يتلقى سارد رواية "أمي عميلة سرية" للكاتب المجري (الهنغاري) أوندراش فورغاتش، اتصالاً من أحد معارفه، يخبره بأن هناك تقارير رسمية ورد فيها اسمه، ويسلمه نسخة عنها. عندما يطلع عليها، يكتشف أن أمه كانت عميلة سرية للنظام الشيوعي. يحكي أوندراش فورغاتش، سارد الرواية وكاتبها، كيف جندت أمه فلسطينية الأصل في فترة الحرب الباردة، وكيف كانت تكتب التقارير السرية عن كل من حولها، بمن في ذلك أبناؤها. الأم هذه واسمها اليهودي هو "بروريا" كانت تناصر القضية الفلسطينية، وتناهض دولة إسرائيل. إذاً، فلماذا وافقت على العمل للنظام الشيوعي في بلدها؟ وافقت لأنها كانت "شيوعية مخلصة"، ولأن زوجها الذي حمل الاسم الحركي "باباي" كان عميلاً قبلها، لكن عندما أصابه الخرف كان لا بد أن تحل مكانه، فأصبحت "الزميلة السرية"، أو "السيدة باباي". هذه الرواية نشرت عام 2015 تحت عنوان "أغلق الملف"، ورشحت لجائزة الأدب الأوروبي عام 2019، وترجمتها إلى العربية ريم داوود لحياب دار "العربي" القاهرية.
الأب "باباي" تكلفته الاستخبارات الهنغارية بالعمل في لندن تحت ستار أنه صحافي. وحدد له الضابط "تاكاكس" مهمة تتلخص في: مصادقة أكبر عدد ممكن من كبار الموظفين الحكوميين، ووزراء وأعضاء في البرلمان ممن ينتمون إلى أي حزب، من اليمين أو من اليسار. طلب منه أن يتعرف على محرري الصحف واسعة الانتشار حتى ولو كانت توجهاتها رجعية، "بل على العكس كلما كانت رجعية كان ذلك أفضل... قم بمصادقتهم وكسب ثقتهم".
حياة مزدوجة
الحياة المزدوجة التي عاشها الأب، بحسب السارد، عرضته للبارانويا، وأجبرته على تحمل عبء نفسي كبير. كان له موقف مناهض للصهيونية، لم يعجب بعض أفراد عائلة زوجته. في صيف 1947 هربا من فلسطين، واستقرا في المجر، حيث أنجبا أربعة أبناء. اسمه "إلم تري هاوس"، تحول إلى مارسيل فورغاتش. هو أصلاً من رومانيا. الأم اسمها قبل الزواج "بروريا آفي شاؤول". ولدت في القدس عام 1922. تعلمت في كلية العلوم الصحية. جرى تجنيدها في مارس 1975 لاختراق منظمات صهيونية والترجمة من العبرية إلى الإنجليزية. والدها "آفي شاؤول" كاتب وشاعر شيوعي، اختار البقاء في إسرائيل. بسببه تم رفض تعيين زوج ابنته في وزارة الخارجية الهنغارية. عانى "مارسيل فورغاتش"، بحسب إحدى رسائل زوجته إلى الاستخبارات من جراء التعبير عن رأيه بوضوح في الراديو الرسمي تعليقاً على حرب 1967. اتهم بمعاداة السامية، وباستفزاز مشاعر الجماهير. تلقى سيلاً من المضايقات الشديدة من أنصار الصهيونية. دمروه ولطخوا سمعته. هاجم عقله ظلام دامس. الاضطهاد طاول جميع أفراد الأسرة. قبل ذلك تعرض كثيرون من أفراد عائلة "السيدة باباي" للإبادة خلال سنوات الفاشية.
كانت "السيدة باباي"، بحسب ابنها أوندراش فورغاتش، أكثر ثقافة من الضابط المسؤول عنها بمراحل. كانت من أكبر المدافعين عن الحزب باقتناع تام. في بعض الأحيان فاقت أهمية الحزب أهمية أسرتها التي تقدسها، لكن الضباط المسؤولين عنها لم يكفوا أبداً عن الشك في ولائها وولاء زوجها وأبنائها الذين يشكلون وفق أحد هؤلاء الضباط "قبيلة من اليهود الشيوعيين".
نوستالجيا
قالت لأحدهم، ويدعى الرفيق "دورا" إن أولادها غير قادرين على الاندماج مع "الأوضاع السياسية الراهنة"، وهذا يفسر هرب ابنتها إلى موسكو. كجزء من عملها الاستخباراتي التحقت بمعهد دولي للصحافة. في الظاهر تدرس. وفي الحقيقة كانت تراقب الطلاب من جنسيات مختلفة وتجمع معلومات عن أفكارهم وأنشطتهم. في لحظات الضعف والإرهاق والخوف كان لسانها يتحول إلى العبرية تلقائياً دون أن تلاحظ ذلك. في آخر لحظات احتضارها بعد إصابتها بسرطان الرئة، صرخت بالآية التوراتية: "اسمع يا إسرائيل"، ثم فارقت الحياة. أدخلت المستشفى في 17 نوفمبر 1985، وتوفيت بعد 13 يوماً.
