودها على أرض الواقع وبين السكان، مما يساعد في حل كثير من المشكلات التي تقع من حين إلى آخر بين الرعاة والنازحين والمزارعين وغيرهم.
أضاف "لكن بصورة عامة، القوات الموجودة حالياً في دارفور أنهكت تماماً بسبب طول مدة النزاعات وتجددها باستمرار، ما يستدعي البحث عن بدائل أخرى من أجل وقف نزيف الدم الذي بات أمراً ملحاً، ومع ذلك أستطيع القول إن هناك خطة محكمة أقرت لاستعادة الأمن والاستقرار في الإقليم، تنفذها قوة مشتركة رادعة ذات مهام خاصة، تتشكل من القوات المسلحة والدعم السريع وقوات حركات الكفاح المسلح والشرطة".
انتشار السلاح
وعن أثر انتشار السلاح في تأجيج هذه الصراعات، قال عليو، "من مصائب إقليم دارفور أنه متاخم لخمس دول بينها أربعة ملتهبة تماماً، ما جعل السلاح ينتشر بكثافة في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة في دول الجوار كتشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، فالظروف في تلك البلدان المجاورة ما زالت حتى الآن متشابهة وألقت بظلالها السالبة على دارفور التي لم تشهد في حياتها جواراً هادئاً، إذ إن حظها تعيس، وقد تحدثنا تكراراً ومراراً عن ضرورة جمع السلاح، لكن أعتقد في ظل وجود قوات الحركات المسلحة يصعب جمع السلاح، فلا يعقل أن يوقع اتفاق للسلام في الثالث من أكتوبر عام 2020، ولا يتم حتى الآن تنفيذ البند الخاص بالترتيبات الأمنية، ما أصبح حجة لدى كثيرين، بالتالي من الضروري أن يجتهد المركز في عملية جمع السلاح من المواطنين خصوصاً أن لدينا حدوداً طويلة مع دولة تشاد، وهذا يفرض علينا إيجاد قوة حاسمة لمراقبة هذه الحدود".
طرف ثالث
لكن هناك من يقول، إن ما يحدث في جبل مون هو في الأساس صراع حول ما يزخر به من موارد هائلة مثل اليورانيوم والذهب وغيرهما، يوضح عليو "في حقيقة الأمر أن كل دارفور تزخر بموارد غنية سواء داخل الأرض أو خارجها، لكن للأسف لم نحسن استغلالها منذ استقلال السودان في 1956، فالدولة السودانية مخترقة نتيجة لضعفها، والآخر لن يقويك فلا دين أو دنيا تربطنا معه، فضلاً عن أجنداته، إضافة إلى كثير من الخيرات والموارد الهائلة في الصحارى. لكن المشكلة أن هناك طرفاً ثالثاً غير مرئي لنا يعمل مثل الغول، فلا يعقل أنه في لحظة تحرك وفد استثماري من دولة خليجية في اتجاه مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور يتم اختطاف اثنين من المهندسين الأتراك أثناء عودتهما إلى المنزل من عملهما في محطة لتوليد الكهرباء في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، واعتراض سيارة تقل نساء ورجالاً قتل فيها سيدتان، فهل مثل هذه الحوادث تأتي مصادفة، فلا أعتقد ذلك، هناك جهة أو طرف ثالث موجود سواء كان يتحرك من إحدى دول الجوار أو جهة إقليمية أو يتبع لجهة داخل البلاد، وفي كل الأحوال علينا ألا نجعل كل ذلك شماعة نعلق عليها إخفاقاتنا الواضحة".
هيبة الدولة
لدى سؤالنا له، إذا كانت هذه التطورات المتلاحقة من الأحداث ستؤدي إلى حرب ثانية في الإقليم المنكوب، أجاب حاكم إقليم دارفور "لا أتوقع حرباً جديدة أو ثانية في هذا الإقليم، فهذه مسألة بعيدة المنال ومستبعد حدوثها في ضوء التطورات والمعطيات الماثلة أمامنا في هذا المشهد، فهي مجرد حرب فوضوية تأذى منها ناس أبرياء لا ذنب لهم، ولا بد من حماية الأنفس من القتل مهما كان العدد، فدم الإنسان ليس بهين فهو غال ومحرم في الوقت ذاته، صحيح أن القتل سيستمر في ظل هذا الواقع، لكن لن تكون هناك حرب جهوية أو عرقية، ولا بد من أن تحسم هذه الصراعات والتفلتات بالقانون وتفرض هيبة الدولة، خصوصاً وأن الذين يمارسون هذا العمل والفعل قلة لا تمثل 2 في المائة من قاطني هذا الإقليم".
