"ما أبعد الليلة عن البارحة"، البارحة التي كانت قبل نحو أربعة عقود، حين كانت تردد فيها آلاف الحناجر المحتشدة بـ"ملعب الثورة" في صنعاء، جملتها الشهيرة "حيّو اليماني حيوه" ذلك في أواخر مارس (آذار) من عام 1986، حين كانت الديار سعيدة، أما الليلة فكانت ليلة الـ23 من ديسمبر (كانون الأول) 2021، حين تحول ذلك المعلم التاريخي الرياضي العتيق إلى ثكنة عسكرية حاضنة للموت والمتفجرات بفضل جماعة الحوثي المدعومة من إيران، قبل أن يتحول بعد ذلك إلى رماد بفعل غارات التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن بعد مهلة الـ6 ساعات التي سبقت آلة القصف.
إنها صورة تراجيدية من صور الإخفاق السياسي في اليمن، بمآلاته القاتمة وتحولاته الوطنية القاسية، بلغت، مع توالي فشل النخب والأزمات، أن تتحول صالات أكبر استاد رياضي في قلب العاصمة صنعاء، إلى ثكنة عسكرية موحشة، وملاعبه الخضراء الأنيقة إلى ساحة متصحرة تبث صور الحشد الطائفي العنيف والتعبئة التي تحض أفواج المقاتلين على الإسراع إلى "جبهات الموت" للأخذ بـ"ثارات الحسين"، كانت تلك معطيات لها أبعادها على كافة مناحي الحياة العامة في البلد الذي بلغ واحدة من أسوأ فتراته على مر التأريخ.
الاستاد المنسي في قلب الحدث
كانت تحذيرات التحالف العربي باستخدام جماعة الحوثي لاستاد "مدينة الثورة الرياضية" بحي الجراف في شمال صنعاء كثكنة عسكرية قد أعادت التذكير بأكبر ملعب في اليمن، ظل شاهداً على استضافة كبرى الفعاليات الرياضية والمباريات الكروية في البلاد، واستحضار مشاهد حشوده الجماهيرية في المهرجانات السياسية منذ إنشائه عام 1986 التي كان بطلها الرئيس اليمني الراحل، علي عبدالله صالح والفعاليات المؤيدة لـ"صانع الوحدة وباني نهضة اليمن الحديث".
وكان التحالف العربي قد منح جماعة الحوثي مهلة 6 ساعات تبدأ من الثامنة مساء بتوقيت صنعاء "لإخراج الأسلحة" من الملعب، وقال التحالف العربي، إن "إسقاط الحماية عن الملعب سيبنى على نصوص وأحكام القانون الدولي الإنساني".
ملعب التنافس السياسي
كان عشب الملعب ومدرجاته التي تتسع لـ25 ألف مقعد، هي المكان الأكثر استحضاراً في ذاكرة حضور الجماهير المصطفة مع هذا الطرف السياسي أو ذاك، خصوصاً في عام 2006 إبان اشتعال التنافس السياسي خلال الانتخابات الرئاسية بين الرئيس الراحل علي عبد الله صالح وعلى فيصل بن شملان، مرشح "أحزاب اللقاء المشترك" (أحزاب المعارضة حينها المكونة من: الإصلاح، الاشتراكي، الناصري، والحق) وكان الخيار الأنسب لحشد المهرجانات الانتخابية لكافة الأطراف.
استخدام الملعب للتحشيد الحزبي والدعاية الجماهيرية، منذ إنشائه، يعطي دلالة واضحة لطغيان التنافس السياسي على نظيره الرياضي، وهو تجسيد عملي على اهتمامات النخب المتعاقبة، أكدته ترتيبات الفرق الرياضية اليمنية التي ظلت في ذيل قوائم التصنيفات الدولية في شتى الألعاب والمحافل الرياضية، فاستضاف مختلف الفعاليات الانتخابية والمهرجانات الغنائية وغيرها الكثير، إلى الحد الذي دفع شبان اليمن في فترة ما للسخرية من اسم الملعب الذي حمل اسم المدينة الرياضية، بينما لا تعرف ملاعبها وباحاتها إلا التحشيد الشعبي خدمة لأهداف الصراع نحو ثنائية السلطة والثروة.
في أوج الأزمة السياسية الناشئة في عام 2011 استخدمت صالات الملعب ومرافقه وملحقاته وغرف اللاعبين والحكام والعلاج الطبيعي وصالات الإحماء سكناً للحشود الجماهيرية القادمة من مختلف المحافظات اليمنية المناصرة لعلي عبد الله صالح وحزبه ضد ما عرف بـ"الثورة الشبابية"، بل وشهد محيطه مواجهات مسلحة خلال مرور إحدى المسيرات التي هتفت برحيل صالح في 27 أبريل (نيسان) قتل إثرها 13 من المتظاهرين وجرح 210 آخرين.
كما لم يجد المحتشدون غضاضة في استخدام بساط الملعب الأخضر لتناول الطعام وأعمدة المرمى لنشر غسيل الملابس وغيرها.
