في عام 1923 أصدر الشيخ محمد راغب الطباخ (1877 – 1951) كتابه الموسوعي "أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء". وبعد ثلاث سنوات أصدر الشيخ كامل الغزي (1853 – 1933) كتابه الموسوعي أيضاً "نهر الذهب في تاريخ حلب". وكما أهل القرن العشرون على حلب بهذين الكتابين، ودعها عام 1981 بـ"موسوعة حلب المقارنة" لخير الدين الأسدي (1900 – 1971). وها هو القرن الواحد والعشرون يهل على الشهباء بمؤلفات إياد جميل محفوظ التي أراها حلقات في موسوعة جديدة، صدر منها ثلاث، الأولى هي: "بيوت الخفاء في حلب الشهباء: خزائن لم تفتح" (2017)، والثانية: "أعجب العجب في طبائع أهل حلب" (2018). أما الحلقة الثالثة فهي: "حكايات الجميلية" (دار الحوار – 2021). ويعد الكاتب في نهاية هذه الحلقة بحلقة جديدة خاصة باليهود في حي الجميلية الذي حمل هذا الاسم نسبة إلى أول من عمر فيه داراً سنة 1883، وهو والي حلب العثماني جميل حسين باشا. وقد كان اسم منطقة الحي "أرض الحلبة" لأن سيف الدولة الحمداني كان ينظم فيها سباقات الخيل، وكان له فيها قصر.
يحدد محفوظ هدفه من كتاب "حكايات الجميلية" بتقفي "خبايا الحجر وأسرار البشر على حد سواء، فقيمة الأمكنة ترتقي برائحة أهلها وصدى أرواحهم". ومن أجل ذلك أسس لكتابه بما في الكتب التراثية الحلبية من أخبار ومعلومات، وعاد إلى لحظة تأسيس حي الجميلية، وتابع مسيرته حيث قد يطغى أحد جناحي التراث (المادي واللامادي) على الآخر في بعض المحطات، لكنهما معاً يرسمان خريطة الحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والرياضية والفنية. أما المظان التأسيسية لكتاب "حكايات الجميلية" فهي ما تقدم ذكره للطباخ والغزي والأسدي، وللأخير أيضاً "أحياء حلب وأسواقها". ومن المصادر الحديثة: "إضاءات حلبية" لعبد الله حجار، و"ذكريات من ماضي حلب" لسعد زغلول الكواكبي– حفيد عبد الرحمن الكواكبي– و"تاريخ حلب المصور" لعلاء نديم السيد، و"تناغم الذاكرة والحجر" لمحمود حريتاني، ولحريتاني أيضاً "تاريخ اليهود في حلب".
بناية مستت
ظلت حلويات مستت لعقود واحدة من علامات حلب الشهيرة، وما أكثر تلك العلامات. وكان جد إياد جميل محفوظ لأمه (الحاج باكير فكرة مستت) شيد البناية التي حملت اسم الأسرة وظلت علامة فارقة لحي الجميلية حتى عام 1983، حين اشتراها مقاول من الورثة وهدمها. ويكتب محفوظ أن أكثر ما يؤلمه أنه كان واحداً ممن تآمروا على هذه البناية فيسروا بيعها وبالتالي هدمها. ويضيف الكاتب أنه يتوسل من كتابه أن يمنحه نوعاً من الصفاء الداخلي "لعله يحررني وإن قليلاً من وجع صامت أشبه بعذاب الضمير". ويسمي الهجمة الشرسة على حي الجميلية بالجريمة الحضارية البشعة .
يفصل الكاتب في تاريخ من سكنوا البناية، ومنهم من اليهود الخواجة يوسف الذي سكنها في الخمسينيات، وكانت زوجة ابنه سليم تنادي الطفل إياد من خلال فتحات الأباجورات الخشبية الضيقة، أو ترسل ابنها في طلبه ليسدي لها خدمة إشعال الغاز بعود الكبريت، أو إطفائه، أو كتابة معلومات على ورقة بيضاء. وسيعلم الطفل في كبره أن صنيع الجارة سببه "الإسبات" اليهودي من غروب الجمعة إلى غروب السبت.
