عمد الإنسان، في خوفه من المستقبل، إلى تأمين نفسه وممتلكاته وغده، من خلال تخزين الطعام والمعادن النفيسة وادّخار الأموال، ثم تطورت فكرة الادّخار إلى شكل بدا أكثر تنظيماً وأماناً وضماناً، شمل فكرة البنوك، والتأمين الاجتماعي، والتأمين على الحياة والممتلكات، وفكرة الكفالة، وغيرها.
في هذا التقرير سنتناول موضوع الاستثمار في الخوف من زوايا عدة، بالاستعانة بعلم الاقتصاد السلوكي وعلم النفس. فاليوم، لم يعد بإمكاننا الفصل بين هذين العلمين، إذ إن الأول يعتمد في تعزيز وجوده على الثاني.
ونتساءل: كيف استطاع الخوف أن يتملك الناس ويدفعهم إلى الانصياع؟
وإلى أي حد في إمكان آليات التسويق النجاح في دفع المستهلك إلى أخذ قرار معين ثم التحول إلى نقيضه خلال أقل من سنة؟
وكيف تخلق المشكلة، ثم توجه الغالبية في اتجاه الحل المعد مسبقاً؟
وهل صحيح ما أقرّه الفيلسوف وعالم الاجتماع صاحب النظريات النقدية الاجتماعية، تيودور أدورنو، في أحد تعليقاته حين قال: "العالم يهوى الخداع، والبشر لا يقعون ضحية الغش والاحتيال وفق الاعتقاد السائد، إنهم يتلذذون بالوقوع فريسة الغش والخداع"؟
الخوف المشتق
لقد أدى ظهور الدوريات الإخبارية على مدار 24 ساعة، وإرشادات السفر، ومستويات تهديد الإرهاب، التي تدعي أنها تعكس المشهد المتغير للمخاطر، إلى إنتاج وإدامة ثقافة الخوف، أو ما يسمى الخوف الحديث، الذي عبّر عنه زيجمونت بومان، أستاذ مادة علم الاجتماع في جامعة "ليدز" سابقاً، في نظريته السائلة، عندما قال: "لقد أثبتت حياتنا أنها مختلفة عن الحياة التي تصورها، وشرع في رسمها حكماء عصر التنوير وورثتهم ومريدوهم، ففي الحياة الجديدة التي رسموها، وعزموا على صنعها كان يراودهم الأمل بأن الكبح البطولي للمخاوف ومنع تهديداتها سيتحققان بضربة واحدة، ولكن في الحياة الحديثة السائلة اتضح أن الصراع ضد المخاوف هو مهمة ستستمر مدى الحياة".
والآن، يسود الاعتقاد أن الأخطار الباعثة على الخوف، حتى وإن كانت تحت السيطرة، هي أخطار دائمة، وأحوال ملازمة يتعذر فصلها عن الحياة البشرية. وهو خوف، بحسب تعبير بومان، من الدرجة الثانية، يُعاد تدويره اجتماعياً وثقافياً، أو كما سماه "الخوف المشتق" الذي يتحكم في البشر ويعيد تشكيل السلوك البشري، حتى وإن اختفى التهديد المباشر للاستقرار أو الحياة. ويميزه شعوران أساسيان هما الشعور بفقدان الأمان في عالم يعجّ بالأخطار، والشعور بالعجز عن الدفاع أو الهرب في حال وقع الخطر.
العيش في الضباب
ويفسر الروائي ميلان كونديرا، في مجموعة مقالات تحت عنوان "الوصايا المغدورة"، أن محيط حياتنا غارق في الضباب، إذ لا نرى شيئاً، ونعجز عن الحركة. ففي الضباب، يكون المرء حراً، لكنها حرية في الضباب. فنحن نرى على مسافة معينة فحسب، لا تتجاوز الخمسين قدماً، ومن سمات "العيش في الضباب" أن يقيننا يستهدف جهودنا الاحترازية، ويركزها على الأخطار المرئية والمعلومة والقريبة، تلك الأخطار التي يمكن توقعها وحساب احتمالاتها، وعندما نركز على الأشياء التي يمكن أن نفعل شيئاً حيالها، لا نجد وقتاً لشغل أنفسنا في أمور لا نستطيع أن نفعل أي شيء بشأنها. وهذا يساعدنا على المحافظة على سلامة عقولنا، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة أننا "أكثر أماناً".
