يحتفل السودانيون في الـ 19 من ديسمبر (كانون الأول) الحالي بالذكرى الثالثة لثورة ديسمبر الشعبية التي أطاحت نظام الرئيس المخلوع عمر البشير والإسلاميين بعد 30 عاماً، ويطابق هذا التاريخ ذكرى إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان 1955، الذي تم من دون إراقة نقطة دم واحدة، وفق وصف الزعيم إسماعيل الأزهري بأنه كان استقلالاً "ناصع البياض كالصحن الصيني، بلا شق أو طق"، لكن هذه الثورة خضبت بدماء غزيرة لأرتال من الشهداء والجرحى، مع قائمة طويلة من المفقودين جراء عملية فض الاعتصام السلمي أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة، مكان تجمع المحتجين أسابيع عدة في الخرطوم.
وبات التحقيق في جريمة فض الاعتصام ومحاسبة المتورطين فيها أحد أكبر التحديات التي واجهتها حكومة الثورة منذ تشكيلها الأول وحتى اليوم، على الرغم من قطع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك أكثر من مرة في مناسبات مختلفة العهد بأن تحقيق العدالة والقصاص في شأن فض الاعتصام خطوة لا تراجع عنها.
الذكرى الثالثة
وتستعد الثورة للاحتفال بعامها الثالث بتظاهرات كبيرة وفعاليات ثورية متعددة، في وقت يترقب السودانيون إعلان نتائج اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق في الانتهاكات التي جرت في الثالث من يونيو (تموز) 2019، وما رافقها من أحداث ووقائع في الخرطوم والولايات السودانية الأخرى، لمعرفة ما تم من خطوات بشأن تقديم الجناة إلى العدالة.
وفي الانتظار ارتفع عدد قتلى التظاهرات خلال الشهرين السابقين، ووصل منذ 25 أكتوبر (تشرين الأول) حتى اليوم إلى 45، بحسب لجنة أطباء السودان المركزية.
وشكل النائب العام المكلف خليفة أحمد خليفة لجنة أخرى للتحري والتحقيق حول وقائع وملابسات الأحداث والانتهاكات التي حدثت في وبعد ذلك التاريخ، وأدت إلى مقتل وإصابة عدد من المواطنين، وأي وقائع ذات صلة بالأحداث بما في ذلك حصر الخسائر في الأموال والممتلكات الخاصة والعامة، والقبض على المتهمين وقيد بلاغات جنائية في مواجهتهم وتقديمهم إلى المحاكمة، واستجواب كل من له صلة بالأحداث.
ولم يصدر عن اللجنة الوطنية للتحقيق في مجزرة فض الاعتصام منذ أدائها القسم في 30 أكتوبر 2019 ما يطمئن أسر الشهداء على سير العدالة، وسط تساؤلات حول مصير التحقيق، مما دفع أسر الضحايا إلى اتخاذ موقف ضد اللجنة بلغ درجة التنديد بها واتهامها بالتلكؤ والتباطؤ في عملها.
تحقيقات ولا نتائج
وعلى الرغم من التقدير الذي يتمتع به رئيس اللجنة نبيل أديب عبدالله لدى الأوساط القانونية والسياسية السودانية، لكن يبدو أن ملف شهداء ثورة ديسمبر عرضه إلى كثير من الهجوم والانتقادات قال إنها لن تدفعه إلى تقديم استقالته، ووصف عبدالله ما حدث في مجزرة فض الاعتصام والأيام التي تلتها بأنها اعتداء عنيف على تجمع سلمي، وهو أمر مرفوض استنكره الشعب السوداني، مشدداً على أن أساس عمل اللجنة هو عدم إفلات المجرمين من العقاب، وهي تبحث عن المسؤول عن تلك الجريمة عبر جمع البيانات، إذ اطلعت على 250 فيديو عُمل على تنقيحها لاستبعاد المفبرك منها، غير أن ما تمت مشاهدته لا يكفي للإدانة، لجهة أن اللجنة لم تتحصل على خبرة معمل جنائي تساعد في كشف بعض الحقائق.
وتعهد عبدالله بإدارة التحقيق بكل نزاهة وشفافية وحياد مثل معايير وميثاق عمل اللجنة، معتبراً أن المهمة ليست سياسية بل شبه قضائية، معرباً عن أمله بأدائها بكل تجرد ومهنية، مؤكداً أنه غير معني بما يردده الشارع أو مواقع التواصل الاجتماعي، ومستبعداً تدخل أي من الأجهزة الرسمية في عمل اللجنة.
في السياق، لم يبد رئيس تجمع أسر شهداء ثورة ديسمبر فرح عباس فرح تفاؤله بحسم هذا الملف الحساس وفق المستوى الحالي الذي تجرى عليه الأمور، والمرتبط بشكل كبير بوضعية وخلفيات من يتولى منصب النائب العام، مشيراً إلى أنه في وقت سابق فقدت أوراق تتعلق بالقضية في ردهات وكلاء النيابة وسط اتهامات لبعضهم بالتباطؤ.
