يتوقع أن تتجاوز معدلات التضخم في الاقتصاد التركي، وهي الآن فوق 21 في المئة، حاجز نسبة 30 في المئة في الأشهر المقبلة مع استمرار تخفيف السياسة النقدية من قبل البنك المركزي بطلب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. واضطرت بورصة اسطنبول لتعليق التعامل ليوم الجمعة 17 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، بعدما واصلت العملة التركية، الليرة، الهبوط الحر أمام الدولار. وكان ذلك تطوراً منطقياً بعد قرار البنك المركزي التركي الخميس 16 ديسمبر، خفض سعر الفائدة مجدداً بنسبة 1 في المئة، على الرغم من ارتفاع معدلات التضخم، على عكس كل المنطق الاقتصادي في بقية دول العالم.
وخفض البنك المركزي التركي في الأشهر الأخيرة، سعر الفائدة بمقدار أربع نقاط مئوية كاملة، من 19 في المئة بداية سبتمبر (أيلول)، إلى 15 في المئة نهاية هذا الأسبوع. وهكذا فقدت الليرة أكثر من نصف قيمتها هذا العام، على الرغم من تدخل البنك المركزي أكثر من مرة بضخ مليارات الدولارات في السوق لدعم العملة المحلية.
وأصبح الوضع بالنسبة لأغلبية الشعب التركي، البالغ تعداده حوالى 83 مليون نسمة، في غاية الصعوبة مع استمرار ارتفاع الأسعار. لكن الرئيس التركي يصر على أن سياسة خفض سعر الفائدة، بالتالي سعر صرف العملة المحلية، يدعم الصادرات التركية التي ستزيد من معدلات النمو الاقتصادي. لكن أغلب الاقتصاديين في تركيا يرون أن الرئيس يُدخل البلاد في تجارب اقتصادية كارثية. وقال محافظ البنك المركزي التركي السابق دورموس يلماظ هذا الشهر، إن أردوغان يحول تركيا إلى "مختبر لأفكار كلها شطط".
الصين أم زيمبابوي؟
وشبّه أردوغان أخيراً سياسته بما فعلته الصين في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين باتت ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وأشار إلى الإصلاحات الاقتصادية في الصين في عام 1978، كدليل على أن سياسته بخفض قيمة العملة ستجعل الاقتصاد التركي ينمو إلى آفاق غير مسبوقة.
"لكن تخفيض الصين لقيمة عملتها الوطنية، اليوان، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تزامن مع تطبيقها "رؤية صناعية" واضحة كانت الأساس التي بنت عليه تطورها الاقتصادي"، وفق علي أكميك، من جامعة ياماغوتشي في اليابان. ونقلت صحيفة "فاينانشيال تايمز" عن أكميك قوله، "ليس لدى تركيا سياسة تصنيعية واضحة ومحددة المعالم، ولا نعرف أي صناعة بالضبط تحاول الحكومة الترويج لها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونقلت "فاينانشيال تايمز" عن مصرفي في لندن، متخصص بالاقتصادَين التركي والصيني، قوله إنه "من الجنون اقتصادياً أن تتصور إمكانية أن يبني بلد ما اقتصاداً يعتمد على التصدير استناداً إلى عملة وطنية منهارة. فلو أن الأمر كذلك لكانت زيمبابوي أصبحت قوة عظمى تكنولوجياً".
ومع أن القطاعات التي تعتمد على التصدير تستفيد فعلاً من هبوط سعر صرف الليرة في جعل صادراتها أكثر تنافسية، إلا أن ذلك لا ينعكس على الأغلبية العظمى من جماهير الأتراك. ويقول جيسون توفي، من شركة الاستشارات "مبيتال إيكونوميكس"، "يقدم أردوغان المصدّرين على المواطنين العاديين. وإذا نظرنا إلى القاعدة المؤيدة له انتخابياً، فما يجري ليس له معنى".
بعض هؤلاء المصدّرين، مثل شركات الطيران وشركات صناعة الأسلحة وصناعة السيارات وشركات الكيماويات، يستفيدون فعلاً من هبوط سعر صرف الليرة، حيث يبيعون صادراتهم بالدولار ويدفعون كلفة الإنتاج، مثل الأجور بالليرة. إنما هناك مشكلة الحصول على عناصر الإنتاج من خارج تركيا بالعملة الصعبة وكذلك أسعار الطاقة.
جماعات الأعمال
وبدأ كبار المصدرين أيضاً بانتقاد استمرار انهيار سعر صرف العملة التركية، لأن ذلك يجعل من الصعب عليهم تحديد أسعار منتجاتهم والتخطيط لأشهر قليلة مستقبلاً. وأعلنت رابطة "توسياد"، الذي يمثل كبار الشركات الصناعية المصدِّرة، التي تشكل 85 في المئة من التجارة الخارجية لتركيا، أن "ما تريده جماعات الأعمال هو الاستقرار".
وانضمت رابطة "موسياد" التي تمثل مجموعات أعمال مقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، أخيراً إلى الأصوات المنتقدة لسياسة أردوغان خفض قيمة العملة. وفي مقابلة مع الصحيفة الاقتصادية التركية "دنيا" الأسبوع الماضي، قال رئيس رابطة "موسياد" محمود أصملي، "يحتاج رجل الأعمال لأن يعرف كيف سيكون سعر صرف العملة في غضون شهرين أو ثلاثة، وكم سيرتفع أو ينخفض تقريباً. ولا يجب أن يبدو الرسم البياني لسعر صرف العملة وكأنه يشبه الرسم البياني لشخص يعاني من مرض ضغط الدم".
وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في مبيعات العقارات، إلا أن قطاع التشييد والبناء بدأ يشكو من الأوضاع. وهذا القطاع تحديداً وثيق الصلة بالرئيس أردوغان وأركان حزبه المقربين. ويشكل 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي التركي.
وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن القطاع إلى أنه يعاني بشدة تحت وطأة الزيادة الهائلة في كلفة المواد الخام والطاقة. التي ارتفعت بنسبة أكبر من 90 في المئة بمعدل سنوي في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
لكن أردوغان وبعض مَن يثق بهم من أركان حكمه، يرون أن زيادة الصادرات نتيجة انخفاض العملة سيؤدي إلى توسع أكثر في الاقتصاد. وبالفعل، يُتوقع أن يصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي التركي هذا العام إلى 9 في المئة. وسيبقى الانتظار ما إذا كان قطاع التصدير سيواصل النمو في الأشهر الستة المقبلة، مع استمرار اضطراب سعر صرف العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم نتيجة خفض أسعار الفائدة.