بينما كنت أصعد معها السلالم متجهين إلى عيادتي، رحت أتحدث إلى فيكتوريا* بعض الشيء فلم تتجاوب معي إلا لماماً. نظرت إليها مرة أخرى. لقد امتلأت عيناها اللتان تعلوان كمامتها بمشاعر التوتر والبؤس، وأدركت أن تحفظها مرده إلى أنها كانت على وشك الانفجار بالبكاء. بدا لي أن طرح سؤال آخر ربما يدفعها إلى الانهيار، لذا التزمنا الصمت حتى دخلنا إلى الغرفة الهادئة في العيادات الخارجية المخصصة لراحة المرضى وسكينتهم.
سرعان ما انهمرت دموع فيكتوريا. أخبرتني أنها في مطلع الجائحة، قبل أن تصبح اختبارات الكشف عن كورونا متاحة على نطاق واسع، عانت ما يفترض أنه حالة بسيطة من المرض. أوصاها طبيبها بالتزام المنزل، تماشياً مع النصيحة الثابتة للجميع في تلك المرحلة المبكرة من الأزمة. خلال الأيام القليلة التالية رقدت في السرير. مر أسبوع ثم أسبوعان، ثم تدريجياً انقضت الأسابيع وصارت أشهراً عدة.
"كنت أكابد (كوفيد) طويل الأمد Long Covid منذ فترة طويلة قبل أن تطلق عليه هذه التسمية"، أخبرتني فيكتوريا. ولكن حتى بعد أن صار اسمه "كوفيد طويل الأمد"، وبعد أن خضعت لتقويم لحالها الصحية وأجرت فحوص الأشعة السينية والتصوير بالرنين المغناطيسي وعدداً لا يحصى من تحاليل الدم، لم تشعر إلا بتحسن طفيف.
وحتى حينما بدأ الناس يتحدثون عنه، لم تأت تسمية "كوفيد طويل الأمد" بأي أفكار في شأن طريقة علاج هذا المرض أو إلى متى ربما يستمر، أو ما الذي يخبئه المستقبل بالنسبة إلى المصابين به. وهكذا في كل موعد لها في العيادة، حيث كانت تستقبلها "بشرى سارة" من قبيل "فحوص وظائف الرئة طبيعية تماماً"، تشعر فيكتوريا بأنها تائهة أكثر. إن لم يجدوا أي خطب في حالها الصحية فكيف ستتخلص يوماً ما مما تكابده؟
إليكم السيناريو الذي كثيراً ما تكرر أمام ناظري عبر مسيرة مهنية طويلة اشتغلت خلالها على الصلة بين العقل والجسم، وهي منطقة تطمس فيها خطوط التشخيص الواضحة إذ تتحول إلى ظلال غامضة رمادية اللون تمثل العالم الحقيقي. إنه مجال يحاول فيه الطب جاهداً أن يفهم معاناة المرء، ويشعر المرضى بأنهم مهملون ومتروكون، ويحل الرأي محل الدليل، وبدلاً من التوجه المتكامل نحو الحل نجد ارتباكاً وشكاً وتشرذماً.
يبدأ علاج أي مرض بصياغة تصور عن الأعراض. ما الذي يسبب المشكلة الصحية؟ من أين تنبع؟ قدرتنا على التمعن في الجسم وتفحص أعضائه وقياس معدلات العناصر غير المرئية في دمائنا وفهمها، تشكل كلها عوامل حملتنا على الاقتناع بأن المرض عبارة عن جزء صغير من الجسم أخفق في وظيفته، لا أقل ولا أكثر.
ولكن لم يعتر جسم فيكتوريا أي خلل، في الأقل ليس بأي طريقة واضحة بالنسبة إلى ذلك العدد الكبير من الاختصاصيين الطبيين الذين تولوا فحصها والتحقق من حالها الصحية. ما الذي كشفه ذلك بشأن معاناتها؟ بدأت تشكك في نفسها، تماماً على غرار إدراكها أن التساؤلات بدأت تقض مضجع عائلتها أيضاً.
إن القصص التي تشبه قصة فيكتوريا ليست نادرة بين آلاف من الحالات التي عاينتها على مر السنين. قطعاً، لم يكن جميع مرضاي مصابين بـ "كوفيد طويل الأمد"، لكن كثيرين منهم واجهوا عدداً من الأعراض من الصعب تحديد ماهيتها، إذ لا تكون معاناة المريض مصحوبة بأي نتائج غير طبيعية في الفحوص الطبية. إنها أعراض تسكن في تلك المنطقة النائية المنبسطة الرمادية المشوبة بالغموض، بمعنى أنها ليست هنا ولا هناك.