ها هنا تلوح بناية مستت كبؤرة سردية تلوح لما سبقها من روايات تمحورت حول العمارة، مثلما تلوح لما سبقها من روايات تمحورت حول اليهود في حلب: "حمام النسوان" لفيصل خرتش، "الظهور الأخير للجد الأعظم" و"قيامة بتول الأخيرة: الأناشيد السرية" لزياد كمال حمامي، "لعنة الكادميوم" لابتسام التريسي، "وداد من حلب" لقحطان مهنا.
اليهود في حي الجميلية
على الرغم من أن الكاتب يعد بأن يكون كتابه المقبل عن اليهود في حي الجميلية، فقد جعل لليهود في كتاب "حي الجميلية" حضوراً كبيراً ومائزاً. ومن ذلك "مرافق الطائفة الموسوية" مثل كنيس الجميلية وفيه محكمة الأحوال الشخصية ومدرسة ابتدائية، وأخرى إعدادية، كذلك كنيس سيليفرا، وخان نحمات الكبير الذي بني عام 1883، واشترك فيه حسام الدين أفندي القدسي والخواجة عزرا نحمات، ثم آل إلى الأخير، وقد هدم مطلع القرن الحالي، بينما لا يزال بناء الكنيسين قائمين. ويذكر محفوظ ينطوب أفندي جداع أحد أعضاء مجلس إدارة ولاية حلب 1899، وهو من تجار المانيفاتورة. وقد كانت ملحمة أبو صطيف الشوا توفر اللحوم لليهود بالمواصفات المتناغمة مع التعاليم الدينية اليهودية الصارمة.
وهذا مقهى العطري الذي أزيل في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وكان صاحبه من أسرة صفرا الموسوية قد سماه مقهى الجميلية. وينقل الكاتب عن إدمون صفرا من أثرياء العالم الذي هاجر إلى أميركا، قوله لصديق صحافي: "خذ بعض ثروتي مقابل نفس أركيلة وصحن حمص تحت ضوء القمر في مقهى الجميلية"، وكان المقهى يقدم أيضاً صحون الحمص.
في القسم الأخير من "حكايات الجميلية" يحدد الكاتب هدفه مما خص به اليهود– وهو هدف الكتاب التالي الموعود عنهم– بتصوير مشاركتهم بخاصة في الحياة الاجتماعية، والعلاقات البينية المتسامية في الحي. وقد تقفى من أجل ذلك من أفواه المخضرمين الحكايات المنسية والأخبار المتوارية. ويذكر الكاتب أن العائلات اليهودية اختفت في العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضي، خصوصاً إثر محادثات مدريد. ويذكر جاره وصديقه عزرا خاسكي الذي تواصل معه بفضل وسائل التواصل. ويصور الكاتب شخصية "نهمو" التي كانت تتناول قهوتها الصباحية وهي تستمع بخشوع إلى صوت المقرئ عبد الباسط عبد الصمد من راديو الترانستور الصغير. كما يصور بتأثر عميق قصة الشريكين الصديقين توفيق منافيخي وحاييم مزراحي الذي هاجر عام 1987، وكان لهما حساب سري مشترك في نيويورك، حتى إذا توفي منافيخي، سلم مزراحي أبناء صديقه حصتهم التي لا علم لهم بها من الحساب السري. أما ابنة مزراحي فقد تزوجت من شامي، وكست واجهات منزلها في حي بروكلين بالحجر الحلبي، ولم تكن تفوت زيارة حلب صيفاً حتى عام 2011.
يعدد محفوظ من الفنانين اليهود في حي الجميلية موشيه إلياهو المطرب وعازف العود، وفيروز المطربة وعازفة العود أيضاً، ونظلة (أنطوانيت) ضابطة الإيقاع وعازفة العود. ومن المرويات التي ينقلها الكاتب أنه عندما كانت تطلق صفارة الإنذار محذرة من غارة إسرائيلية فيما بين حربي 1967 و1973، كان يشاع أن إسرائيل لن تقصف حي الجميلية لعلمها أن فيه يهوداً. ويعدد الكاتب من المعالم اليهودية في الحي مدرسة السموأل والنادي الرياضي الاجتماعي ومقهى البللور (الشويكي). وكان الشيخ كامل الغزي قد تحدث في مصنفه عن خمسة منازل اتخذت كنساً في الجميلية، كما استؤجر في "هذه المحلة" منزل ليكون فرعاً لمدرسة الأليانس التي تمولها جمعية حبراه في باريس، وبلغ عدد تلاميذ المدرسة خمسمئة من اليهود والمسلمين.