وأضاف "كما قلت، هناك خطوات وترتيبات تجري، لكن للأسف بطيئة لا تتواكب مع ما يحدث من مصائب، يجب أن يتم استعجال وزارة الدفاع في تشكيل القوة المتفق عليها بحجم 12 ألفاً من الجنود لحماية وتأمين إقليم دارفور، فضلاً عن إيداع أي متهم في الحراسات للتحقيق معه وإصدار عقوبات رادعة لكل من ثبت إدانته بارتكاب جريمة نكراء حتى يكون عظة للآخرين، وبالفعل تم تشكيل لجان للتحقيق والتحري في كل الأحداث التي وقعت، أخيراً، في مناطق غرب وشمال دارفور، وبالتأكيد ستتوصل هذه الجهود إلى الجناة الحقيقيين وتقديمهم للمحاكمة العادلة في أقرب وقت ممكن".
أوضاع مأساوية
وبالنظر إلى الوضع الإنساني الذي تأثر بمجريات تلك الأحداث، أوضح حاكم دارفور المكلف، "معلوم أن أي أحداث صراع تخلف أوضاعاً إنسانية مأساوية من نازحين ولاجئين ونقص في الغذاء بسبب عمليات النهب والحرق وتأخر وصول العون والإمداد في الوقت المناسب، فدارفور كلها غير مستقرة، إذ يتحول الشجار بين أفراد عاديين إلى نزاع سريع بين القبائل، في الوقت الذي تنعدم فيه خدمات الصحة والتعليم في كثير من المناطق، والآن لدينا لاجئون هربوا من أحداث جبل مون إلى داخل تشاد في حدود ألفي أسرة، فضلاً عن الأعداد الأخرى التي توزعت إلى المناطق القريبة في داخل الإقليم، في ظل تقاعس المركز فلا أحد من المسؤولين في الحكومة المركزية قام بزيارة المنطقة التي تشهد موتى بالعشرات للوقوف على هذه الأحداث، ولا أفهم ما يحدث، فكأن تلك المناطق جزر معزولة، وأن دارفور دولة جارة".
إرسال قوة مشتركة
كان رئيس مجلس السيادة الانتقالي رئيس المجلس الأعلى المشترك للترتيبات الأمنية في السودان عبد الفتاح البرهان رأس، أخيراً، اجتماعاً وقف على تطورات الأوضاع الأمنية في إقليم دارفور والأحداث المؤسفة التي وقعت في هذا الإقليم.
شدد الاجتماع على ضرورة أن تقوم الأجهزة الأمنية بدورها في حفظ الأمن وحماية المواطنين وممتلكاتهم والعمل على معالجة الأوضاع والأحداث التي تكررت والعمل على حسمها.
وقرر الاجتماع تشكيل قوة مشتركة رادعة ذات مهام خاصة تتشكل من القوات المسلحة والدعم السريع وقوات الكفاح المسلح والأمن والمخابرات العامة والشرطة على أن يكون لديها قيادة مشتركة متقدمة مقرها الفاشر، وأن تكون لديها سلطات واسعة في ضبط واحتواء وحسم كل التفلتات وجمع السلاح وتقديم كل المتفلتين والمتهمين لمحاكم تنشأ لهذا الغرض، وتساعد في فرض سيادة وحكم القانون والمساهمة الجادة والفاعلة في حماية المدنيين والعمل على تنفيذ اتفاقية جوبا للسلام. كما أمن الاجتماع على أن تلتزم كل الأطراف المشكلة لهذه القوة بتعهداتها بشكل صارم.
300 ألف قتيل
شهدت دارفور في عام 2003 حرباً أهلية خلال فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي أطاحت به ثورة شعبية في أبريل (نيسان) 2019، إثر احتجاجات حاشدة ضد حكمه الذي استمر 30 عاماً، وذلك بسبب ضيق الحريات وتدهور الوضع الاقتصادي، حيث عمت كل مدن ومناطق السودان.
وخلفت الحرب، 300 ألف قتيل، وفق إحصاءات الأمم المتحدة، حيث اندلعت عندما حملت مجموعة تنتمي إلى أقليات أفريقية السلاح ضد نظام حزب المؤتمر الوطني الذي يرأسه الرئيس السابق عمر البشير، تحت دعاوى تهميش إقليم دارفور سياسياً واقتصادياً.
وعلى الرغم من تراجع حدة القتال في هذا الإقليم منذ السنوات الأخيرة في حكم البشير، ما زالت أعمال العنف تندلع في بعض مناطق الإقليم من وقت إلى آخر بسبب النزاعات المنتشرة بين المزارعين والرعاة، خصوصاً في ظل انتشار السلاح في أيادي كثير من السكان.