الجدّة الجميلة التي لا تزال تخبئ بسرية تامة في جيبها الداخلي صرّة من النقود المعدنية التي لم يعد لها أي قيمة فعلية، وهي مقتنعة تماماً بأنّها تحمل كنزاً. هذه السيدة المسنّة تتكل على ذاكرة غاب جزؤها الأكبر في غفلة منها، ظنّاً منها أنها تحمل "قرشها الأبيض ليومها الأسود"، حيث تتعلّق بتلك الصرّة العتيقة كحبل نجاة كي لا تضطر أن تتكل على أحد.
ولكلّ منا صرّته الخاصة التي تحوي غرضاً عزيزاً قد يكون له قيمة مادية، لكن قيمته المعنوية مضاعفة.
الأغراض درجات
محسن الصالح من مدينة "حلب"، إضافة إلى كونه مهندساً زراعياً يهوى جمع الـ"أنتيكا"، ويقول لـ"اندبندنت عربية" إن ما يجمعه يُقسّم إلى فئات منوعة بحسب قيمته والهدف الذي يجمعه لأجله، فهناك أشياء قديمة ذات قيمة مالية عالية، إنما ليس لها أي ارتباط عاطفي أو تعيد ذكريات معينة، هي برأيه فقط "نوع من الأمان وضمانة لمواجهة ظروف الدهر، مثل قطعة ذهبية، مسبحة فاخرة ذات قيمة، ساعة ثمينة، وكلها تُباع سريعاً وفي كل الأوقات وعند الضرورة".
وهناك أشياء أخرى قد لا تكون ذات قيمة، لكنها مرتبطة بذكريات خاصة، وتبقى "غالية" نظراً إلى قيمتها العاطفية، فمثلاً يقول محسن "أحتفظ بطاولة وقد نقلتها معي إلى المعمل ثم إلى المحل ثم إلى البيت، أي إلى الأماكن التي أكون موجوداً فيها الوقت الأطول، فالطاولة صغيرة وليست ذات قيمة مالية، لكنها إرث من أمي صنعها لها خالها عام 1943 عند زواجها، وهي تذكرني بها فأقرأ لها الفاتحة كلما نظرت إليها".
يتابع "هناك أشياء عزيزة لأنني تعبت في جمعها، وكانت مرتبطة بثقافتي الاجتماعية وقيمتها زمنية، إذ جمعتها عبر سنوات عمري وتطوّرت مع تطوّر فكري وثقافتي، وهي كتبي التي بلغت 4 آلاف مجلد سُرقت وحُرقت للتدفئة أو لأنها لم تناسب فكر مَن سرقها".
وتوجد أيضاً أشياء لا تهمّ قيمتها المادية، وهي ترتبط بالعاطفة مباشرةً، وتبقى مخفية وبعيدة عن العيون، ويخبر محسن أنه يحتفظ بأول وردة تلقاها منذ كان في الـ18 من عمره، ويضيف أنّه أيضاً يحتفظ بأغراض ثمينة وأخرى ليست هكذا لكنها نادرة ومرتبطة بالهواية، يعتبرها أهل البيت "كلاكيش" أي أشياء لا منفعة منها، مثل قدّاحة، وشفرة حلاقة، وماكينة للغرض ذاته، وعلبة سجائر، ودفتر قديم، كما أنه يحتفظ بأشياء لها قيمة دينية أو مرتبطة بشخصيات دينية وتراثية، أو بعلاقات شخصية، مثل شيخ راحل كان له الفضل في إرشاده كما يقول وقد أهداه ساعة لا يمكن أن يفرّط فيها.
هاتف خلوي معطّل... ولكن
رانيا فارس تحتفظ بهاتف خلوي معطّل تحبّه كثيراً رغم قدمه، وكلما نظّفت خزانتها تعيده إلى مكانه مع أنها يجب أن ترميه كما تقول لعدم صلاحيته، إلا أنها متعلقة به، وحاولت تصليحه رغم أنه سيكلف أكثر من ثمنه، وهو ذو قيمة بالنسبة إليها، لأنها كانت تمر بمرحلة صعبة من حياتها انتهت بالطلاق، وتقول "عادة نتعلق بالأشياء التي لم يعد أصحابها موجودين، ولكن الحال مختلف هنا لأنه يمنحها أملاً".
الفناجين عبر الأجيال
أما خديجة ماجد، 60 عاماً، فتقول إنها عاشت فترة جميلة من حياتها في ستراسبورغ في فرنسا، ثم تنقلت بين بيوت عِدة في باريس، لكنها ظلّت محتفظة بطقم فناجين قهوة عليها رسم ستراسبورغ، وهو عزيز عليها جداً، لأنه يذكرها بالأيام الجميلة التي عاشتها هناك والناس الذين التقت بهم، كما تحتفظ بمنديل من أمها الراحلة وتغصّ كلما وضعته على أكتافها وتشعر بشوق كبير إليها.
فيما احتفظت سمية كرم، 77 عاماً، لأولادها بطقم فناجين شاي مذهّبة، مرسوم عليها بطل قصة الحب الشهيرة "روميو وجولييت"، وتخبر ابنتها ممازحةً أن هذا الطقم كان أغلى على أمها من الأولاد، إضافة إلى طقم آخر للقهوة يحمل صور الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي انتشرت صوره على الكثير من الأواني أيام حكمه لمصر وبعد موته، وتحتفظ سمية التي كانت تعمل خيّاطة بأزرار كثيرة، وقطع قماش تملأ المنزل، ورغم أنها توقفت منذ 20 سنة عن العمل، فإنها لا تزال تقتنيها ومتعلقة بها وتعتبرها ثروتها.