وهنا، يتحدث عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك، الذي صاغ مصطلح "مجتمع المخاطرة"، عن خصائص المخاطر المعاصرة، فيعتبر أنها غير خاضعة للفحص الشخصي، ولا يمكن تأييدها، ولا رفضها باطمئنان بالوسائل الشخصية، بل يمكن ترويجها بسهولة داخل المعتقدات العامة، أو إخراجها من المعتقدات العامة بسهولة وفي معركة الآراء، فإن أصحاب أقوى عضلات البث والدعاية هم من لديهم أفضل فرصة للفوز.
من الأمن الاجتماعي إلى السلامة الشخصية
ويصنف بومان الأخطار التي يخشاها المرء إلى ثلاث فئات: فئة خاصة تهدد الجسد والممتلكات، وفئة ذات طبيعة أعمّ تهدد بقاء النظام الاجتماعي الذي يقوم على ضمان لقمة العيش (الدخل والوظيفة)، أو تهدد البقاء في حالة العجز أو الشيخوخة، وفئة ثالثة تهدد موقع المرء من العالم، مكانته وهويته الاجتماعية (الطبقة، والنوع، والعرق، والدين).
ويتابع، "الدولة على سبيل المثال، أقامت علّة وجودها وحقها في امتثال المواطنين لها على الوعد بحماية رعاياها من الأخطار التي تهدد وجودهم، ولكنها لم تعد قادرة على الوفاء بوعدها (لا سيما الوعد بالحماية من أخطار الفئتين الثانية والثالثة)".
ويردف أن "الأفظع من ذلك هو انتشار المخاوف بشكل واسع، وتسربها من كل شبر من كوكبنا، من بيوتنا وشوارعنا وأماكن عملنا، ومن شاشات التلفزيون البرّاقة، ومن وسائل النقل، ومن الناس من حولنا، ومن الأطعمة، ومن الطبيعة، إذ أصبح العالم مهدداً في أي لحظة بأعمال إرهابية وجرائم عنف واعتداءات متنوعة وطعام سامٍ وهواء ملوث وماء ملوث وفيروسات وأمراض مستجدة".
تسويق رأس مال الخوف
ويجادل بومان بأن السلامة الشخصية صارت منفذ بيع رئيساً، بل وربما منفذ البيع الرئيس لكل استراتيجيات التسويق. وأصبح عرض الأخطار المهددة للسلامة الشخصية ميزة رئيسة في حروب تصنيف جودة وسائل الإعلام وترتيبها، ما يزيد من نجاحات تسويق رأس مال الخوف. فبينما تتغذى الديمقراطية على رأس مال الثقة في المستقبل والثقة في النفس والقدرة على الفعل، تتغذى دولة السلامة الشخصية على الخوف واللايقين، العدوان الأصيلان للثقة.
ويكشف فيكتور جروتوفيتش، مؤلف كتاب "الإرهاب في أوروبا الغربية"، في واحدة من دراساته عن الطرق التي استغلت بها الحكومة الألمانية في أواخر السبعينيات من القرن العشرين الانتهاكات الإرهابية التي ارتكبتها جماعة الجيش الأحمر. ففي عام 1976، كانت نسبة المواطنين الألمان الذين كانوا يعتبرون السلامة الشخصية قضية سياسية كبرى، لا تتجاوز سبعة في المئة، لكن بعد ذلك بعامين كانت غالبية معتبرة من الألمان تنظر إلى السلامة الشخصية باعتبارها أهم من مكافحة "البطالة والتضخم"، متأثرة بما كان يبث لها على شاشات التلفزيون على مدار عامين!