حتى الآن تضمنت رحلتي الخاصة فهماً لا ينفك يتنامى بأن الطب غالباً لا يفيد كثيراً المرضى من أمثال فيكتوريا. إن المرضى الذين أحيلوا إلي كي أعاينهم قد خضعوا غالباً لفحوص لدى فرق عدة من المتخصصين في المستشفيات جراء معاناتهم مشكلات من قبيل الألم المستمر والتعب والدوار وأعراض في البطن لا تفسير لها، ونوبات كهربائية مفاجئة في الدماغ ثبت أنها ليست ناتجة من داء الصرع. وفق قانون تناقص العائدات جلبت كل جولة من الفحوص الطبية عائدات أصغر وأصغر حجماً، حتى باتت الإحالة إلى طبيب نفسي في المستشفى الفرصة الوحيدة الباقية.
منذ أن بدأت مسيرتي المهنية تكشف أمامي إدراك بأن الأمور ينبغي أن تتغير. آنذاك، حتى كطبيب مبتدئ تغمره الحماسة ويتخصص في الطب الباطني، لم ألحظ أن الطب وفق ممارسته آنذاك لا يفيد مرضى كثيرين، لذا وجدت نفسي أتساءل عما إذا كنت كطبيب نفسي سأكون أكثر إفادة مقارنة بكوني طبيباً في مستشفى عام.
في نهاية المطاف شققت طريقي في السلم الوظيفي وتخصصت في العلاقة بين الطب والعقل، حقل يعرف بـ "الطب النفسي الارتباطي". أخيراً، أصدرت كتاباً ضمنته تجاربي بشأن الارتباط الوثيق بين العقل والجسم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أتذكر لقائي بفينلي*، شاب تجمدت حياته بعدما قصد طبيبه لأنه يشكو من دوار. على مدى الأشهر التالية أحيل إلى أقسام طبية متخصصة مختلفة من بينها أقسام أمراض القلب والأذن والأنف والحنجرة وطب الأعصاب، وكذلك خضع لعشرات الفحوص التي عادت كلها بنتائج طبيعية. لم يعد متأكداً مما إذا كان مريضاً حقاً، ووجد صعوبة في التوصل إلى أي تفسير منطقي لحالته. بدأ صبر أرباب عمله تجاهه في النفاد، وتوترت علاقته بشريكته، وفيما تحول اهتمام الأطباء إلى حالات أخرى يعاينونها، بقي فينلي عالقاً في مكانه. كان محبطاً وخائفاً ولم يفارقه بعد ذلك الشعور بالدوار. وعلى غرار الأطباء الذين أحيل إليهم فإن جل ما أراده هو الحصول على تفسير منطقي لأعراضه.
لقد تاه مني عدد المرات التي تمنى فيها مريض ما أن يكون مصاباً بمرض خطر، حتى لو اقتصر الأمر على مجرد تنبوء خاطئ عن تطور حالته ما دام يحتوي على نتائج فحوص واضحة، إذ على الأقل سيجد حينها تبريرات لمعاناته الصحية، ويرتب على أساس ذلك أموره المقبلة.
في الحقيقة تتمثل المشكلة في الثقافة. صارت الثقافة الغربية منغمسة في أفكارها وآرائها السائدة عن جسم الإنسان، في إطار نهج آلي مبسط، إلى حد أن القول بأن الأعراض الصحية ربما لا تعزى أحياناً إلى سبب جسدي مباشر، يثير غضب كثيرين من المرضى، فيما لا يأخذه الأطباء في عين الاعتبار غالباً.
في بعض النواحي يبدو هذا الواقع مثيراً للاستغراب، ذلك أنه يحلو للثقافة الغربية أن ترى نفسها بأنها أكثر انفتاحاً وشمولية وتقبلاً للأمور الخارجة عن النموذج التقليدي، ولكن مع ذلك لا ينسحب هذا الانفتاح على الرعاية الصحية التي ما زالت تقيد قدراتها نظرة الطب الضيقة إلى الصحة والمرض.
حينما يعجز الطبيب عن تحديد سبب جسدي واضح يفسر حال المريض الصحية، سيقال لكثيرين إن أعراضهم ليست فعلية تماماً، ومعاناتهم مشكوك فيها. يمكن أن يتمنع الأطباء عن الإشارة إلى أن الأعراض الجسدية ليست ناتجة ربما من سبب جسدي واضح أو يمكن الثبت منه، خشية الإساءة التي ينطوي عليها هذا الاقتراح. اختصرت إحدى الأوراق البحثية في 2002، المنشورة في "المجلة الطبية البريطانية"، تلك الصعوبات بالعنوان التالي، "ماذا يتعين علينا أن نقول للمرضى الذين يعانون أعراضاً لا تعزى إلى مرض يعانونه؟"، [وبالتالي، ما هو] عدد الأشخاص المطلوب إهانتهم".