منشفة وجواز سفر
أما هاجر إبراهيم، 75 عاماً، فتقول إنها تحتفظ بمنشفة جدها الذي هاجر إلى الأرجنتين، مخبأة في أعلى الخزانة، تذكرها بأيامه وكيف كان يدللها هي وأخوتها، ولا تزال حتى اليوم وبعد وقت طويل على وفاته تستعيده وتسترجع طفولتها بمجرد النظر إلى المنشفة.
حسام الحسين، 58 عاماً، لا يزال يحتفظ بجواز سفر جدّه وعليه أختام لسفرة واحدة من سوريا إلى الأردن وصولاً إلى السعودية للحج، ويعتبره وثيقة فريدة من نوعها، كونه يعود إلى السبعينيات، ويعتبر أن في احتفاظه به نوع من الحنين إلى جده الذي توفي حين كان هو يبلغ 10 سنوات تقريباً. ويخبر أنه استحصل من والده أخيراً على عصا جدّته التي عاش معها وتوفيت بعد زوجها بـ25 سنة، والعصا بسيطة جداً ومصنوعة يدوياً من غصن عادي وليست مصقولة، ويتذكر خطوات جدّته وتعابيرها وقصصها وارتكازها على العصا للمشي وللضرب أثناء المشكلات التي كانت تحصل في القرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مراسيل وحروب
وتقول إلهام جبيلي، 76 عاماً، إنها احتفظت برسائل والدها المكتوبة بخط يده في ثمانينيات القرن الماضي أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، يخبرها فيها عن أوضاعهم وأوضاع الأقرباء ويسألها عن العائلة، وكان والدها أيضاً متعلقاً برسائل والده الذي هاجر إلى أميركا أثناء الحكم التركي للبنان على أن يجلب زوجته وابنه بعد فترة، ولكن الحرب العالمية الأولى قطعت الطريق على لمّ شمل العائلة، وكانت الرسائل تستغرق شهوراً من الوقت لتصل، وبقيت الرسائل "زاد والدها العاطفي" والشيء الوحيد الذي يملكه من والده الذي توفي قبل أن يلتقي به، إلى أن فقدها في الحرب الأهلية اللبنانية مع ما فقده من مدخرات وصور، وظلت الغصة الأكبر طوال حياته رسائل والده العاطفية جداً.
التعلّق بين الهواية والمرض
التعلّق هو التمسك بأمر ما ورفض التخلي عنه لأسباب عاطفية، قد يكون بأشخاص أو أمكنة أو حالات أو أشياء، وقد يكون الاحتفاظ بالأغراض هواية أو شعوراً جميلاً ولكن للتعلق الزائد تأثيراً مؤذياً، ويشكل هذا الخوف من الخسارة قلقاً واضطراباً.
ويتعلق البعض بالأماكن بطريقة زائدة فلا يستطيع أن يبارحها سواء كانت بيتاً أو منطقة لها ذكريات، ويخشى الخروج من منطقته الآمنة التي تمثل له الراحة، ويؤخذ على أصحاب التعلق الزائد أن أشياءهم التي يتعلقون بها تأسرهم، والحالات التي يتعلقون بها تجعلهم يخشون القيام بأي مغامرة تغيّر من وضعهم القائم.
ورفض التخلي عن الأغراض أو رميها مهما طعنت في القدم، تحوّل في بعض الأحيان البيت إلى مستوعب كبير لأشياء لا حاجة ولا قيمة لها، وهذا أحد أشكال التعلق المتطرف، ويُسمى "وسواساً" أو "متلازمة التخزين القهري" ويعني الصعوبة المستمرة في التخلص من المقتنيات، حيث تتراكم الأغراض بشكل فائض جداً بغض النظر عن قيمتها والحاجة الحقيقية إليها، وتكون النتيجة في الغالب بيت أو مكان مزدحم وضغط نفسي إضافي، وبالطبع تتراوح نسبة هذا الوسواس بين المقبول والحاد، ويحتاج علاجاً نفسياً يبدأ بمحاولة فهم سبب التعلّق ثم محاولة التخلص من الأشياء الأقل أهمية تدريجياً، ومراقبة سير الحياة من دونها.
بعض أنواع التعلق خاصة بالماركات التجارية تجعل الزبائن الذين يحبذونها يبدون وكأنهم ينتمون إلى جماعة معينة، بعد أن تكون شركات الإعلان لعبت على وتر معين من حاجة دفينة لديهم.
وقد يعتبر التعلّق الزائد إدماناً أيضاً، إذا كان التخلي عن أمرٍ ما صعباً جداً ويخلق نقصاناً نفسياً وتوتراً وضيقاً لدى الأشخاص.
ويعتبر البعض أن عدم التعلق بالأشخاص والأشياء يعطي الإنسان شعوراً أكبر بالحرية، ويُقال أيضاً إن مَن يعملون في مجال الطاقة يحبذون التجديد الدائم، فالقطعة التي لم تُستخدم لسنة كاملة يمكن التخلص منها إذ إنه واقعياً لا يحتاجها صاحبها، وكذلك فإن الإكثار من المساحات الواسعة في المنازل والتخلي عن ازدحام الأشياء يجعل الطاقة تنساب بسلاسة، وتريح النظر والنفسية.
كل هذا لا يمنع من التعلّق والاحتفاظ بأشياء تعطي دفعاً إيجابياً في الحياة، مثل تلك التي تذكّر بشخصٍ ما أو أوقات سعيدة أو بمكان ما أو رحلة أو حالة.