البحث المسعور عن الأمن
وكشف روبرت كاستل، عالم الاجتماع الفرنسي الذي بحث في كيفية تصاعد القلق الاجتماعي، عن مفارقة في تحليله القلق الحالي الذي يغذيه فقدان الأمان عندما قال، "نحن نعيش في الجزء المتقدم من العالم، الأكثر غنى وتحديثاً وحرصاً على مواصلة التقدم والتحديث، ونحن من الوجهة الموضوعية أكثر الناس أمناً في تاريخ البشرية، فنحن نملك وسائل عبقرية وفعالة تعيننا على التنبؤ بالأخطار ومنعها ومحاربتها، ولكن في هذا الجزء الآمن المترف تحديداً، حققت المخاوف المحيطة والهوس بالأمن أعظم تقدم في السنوات الماضية في أوروبا. فعلى العكس من الدليل الموضوعي نجد أن من ينعمون بأفضل راحة، ومن يتمتعون بترف ورغد، هم من يشعرون بأنهم أكثر عرضة للخطر والخوف وفقدان الأمان، وهم أكثر عرضة للذعر والهلع".
وقد حاول كاستل أن يفك هذا اللغز، فذهب إلى القول إن "شعورنا الشديد بفقدان الأمان لا يصدر عن ندرة الحماية، بل عن عدم وضوح نطاقها في عالم اجتماعي يتمركز تنظيمه حول طلب لا نهائي للحماية وبحث مسعور عن الأمن. إن هوس البشر بالأمن وعدم تحملهم أي ثغرة بسيطة صار أخصب مصدر لقلقنا وخوفنا".
وهذا أثر جانبي للوعد الحديث والاعتقاد الواسع المصاحب له بإمكانية تحقيق أمن تام، وحياة خالية من الخوف عبر الاكتشاف العلمي والتكنولوجي المستمر. وهذا القلق الدائم يوحي بأن الحداثة لم تفِ بوعدها، وأن وعدها لم يتحقق.
الاقتصاد الاستهلاكي واستغلال الأزمات
ولطالما ارتبط الانتشار العام للخوف بالظلام وعدم الوضوح وعدم اليقين. كل ما هو غامض ومتقلب وبلا أسباب ويحيط به الجهل وقلة المعلومات التي تمكننا من معرفة إمكانية منع القادم أو تجنبه أو صده من عدم إمكانيتنا. فالخوف يقوض قدرة الفرد على التفكير بوضوح. بالتالي، يدفعه إلى التوجه نحو أقرب مخرج كخيار، بدل التفكير في الخيارات الذكية والصحيحة والمناسبة، وهذا ما يبني عليه مستغلو الأزمات، فغالباً ما يطرح الحل مع الأزمة أو بعدها بقليل، وفي أحيان أخرى قبلها، ليكون الخيار الأقرب والأكثر طلباً. ويطلق على هذا التأثير اسم "الحمل النفسي المفرط". فهناك نوع من المخاوف التي تدخل حياتك ومعها علاجها، الذي تسمع عنه غالباً قبل أن يتمكن منك الخوف، وهذا ما يسمى خلق الأزمات والاستثمار فيها أو استغلال أزمة مستجدة. فعلى سبيل المثال، كشفت الصحافية البريطانية كاترين بينيت خدعة صفقة مجملة لعلاج طبيعي باهظ الثمن يحذر من أن التغذية غير السليمة مسؤولة عن حدوث شيخوخة مبكرة، وعن بشرة شاحبة، ووجه مجعد جاف، كل ذلك لطمأنة الزبائن بأن التخلص من التجاعيد مدى الحياة يمكن تحقيقه باتباع برنامج يستغرق 28 يوماً، بتكلفة لا تتجاوز 119 جنيهاً استرلينياً. وهذا بمثابة نموذج لعدد لا نهائي من الأمثلة الأخرى في الاقتصاد الاستهلاكي تعتمد على إنتاج المستهلكين، من النوع الخائف الذي يتملكه الرعب ويراوده الأمل بقدرته على طرد الأخطار بمساعدة، مدفوعة الأجر بالتأكيد.