البشر والحجر
بعين المصور وريشة الرسام تأتي سردية إياد جميل محفوظ لحي الجميلية منذ نشأته، وبخاصة منذ عهد الاستقلال، حين ضاق بهيئات ومنشآت المجتمع المدني، وصار له "عدد مهول" من المدارس الرسمية والخاصة للجنسين، ومن بينها الصرح الشهير ثانوية المأمون. وفي ذلك العهد (خمسينيات القرن العشرين) تلاطمت في الحي الأندية الرياضية والثقافية– وقد عرفت من الأخيرة نادي شباب العروبة في السبعينيات– والمعاهد الموسيقية والجمعيات الأهلية ومكاتب حزب الشعب، والحزب الشيوعي، وحزب البعث، وسينما الفردوس ومسرح الأوبرا الصيفي ومقهى الدب ومقهى الأزبكية ومطعم السماح ومطعم القصاص وسوى ذلك كثير مما صنفه الكاتب أماكن خالدة، والمكتبات والمستشفيات والجوامع... وفي فصول "شخصيات عامة" و"المثقفون" و"أعلام عاشوا في حي الجميلية" و"الفنانون" و"نماذج بشرية عابرة" يرسم الكاتب بريشة الفنان وعين المصور سرديات البشر في الجميلية: لاعبات كرة السلة وكرة الطاولة والرياضيين وجمهرة الرؤساء: صبحي بك بركات رئيس دولة سوريا سنة 1925، واللواء سامي الحناوي رئيس الجمهورية سنة 1949، وناظم القدسي رئيس الجمهورية سنة 1962. ومن المبدعين الفنان التشكيلي العالمي لؤي كيالي والشاعر أورخان ميسر صاحب ديوان "سريال وقصائد أخرى" (1948).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في فصل "مساحة حرة" يستدرك الكاتب ما فاته في الفصول السابقة من أخبار أهالي الجميلية وعاداتهم وأسرارهم، ومن ذلك ما في المجتمع من المخدرات والمراهنات، ومن النشاطات الاجتماعية للحي يفصل الكاتب في "القبول" وهو حفل الاستقبال الذي تقيمه سيدات للنساء في بيوتهن، كما يفصل في (الخواجات) اللاتي ينهضن بجوقات الطرب النسائية. أما النشاط الفكري والثقافي فقد فصل فيما كان منه لجمعية العاديات التي تأسست عام 1924 ولا تزال قائمة. وكذلك الأمر كان مع المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري عام 1944، والذي قدم فيه تسعة وستين بحثاً وست قصائد، ابتداء بمدرج جامعة دمشق، ثم مدينة معرة النعمان أمام ضريح المعري، ثم في حلب حيث تحدث طه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني، وأخيراً في اللاذقية حيث صدح بدوي الجبل: "يا ظالم التفاح في وجناتها لو ذقت بعض شمائل التفاح".
يجمع إياد جميل محفوظ في مشروعه الموسوعي بين منهج وأسلوب "الخطط" كما تبديا في "خطط الشام" (1925) لمحمد كرد علي (1876 – 1953) و"خطط الغيطاني" (1980) لجمال الغيطاني (1945 – 2015) الذي اقتدى بسلفه المقريزي في خططه. ففي كتب محفوظ تندغم سرديات الجغرافيا والتاريخ والسيرة الذاتية والتراجم، ويسفر النزوع الروائي حيناً ليغوص أحياناً، وللكاتب مساهمته القصصية والروائية.
ألا يؤكد لنا كل ذلك أننا مقبلون على موسوعة إياد جميل محفوظ الجديدة لمدينة حلب؟