وأضاف، "أشكك في أن يتم حسم القضية في ظل المعطيات والظروف الراهنة، بل هناك ما يوحي لنا بوجود عمل متعمد لمنع حدوث تقدم في هذا الملف، فمثلاً رفع الحصانات لم يتم بالصورة المطلوبة كما لم تتوفر الضمانات المطلوبة للشهود، ولم نلتمس حتى الجدية في تنفيذ الأحكام الصادرة على من تمت محاكمتهم وإدانتهم في قضية الشهيد أحمد خير ومجزرة الأبيض التي استكملت الخطوات القضائية والقانونية كافة وحتى مرحلة المراجعة، مما يعزز شكوكنا في غياب الإرادة الحقيقية لتنفيذ العدالة داخل السودان".
تقلص الآمال
لذلك يرى فرح أن مساحات الأمل في إجراء محاكمات عادلة للقتلة تتقلص كل يوم، بينما لم يتوقف طوال تلك الفترة قتل من يطالبون بدولة العدالة لحماية الأجيال القادمة من مثل هذه الجرائم والدماء بسلاح العسكريين، مشيراً إلى تسجيل الجمعية زيارات لأسر 44 شهيداً ممن سقطوا خلال الفترة الأخيرة، في ما سماه بالمجزرة الثانية التي تمثلت فيها معظم عناصر المجزرة الأولى من حيث أساليب العنف وانتهاكات حقوق الإنسان.
وأبدى فرح عدم ممانعتهم في الاستفادة من نموذج الحقيقة والمصالحة الذي طبق في دولة جنوب أفريقيا، لكنه قال إنه نموذج يحتاج إلى وطنيين شجعان في الاعتراف أولاً بالجريمة والأخطاء التي ارتكبت، ثم من بعد تأتي مرحلة التصالح باعتبار أن من قتلوا هم أبناء الشعب السوداني قبل أن يكونوا أبناءنا نحن، وبالتالي هو صاحب الحق في العفو من عدمه، بخاصة أن الشعب السوداني شعب كريم ومسامح، لكن الذي يفتح الطريق أمام كل ذلك هو رؤية أماني وأحلام الشهداء تتحقق، ثم الشجاعة في الاعتراف بالخطأ والبدء بإعلان الحقيقة أولاً، لذلك فإن عدم الصدق وحال النكران يشكلان عائقاً أساسياً بين أسر الشهداء والقتلة.
ورفض رئيس تجمع أسر الشهداء اللجوء بأي حال إلى تكرار ما عرف بتجربة العفو العام الذي تم عام 1972 أيام الرئيس جعفر نميري عقب اتفاق أديس أبابا، لأنه كرس عدم المحاسبة والإفلات من العقاب، وكانت محصلته تكرار المجازر في فض اعتصام القيادة العامة وما بعدها، ولن يتوقف مثل هذا السلوك ما لم تتم العدالة ومبدأ المحاسبة الناجزة.
أطراف غير راغبة
وعن توقعاتهم بتأثير انقلاب 25 أكتوبر 2021 في سير التحقيق أكثر مما هو عليه، قال رئيس تجمع الشهداء إنه "بدأت تتشكل لدينا قناعة بأنه لن تكون هناك محاكمات طالما ظل العسكريون مهيمنين على مقاليد السلطة، لذلك نحن أمام واقع مرير تتعدد فيه الجيوش إلى جانب وجود مجموعات مسلحة كنا نتوقع منها أن تدعم مطالبنا، لأن الشهداء هم من صنعوا الثورة التي جاءت بهم، لذلك لا أظن أن هذه الظروف تسمح ولا نتوقع أن تتحقق فيها العدالة المنشودة".
وأضاف فرح، "مع احترامنا لرؤية رئيس اللجنة الوطنية بعدم التعجل في التحقيقات لكننا استشعرنا مبكراً الاستعجال في تكوين اللجنة نفسها، وطالبنا رئيس الوزراء بضرورة دعمها وتوفير التسهيلات المطلوبة لها، وعلى الرغم من التأكيدات بتوفير كل ما هو مطلوب لكن تساورنا شكوك كبيرة في أن هناك أطرافاً لا ترغب في وصول هذا الملف إلى نهاياته، بخاصة في ظل الواقع الذي تعيشه الأجهزة العدلية في البلاد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد رئيس جمعية الشهداء أنهم لجأوا إلى تحريك هذا الملف على الصعيد الدولي عبر تفويض محامين سودانيين وهولنديين في هولندا، تم تسليمهم كل الصور والفيديوهات الخاصة بالمجزرة، وينتظرون ما ستسفر عنه لجنة التحقيق الوطنية ليقرروا بعدها ما إذا كانت القضية ستأخذ طريقها إلى العدالة هناك، على الرغم من عدم رغبتهم في الاحتكام إلى العدالة الدولية إلا إذا فرض عليهم الواقع الداخلي ذلك، ووجه رئيس تجمع أسر الشهداء رسالة إلى كل من رئيس مجلس الوزراء عبدالله حمدوك ورئيس اللجنة الوطنية نبيل أديب، مطالباً بتغليب وطنيتهما وضرورة أن تكون هناك محاكمات عادلة في هذه القضية حتى ينفتح الباب للعدالة والأفق لبناء سودان الثورة بالحرية والسلام والعدالة التي جاءت بدماء وأرواح هؤلاء الشهداء، مبيناً أن فعاليات الاحتفال بالذكرى الثالثة لثورة ديسمبر ستحمل هذه المرة مفاجأة للشعب السوداني بشيء غير مشهود من قبل لأجل إيصال رسالتنا بكل قوة ووضوح، بالتضامن مع لجان المقاومة.