كانت تعرف اللغة العربية إلى جانب العبرية والإنجليزية والهنغارية، لكنها كانت غير راضية عن تضاؤل صلتها بلغتها الأم: "ليس لديّ لغة أصيلة: لم أعد أجيد العبرية، ولم أتمكن من تعلم الهنغارية على النحو الصحيح أبداً" (ص191). كانت تؤمن بأنه حين يرفض النظام تقبل النقد، فإن الموهوبين يصبحون عرضة للتطرف.
الشاعر "جيورجي بيتري" له مجموعة شعرية بعنوان "سقوط مقيد"، ويعد مثالاً على تلك الحالة، فقد رفضت السلطات منحه جواز سفر.
بموت "السيدة باباي" ينتهي القسم الأول من الرواية ليبدأ القسم الثاني، ويحمل عنوان "بروريا ومارسيل".
جاء في أحد يوميات الأب: "لا أدري لماذا يعيدون تقييم نشاطي السابق، ويصرون على فضح تعاوني مع كتائب الجنرال مونتغمري في حين أنني أوضحت في جميع وثائقي أنني التحقت بالجيش الإنجليزي بناءً على توجيهات الحزب الشيوعي الفلسطيني بين عامي 1044 و1946. كتب الابن: "لم أكن أعرف أنا بابا جاسوس، وأنه كان فاشلاً في ذلك".
تعليقات على ما حدث
في القسم الثاني من الرواية يستعرض الكاتب التقارير التي تضمنها الأرشيف السري لعمل أمه مع الاستخبارات الهنغارية، ويعلق عليها، علماً بأن بعض تلك التقارير أورده فورغاتش في هوامش القسم الأول من الرواية.
يعلق على أحد تلك التقارير بقوله: "لطالما تورطت بروريا في جدل مع الضباط المسؤولين عنها. كثيراً ما تراجعت عن مواقفها بطريقة لا تخلو من المهانة، لكنها سرعان ما كانت تعود لأسلوبها المعتاد معهم. قدمت خدمات كثيرة للنظام، سواء في الترجمة أو في التمريض، ونالت مقابل ذلك مكافآت مادية بطبيعة الحال، قبلتها باعتبارها حقاً من حقوقها. ومع ذلك فإنها كانت في صراع دائم مع المسؤولين عنها، في كل خطوة تخطوها على دربهم. كثيراً ما وصفت مساعيها بالقول: "زحفت على بطني المدماة من أجلكم". من أجل انتظام زياراتها لأقاربها في إسرائيل، وهي الزيارات التي لم تستطع التخلي عنها أبداً، طالبت المسؤولين بجواز سفر لنفسها ولأبنائها، أي أنا وشقيقي الأكبر وأختي الصغرى".
ورأى الابن أنه لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته أمه في احتضان صغارها، "جعلت من نفسها درعاً بشرية لحمايتهم، وإقناع الجميع بأن أولئك الأبناء الذين ينتمون إلى حركات فنية مختلفة، تتخذ من المدارس الغربية نموذجاً، والذين تظهر أسماؤهم بين الحين والآخر في تقارير وزارة الداخلية، ليسوا سوى مواطنين شديدي الإخلاص للنظام الحاكم"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قدمت لهم مساعداتها باقتناع تام، وفي المقابل أفسدوا حياتها. سمحت لهم باستغلالها عبر اقتناعها بقدرتهم على فعل أي شيء، وهو ما جعلها تخضع لهم بذل وخنوع. كانت مقتنعة بأن هؤلاء الناس يخوضون صراعاً من أجل الحق والخير، لكنها في النهاية تخلت عن هذه القناعة، ولم تجد الكلمات المناسبة للتعبير عن ذلك، بحسب تلك السيرة العائلية.
كان علاجها الوحيد يتطلب أن تعود إلى وطنها، لكن ذلك كان مستحيلاً، ولذلك ظل شعورها بالنوستالجيا يتعاظم كلما عادت من إسرائيل إلى هنغاريا. شيء من حزنها الغامض مرتبط بوطن مفقود، عالم سري يدعى فلسطين، تجاور فيه شعبان، وعاشا معاً تحت سيطرة قوة أجنبية. تتراجع الأعراض لبعض الوقت، ثم تعود فتضربها بقوة أكبر. لا شك أن النوستالجيا التي عانتها، لعبت دوراً رئيساً في إصابتها المتكررة بحمى القش في الفترة الممتدة بين فصلي الربيع والخريف. يكتب الابن: "كانت تخضع لتلك النوبات باستسلام تام، علها تزيل شيئاً من آلام روحها التي تكاد تدفعها للجنون. ويضيف في تعليق آخر: "الأب والأم كانا بين الشيوعيين مجرد يهوديين، وبين اليهود مجرد شيوعيين، وبين الشيوعيين كانا هنغاريين، وبين الهنغاريين كانا أجنبيين، مواطنين دون وطن.
الأم اسمها يعني الوضوح واللمعان، وقد أطلق عليها والدها هذا الاسم تيمناً بابنة الحاخام حانينا بن تيراديون الذي تعرض للحرق على يد الرومان، والتي لها أكثر من عبارة حكيمة في التلمود البابلي.
في قصيدة له يصف فورغاتش أمه بأنها "لم تكن سوى ترس صغير داخل عجلة، كانت تتأرجح بين وطنين وبين خيانتين، كانت فلسطين هي الأرض الوحيدة التي تحتضنها بترحاب، فهناك تكونت أعضاؤها".