ففي الوقت الذي يعتقد فيه الخائف أن القرار صادر عنه، هو في الحقيقة يتوجه تلقائياً لتنفيذ خطة "صرف" معدة مسبقاً، في حال ساءت الأمور تذهب المصاريف في اتجاه الغذاء والذهب، وإذا أصبحت جيدة تنحو باتجاه السياحة والترفيه والمتعة.
ويقول آدم كرتس، صحافي ومخرج في قسم الشؤون المعاصرة في "بي بي سي"، إنه لا توجد وحوش مُرعبة جديدة، بل يوجد استمرار لداء الخوف، فالخوف موجود، وهو يتسرب إلى الوجود الإنساني اليومي، بينما يتوغل الاقتصاد الحر في أساساته، وتتداعى الحصون الدفاعية للمجتمع المدني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الذات الباحثة عن النجاة
وطرح بحث على "هارفارد بزنس ريفيو"، طريقة الوعي بذواتنا للسيطرة على سلوكياتنا في مواجهة التهديدات والمخاطر، عبر ابتكار نموذج مكون من ثلاث ذوات، الذات العاجزة والذات العاقلة والذات الباحثة عن النجاة. وبُني هذا النموذج على البحوث التي تدرس تأثير الصدمات على الجسم والجهاز العصبي، وخصوصاً النموذج العلاجي الذي يطلق عليه اسم المعاناة الجسدية الذي طوره عالم النفس بيتر ليفين. والهدف منه العمل على تفعيل دور الذات العاقلة التي يمكنها تهدئة الذات العاجزة، لأنه عندما نشعر بالتهديد تسارع الذات الباحثة عن النجاة إلى إبداء سلوك دفاعي بشكل متهور وعشوائي يفضي غالباً إلى نتائج عكسية. وعندما تهيمن علينا الذات الباحثة عن النجاة نشعر بالتهديد، وتتعطل قشرة الفص الجبهي التي تمثل مركز السيطرة في أدمغتنا تدريجياً، ويحل رد الفعل محل التروي والتفكير.
لذا، تتمثل الخطوة الأولى في أن نصبح أكثر وعياً بأحاسيسنا، وهو ما يعني تنمية القدرة على مراقبة عواطفنا بدلاً من الخضوع لها. فتحديد هوية مشاعرنا يمنحنا القدرة على تجنبها، خصوصاً عندما تكون هذه المشاعر سلبية للغاية.
ويتابع المقال، "وتتمثل الخطوة الثانية في تهدئة أنفسنا بغض النظر عما يدور حولنا، وبمجرد أن تشعر بالهدوء وأنك أكثر قدرة على التفكير، يمكنك أن تفسح المجال لذاتك العاقلة للسيطرة. وعند تملك ذواتنا العاقلة زمام الأمور، سننتقل من أحاسيس يسودها القلق والخوف إلى أحاسيس أكثر هدوءاً يمكننا من خلالها احتواء ذواتنا الأكثر ضعفاً كي لا نشعر بالإرهاق".
في المقابل، تتيح لنا ذاتنا العاقلة توسيع وجهات نظرنا عند توليها المسؤولية، وتمكننا من التمييز بين الحقائق والقصص التي قد نختلقها بأنفسنا.
وبحسب تعبير بومان، طالما الأمور حتى الآن على ما يرام، ويمكن أن تكون أسوأ، ضع ذلك في الحسبان، ولا تشغل بالك بعبور الجسر قبل أن تصل إليه، فقد لا تقترب منه أبداً، أو قد ينهار الجسر أو ينتقل إلى مكان آخر قبل أن تصل، فلم تقلق الآن؟
الأجدر بك أن تهتدي بالحكمة القديمة التي تقول "انعم بيومك"، أي ببساطة "استمتع الآن، وادفع فيما بعد".
وكما قال فرانكلين روزفلت، الرئيس الثاني والثلاثون للولايات المتحدة، في خطابه عام 1933: "الأمر الوحيد الذي لا بد أن نخافه، هو الخوف نفسه".