ولفت فرح إلى أن الجمعية التقت في 2020 وفداً من الكونغرس الأميركي وعد بتقديم العون الفني للجنة الوطنية، "وأكدنا لهم بدورنا أن في السودان قضاة شرفاء أرسوا أسس وقواعد العدالة والقانون في كثير من دول أخرى، كما أوصلنا صوتنا إلى رئاسة مجلس الوزراء، ولكن بكل أسف لم نجد الاستجابة المطلوبة سوى الحديث المكرر عن خطوات جارية من دون أن نرى نتائجها".
تداعيات النتائج
وفي سياق متصل، رأى الناشط السياسي الإعلامي عوض عدلان أن من الصعوبة إعلان نتائج أو اتخاذ قرارات بشأن التحقيق في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة لأسباب عدة، أهمها أن هناك جهات عليا قد يمسها التحقيق باعتبارها متهمة بالضلوع في تلك المجزرة وهي مازالت على سدة الحكم وتملك السلطة والقرار، وبالتالي لا نتوقع أن تسمح بظهور النتائج الحقيقية لتلك الأحداث المفجعة، ولكن وفق ما تردده المباحث فإن الجريمة لا تموت، وسيأتي اليوم الذي ستظهر فيه الحقائق كاملة مهما طال الزمن، لأن التاريخ لا يرحم.
واعتبر عدلان أن تلك الملابسات هي ما تجعل اللجان المتخصصة تطاول في أمر التحقيقات، لأن التطرق إلى نتائج التحقيق في هذه المرحلة المعقدة التي يعيشها السودان قد يرخي بظلال خطرة على الوضع السياسي، ولذلك يحاول الجميع تجاوز هذا الأمر حتى لا يؤثر في الخطوات الجارية في التحول الديمقراطي، كما يستخدم التحقيق من حين إلى آخر كوسيلة ضغط على بعض الجهات المؤثرة التي تستولى على مقاليد الحكم حتى تكتمل خطوات التحول المنشود، ومن بعد فإن المحاسبة قادمة لا محالة.
وأضاف عدلان أن الحديث عن إعلان نتائج التحقيق في تلك المجزرة البشعة في هذه المرحلة يعد ضرباً من المستحيل، لكن ربما يؤجل الأمر بطريقة ما حتى اكتمال مراحل التحول الديمقراطي، ويترك الموضوع للتعاطي معه من جديد في ظل الحكومة المنتخبة المنتظرة بعد انتخابات 2023، وما يتبعها من تفعيل لكل آليات العدالة المنتظرة.
القلق والشكوك
وقال الناشط في لجان المقاومة خليفة أحمد إن التأخير الذي يشوب عمل اللجنة مهما كانت أسبابه، فهو لم يأخذ في الحسبان أهمية وحساسية القضية، معتبراً أن أبعادها السياسية لا تبرر تمديد الوقت، فضلاً عن أن عدم تنفيذ الأحكام التي صدرت بحق قتلة بعض من الشهداء من العوامل التي تعزز الشكوك والقلق لدى أسر الشهداء والشارع الثوري، وسأل أحمد عن السبب وراء عدم تقديم تقرير مرحلي أو حتى تنوير دوري كل ثلاثة أشهر مثلاً، عما توصلت إليه التحقيقات من باب الشفافية وعرض المعلومات المتاح إعلانها أو تداولها، لأن ما يحدث الآن أشبه بالتعتيم المتعمد، مما يثير القلق والشكوك والمخاوف.
وفي الثالث من يونيو 2019 فض مسلحون يرتدون زياً عسكرياً اعتصاماً للمطالبة بتسليم السلطة للمدنيين أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في أبريل (نيسان) من العام ذاته، وأسفرت عملية الفض عن مقتل أكثر من 66 شخصاً بحسب المعلومات الرسمية من وزارة الصحة، بينما قدرت قوى إعلان الحرية والتغيير آنذاك عدد الضحايا بـ 128 قتيلاً، يرجح أنها ارتفعت لاحقاً إلى ما يقارب 200 قتيل، بخلاف المفقودين والمصابين والانتهاكات الأخرى، وبينما تحمل قوى الحرية والتغيير المجلس العسكري الذي كان يتولى السلطة وقتها مسؤولية الأحداث، ينفي الأخير إصداره أي أوامر بفض الاعتصام.