في منطقة الكرادة، ببغداد، وتحديداً في عمارة "بازار أنتيك بغداد"، ثمة محلات تحتفظ بكنوز من عوالم مختلفة، فالساعات الجدارية والسجاد اليدوي والـ"أرابيسك" والأواني النحاسية تنقلنا إلى عصور مختلفة من روسيا القيصرية، وبريطانيا، وألمانيا، والهند، كما تلفت النظر دقة اللمسات الفنية في الفضيات البغدادية الملونة من عمل الصاغة اليهود والصابئة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
ومع مرور الوقت، تحولت هذه الكنوز، التي تتميز بجودة صناعتها، إلى تحف، وتزداد قيمتها بخاصة إذا كانت صالحة للاستخدام، توجد أسواق "الأنتيكا" في بغداد في منطقة خان المدلل في ساحة الميدان، وفي مناطق مختلفة من العاصمة العراقية.
ويجمع تجار "الأنتيكا" أن عملهم في هذا المجال، ترجح فيه كفة الهواية على الربح المادي، فهم يرغبون باقتناء القطع النادرة وأكثرها تميزاً رغبة منهم بالاحتفاظ بها لقناعتهم بأنها كنوز تحتفظ بقيمتها كلما تقدم الزمن، وكلما كانت القطعة نادرة زادت قيمتها المعنوية والمادية.
العوائل البغدادية
ورأى صاحب أحد محال "الأنتيكا" في بغداد أن الإقبال على اقتناء هذه القطع الأثرية النادرة تراجع بشكل كبير مع هجرة العوائل البغدادية، وقال، إن الأغلبية تسعى حالياً لاقتناء السجاد العادي، "الحياة أصبحت ذات إيقاع سريع ونمط استهلاكي وأغلبية الناس تلجأ لشراء الأشياء العادية، ولن تبحث عن المتميز، فالاستهلاك قضى على البحث عن الجمال"، وتوارث الكليدرا هذه المهنة من والده الذي كانت يجمع القطع النادرة من إيران والهند وتركيا، ومن البيوت البغدادية التي كانت تبيع ما لديها من تحف وقطع أثرية.
الوضع الاقتصادي
وبرأي خبير في هذا المجال "الذوق العام للعوائل البغدادية يتجه الآن نحو المراكز التجارية الحديثة والمطاعم والملابس، ولم تعد العوائل ترتاد المزادات للحصول على قطعة نادرة أو لوحه فنية".
في المقابل، يلفت خبير آخر " أن ظاهرة شراء هذه القطع ما زالت قائمة ولها زبائنها الذين يعرفون قيمتها، موضحاً أن ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي وزيادة نسبة التضخم، كلها عوامل أسهمت في حصول ركود في الاقتصاد العراقي، ما أدى إلى تراجع هذه التجارة كما حال معظم الأعمال التجارية.
"تنقلني لعالم من الجمال"
يستذكر أحمد الربيعي، أول ساعة قديمة اشتراها، والتي كانت سبباً في إدمانه جمع القطع النادرة، ويقول إن "الأنتيكا" عالم من الجمال، ومثلما يحرص على اختيارها يحرص على اختيار الزبون، "الزبون الذي أشعر أنه لن يحافظ على القطعة، لا أبيعها له، لأنني أشعر أن هذه القطع كأبنائي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحتفظ الربيعي بقطع تعود لعام 1800 وهي ساعة أميركية، وشمعدان يعود لعام 1720، ويفسر الفرق بين التحف و"الأنتيك"، "الأشياء التي يتجاوز عمرها 100 عام تسمى الأنتيك، أما قبل ذلك، فيطلق عليها اسم التحف"، ويضيف أن "انتشار هذه الظاهرة يسهم في تغيير الذوق العام باتجاه اكتشاف الجمال، مجتمعنا فيه صعوبات كثيرة والوجود بين عالم الأنتيكا ينقلني لعام من الجمال، وأنقطع بشكل كامل عن العام الخارجي ومشاكله".
أصحاب الأذواق العنيدة
كذلك، يوضح أحمد عبد العزيز، أنه بعد عام 2003 عندما أصبح الطريق متاحاً عبر أوروبا، بدأت تصل البلاد أشياء غير تقليدية، لم نكن نراها سابقاً، ويرى أن "الأنتيكا" هي في الغالب على نوعين، أولهما يقتصر على الأشياء التي تصنع يدوياً، وهي أكثر القطع التي يسعى الزبون لاقتنائها، والنوع الآخر، قطع تنتجها المعامل بشكل محدود جداً، وكلا النوعين يدخل فيهما الفن كعنصر أساس لجعل القطعة تبدو كتحفة فنية.
الجيل الجديد
ويستعين أحمد عبد العزيز، لاقتناء التحف والقطع الأثرية، من الدول الأوروبية، بأصدقاء له يعيشون في أوروبا ويحرصون على متابعة المزادات، ويرسلون له الصور بالقطع الموجودة في المزاد، أو يتابع المزاد عبر وسائط النقل المباشر لكي يختار القطع التي يرغب بشرائها.
ويوضح عبد العزيز أن الجيل الجديد يقدم بشكل كبير على اقتناء "الأنتيكا"، ويقول، إن صفحته على "فيسبوك" بدأت بـ1000 متابع، وتصل الآن لأكثر من 40 ألفاً، ويرى أن "الإقبال على شراء "الأنتيكا" يعود إلى رغبة الشباب بالحصول على أشياء متميزة ونادرة، وبعدها سيتحول إلى مدمن لشراء هذه القطع الأثرية".
كما يوضح أحمد راهي، الذي يقتني الأدوات التي تحتوي على البرونز والبورسلان، "هناك جيل جديد يبحث عن الأشياء القديمة في الإكسسوارات والساعات، لذلك، تجد قطع الأنتيكا رواجاً كبيراً لدى الشباب".
ثقافة الاقتناء
ويقول أحمد عبد العزيز، إن أكثر القطع المرغوب فيها، تلك التي تحتفظ بها البيوت العراقية في السابق، "مقتنو هذه القطع يعودون لسنوات الطفولة، وتنعش ذاكرتهم بأيام الدفء العائلي"، وأكثر القطع طلباً هي البغداديات والقطع النحاسية النادرة، ويرى أن هناك أشياء من تراثنا تستوجب الحفاظ عليها، وهناك قطع أوروبية الصنع، لكن يطلق عليها بغداديات لأنها كانت جزءاً من منازل العراقيين، وعاشت سنوات طويلة، فمثلاً مدفئة "علاء الدين" هي بريطانية الصنع لكن يطلق عليها اسم "المدفأة البغدادية".
ويؤكد عبد العزيز أن "ثقافة اقتناء الأنتيكا ستسود بشكل أوسع، فجمالية هذه القطع ستجبر كثيرين على السعي لشرائها"، مضيفاً أن غياب إنتاج هذه القطع مثل الساعات وأجهزة الراديو، تضيف لهذه التحف قيمة إضافية، إذ لم تعد المصانع تنتج مثل هذه الأجهزة المتينة الصنع التي كانت تتطلب وقتاً طويلاً، كما أنها لا تخلو من الفن، كل هذا يجعل من "الأنتيكا" سوقاً لمن يرغب بالبحث عن الجمال وسط هذا العالم الاستهلاكي.