البحث عن تفسير منطقي للأمور كافة
تشكل الثقافة الطبية السائدة حالياً في العالم الغربي امتداداً لعملية بدأت في العصور القديمة. إنها انعكاس للطبيعة البشرية والحاجة إلى محاولة إرساء نظام في العالم [لفهمه]، وتحديد مجموعة من القواعد، كي يكون العالم من حولنا منطقياً. يمنحنا ذلك شعوراً بالأمان. نرغب في تفسير واحتواء تلك الأمور التي تخيفنا من قبيل اعتلال الصحة. يسوق ذلك بدوره إلى نزعة نحو تبسيط الظواهر المعقدة.
في بعض التخصصات العلمية يعتبر التبسيط إلى مجموعة من القواعد الأساسية هدفاً مشروعاً تماماً، وبذلك توصلنا إلى فهم للعلاقة بين الطاقة والكتلة وسرعة الضوء وتركيب الذرات وجزء كبير من العالم المادي المحيط بنا، لكن في الطب أفضت الرغبة في تفكيك الأمور إلى نظريات شديدة التبسيط على نحو شبه دائم. تجد تلك النظريات تفسيرات للأمور كافة، ولا تفسر شيئاً في الوقت نفسه.
مثلاً، نظرية الأخلاط (الأمزجة) الأربعة في الطب بدأت في العصور اليونانية القديمة حينما طور أبقراط ثم غالينوس الفكرة التي صارت، بصورة تكاد تكون عصية على التصديق، النظرية الطبية الرائدة خلال الـ 2000 سنة التالية، في مقابل تحد لا يذكر لمدى صحتها. لقد صاغت تفسيرات للأمور كافة، وبالتالي اقتضى التمتع بصحة جيدة تصحيح أي اختلال في الأخلاط الأربعة في الجسم، ألا وهي العصارة الصفراء والعصارة السوداء والبلغم والدم، وبالتالي ظهر العلاج بالكمادات ووصفات تحث على القيء وسحب الدماء من المريض [الفصد أو الإدماء لمنع العلل أو علاجها] ومجموعة متنوعة من العلاجات الأخرى اللطيف منها والخطير. بدت تلك النظرية موحدة أنيقة وبسيطة ومقنعة في آن واحد، وتجلت قوتها في عمرها المديد، ومع ذلك لم تشرح شيئاً على الإطلاق. كانت بمثابة ترهات اعتبرت حقائق مقبولة.
في العصر الحديث بقيت رغبتنا في تبسيط كل ما يتسم بالتعقيد على حالها دونما أي تغيير، والمعايير وحدها تبدلت.
في المقابل، ثمة ميل سائد حاضراً يتجلى في النظر إلى الجسم بوصفه آلة، ولا ريب أن أي آلة معقدة يلزمها قدر كبير من الجهد العلمي كي تُشرح طريقة عملها. لقد أحرزنا تقدماً كبيراً خلال نصف القرن الماضي إذ صرنا على معرفة عميقة بطريقة عمل الجسم، من وظيفة الخلايا المجهرية إلى التواصل بين الخلايا العصبية، ومن الميكروبيومات [مجموع البكتيريا والطفيليات المفيدة التي تقطن الأمعاء] إلى الجينوميات، وبفضل تلك الإنجازات بتنا قادرين على استيعاب آليات المرض وتقديم علاجات كان التفكير فيها محالاً قبل قرن من الزمن. تتضمن تلك علاجات غسل الكلي الذي أطال حيوات لا تحصى، وزرع الأعضاء الذي أصبح ممكناً بعدما تعرفنا على عمل النظام المناعي [الذي يحارب الأجسام الدخيلة بوصفها خطراً يتهدد الجسم ]، من ثم الحؤول دون رفضه العضو أو النسيج المزروع.
لا ريب أن هذه الإنجازات عادت بالنفع على كثيرين، ويبدو واضحاً أنها محل ترحيب، وفي المقابل لم يترجم فهم الجسم إلى فهم للمرض والصحة، إذ تحتضن الآلة (الجسم) روحاً، والصحة الجيدة وفق ما بينت الخبرات ليست ببساطة انعكاساً لكون آلتنا الجسدية تعمل على النحو المطلوب. إنها ليست حتى قريبة من ذلك، وفق ما تظهر زيارات كثيرة جمعت بين المرضى والأطباء.
يتجلى ذلك في أمثلة كثيرة نمر بها يومياً. نعلم مثلاً أن الاكتئاب يترافق عادة مع أعراض جسدية مثل الصداع أو الإمساك، في اكتشاف يبدو ثابتاً في الثقافات المختلفة.