ملعب المقاتلين
كان لافتاً أيضاً استخدام ميليشيات الحوثي للمرفق الشبابي والرياضي الأكبر في البلاد، في حشد التعبئة الطائفية منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء في سبتمبر (أيلول) 2014 في استغلال واضح للحماية المدنية التي يفرضها على أن يظل بعيداً عن العمليات العسكرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفور دخولها صنعاء، سارعت الميليشيات بنشر مسلحيها في محيط وداخل الاستاد واحتلت مقر الاتحاد اليمني لكرة القدم الذي يقع في محيطه الشرقي، واستضافت أرضية الملعب الذي يحمل اسم أسطورة اليمن الرياضية (علي محسن المريسي)، أشهر اللاعبين اليمنيين الذي مثل نادي الزمالك المصري في أبهى فتراته خلال سبعينيات القرن الماضي، مناسبات دينية، كـ"يوم الغدير" و"يوم الولاية" وملتقى حكماء اليمن، وهي فعاليات مستنسخة مما يقوم به النظام الإيراني و"حزب الله" اللبناني وكل الفرق والحركات المرتبطة بالمذاهب الشيعية الإثني عشرية، في مناسبة كهذه، حتى في الشعارات والألوان.
المثير في الأمر، أنه وبدلاً من رفع شاشة توقيت المباراة ونتيجة الفرق المتنافسة، نصبت الجماعة الحوثية في منتصفه شاشة عملاقة تعرض فيها كلمة مصورة لزعيم الميليشيات، عبد الملك الحوثي وسط هدوء تام للمحتشدين الذين تمتلئ أوجانهم بالقات، تتخلله شعارات الموت والتلبية لـ"زعيم المسيرة القرآنية" برفد جبهات القتال ضد "المرتزقة (قوات الجيش اليمني) وقوى الاستكبار العالمي حتى استكمال تحرير القدس والثأر للحسين".
هذه الفعاليات، ألحقت بالملعب، وفقاً لمصدر في اتحاد الكرة اليمني، أضراراً بالغة تسببت في تصحر أرضيته، كما أن الوزارة التي تسيطر عليها الميليشيات منذ انقلابها أوقفت كل المخصصات الخاصة بعملية صيانة الملعب ورواتب موظفيه وعماله وغيرها.
وسخر المصدر مما وصفه بـ"تباكي الميليشيات على الاستاد الذي دمرته واستغلته أبشع استغلال بعد أن أوقفت مخصصات صيانته تهيئة لتحويله إلى ثكنة عسكرية واحتلت مقر مبنى اتحاد الكرة وأمانته العامة فور اجتياحها صنعاء وعبثت بمحتوياته ونهبت كثيراً من الوثائق والأرشيف التاريخي للكرة اليمنية والكثير من المقتنيات والجوائز والهدايا والمستلزمات الثمينة".
الاستنجاد بالإعلام
من جهتهم، نفى الحوثيون وجود أي أسلحة في الملعب وقالوا، إن "الاتهامات بهذا الشأن كذبة" مطالبين بلجنة أممية للتأكد من خلو الملعب من الأسلحة.
وقال القيادي في الميليشيات، محمد الحوثي في تغريدة على "تويتر"، الخميس، "سيتجه الإعلام للتصوير من داخل الملعب لكشف كذبة دول العدوان الأميركي البريطاني السعودي الإماراتي وحلفائه".
وأضاف "جيد إعلان تحالف العدوان مهلة لقصف الملعب المقصوف كما يفعل الكيان (الإسرائيلي) بغزة الآن".
القيادي الحوثي طالب بلجنة أممية تحضر إلى الملعب لتفتيشه، مضيفاً: "إذا وجدوا فيه طائرات مسيرة أو صواريخ كما يدعون وهي التي تخيفهم فنحن نسلمها للأمم المتحدة مباشرة، وإن كان لا يوجد أي شيء فيلتزموا التوقف عن القصف نهائياً".
إقرار ضمني
وفي وقت سابق، اعترفت ميليشيات الحوثي، عقب إعلان التحالف العربي مهلة الـ6 ساعات، بأنها حولت ملعب المريسي لثكنة عسكرية ومخزناً لأسلحتها، ووجهت مجموعة من وسائل الإعلام التابعة لها والعشرات من المدنيين إلى الملعب الرياضي في مسعى لإنقاذ موقفها، وهو الأمر الذي اضطرها إلى إجبار إدارة المرور بصنعاء الخاضعة لسيطرتها على إصدار بيان يزعم استخدام جزء من الملعب الرياضي كمقر لترسيم وترقيم المركبات، في اعتراف ضمني لتحويله لورشة لتأهيل المركبات العسكرية.
ملعب المريسي والرياضة اليمنية
بالعودة إلى ذلك المعلم التاريخي الذي لطالما استضاف كبرى المناسبات والمباريات الرياضية، كانت أولى نكساته حين قرر الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) حظر استضافة اليمن للمباريات الدولية مطلع 2011 نتيجة الاضطرابات الأمنية بالبلاد.
وكان المنتخب الذي للتو احتفى منتخب الناشئين فيه بكأس غرب آسيا للناشئين، قد استضاف مباريات كبرى على مستوى المنتخب الأول، أبرزها استضافة المنتخب الإماراتي في عام 2004 والتي انتهت بفوز المنتخب اليمني بثلاثة أهداف لهدف واحد ضمن مباريات المجموعة الثالثة الآسيوية المؤهلة إلى كأس العالم.
كما استضافت أرضية الملعب الذي تحول إلى رماد، مباراة استطاع المنتخب اليمني الفوز فيها بثلاثية نظيفة على نظيره البحريني، ضمن تصفيات المجموعة الآسيوية الأولى المؤهلة لنهائيات كأس آسيا.
وقبل ذلك، لا ينسى الجمهور اليمني الحشود الضخمة التي كانت تملأ ملعب المريسي لمؤازرة منتخب الناشئين عام 2003 في التصفيات الآسيوية ضد الكويت والبحرين وفلسطين التي فاز في جميعها وتأهل من خلالها إلى نهائيات آسيا بالإمارات وحصوله على المركز الثاني.