على المنوال نفسه معروف تماماً أن الأدوية الوهمية في مقدورها أن تخفف الأعراض الجسدية، ومثلاً في إحدى الدراسات تراجعت شدة آلام في منطقة أسفل الظهر حتى عندما قيل للأشخاص إنهم يتناولون أقراصاً غير فاعلة.
بخصوص الطب النفسي
أما وقد أضحى النموذج الغربي الحالي للطب المعيار الطبي المعتمد عالمياً، فقد بدأ في صياغة طريقة تفكيرنا ومعالجتنا لمشكلات الصحة الجسدية.
في المملكة المتحدة لم ينل الإسهام المحتمل للطب النفسي في علاج مشكلات الصحة الجسدية نصيباً كبيراً من التفكير قبل خمسينيات القرن العشرين، مع ظهور تخصص "الطب النفسي الارتباطي" Liaision Psychiatry في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى في الوقت الحاضر تأخذ كل ممارسات الطب النفسي تقريباً مكانها في المستشفيات المجتمعية أو تلك المتخصصة في الطب النفسي، وليس مرافق الاستشفاء التي تقدم الخدمات للحالات الصحية الحادة.
في المستشفى العام تتوفر خدمات الطب النفسي في معظم الأحيان في قسم الطوارئ، مع التركيز بشدة على حالات إيذاء النفس ومحاولات الانتحار والضيق النفسي الشديد، ويعني ذلك تالياً أنه حيثما تظهر لدى المرضى أعراض غير مبررة طبياً أو مشكلات صحية طويلة الأمد تلزمها رعاية نفسية، لا يكون الطب النفسي في الغالب حاضراً للمساعدة في معالجتها.
ومع ذلك، تستمر الحاجة إلى الطب النفسي في معالجة مشكلات مثل النوبات أو الهزات غير المبررة [أي حينما لا تأتي من مرض في الجهاز العصبي]، والألم المستمر على الرغم من عدم وجود أي مرض موضوعي، إضافة إلى إعطاء تقويم في شأن المرضى الذين يرفضون الخضوع لعلاجات تنقذ حياتهم، ومشكلات كثيرة أخرى تبدو أقل وضوحاً، من قبيل الآثار طويلة المدى لسوء المعاملة التي تتبدى في أعراض متصلة بالمسالك البولية.
هكذا تنتهي الحال بكل التخصصات في المستشفى بالتواصل مع خدمة جيدة من "الطب النفسي الارتباطي"، إذا كانت متوافرة، ولكن حتى لو أتيح الحصول على الدعم النفسي فإن المشكلات لا تنتهي عند هذا الحد.
في ما يتعلق بحالات مثل أمراض القلب يبقى مقبولاً بشكل عام الحصول على الدعم النفسي، مثلاً من أجل تعزيز القدرة على التعامل مع الضغط النفسي والمساعدة في التصدي لتفاقم الأعراض المرتبطة بالمزاج والقلق، ذلك أن صدقية التشخيص لا توضع محل تشكيك.
ومع ذلك بالنسبة إلى أمراض على شاكلة حالة فيكتوريا الصحية، حين يبقى الأساس الجسدي للتشخيص غامضاً أو غير معروف، تبين لنا التجربة أن اعتبار الحالة مشكلة نفسية يعني بالنسبة إلى مرضى كثيرين عدم أخذ المرض على محمل الجد، وحينما لا يعثر على سبب جسدي ملموس ينظر إلى أي تدخل علاجي غير طبي على أنه مشبوه ورفض للمعاناة الجسدية وتخفيف ضمني من المعاناة. أصبح الطب الغربي محاصراً في منظور تبسيطي وأحادي البعد للمرض، وبالتالي يأتي خير دليل على تلك الوضعية متمثلاً في الإحصاءات والتبعات غير المحتملة المترتبة عن هذا النهج الطبي الحالي. لنتأمل مثلاً في النتيجة التالية التي مفادها أن دراسة كبيرة أجريت عام 1989 داخل الولايات المتحدة، وأظهرت أن الأطباء وجدوا سبباً جسدياً أساسياً لدى 16 في المئة من حالات تعاني أعراضاً شائعة مثل التعب أو الدوار أو آلام الصدر أو أوجاع الظهر أو الأرق. إنه رقم مذهل أصعب من أن نصدقه، علماً أنه منذ ذلك الحين أسفر عدد من الدراسات النموذجية على مدى 30 عاماً عن نتائج مماثلة في أماكن متنوعة.
وعلى نحو مماثل ووفق دراسة أجريت في لندن، لم تأت 66 في المئة من الزيارات الطبية إلى عيادة أمراض النساء بأي تفسير طبي للحالات، وفي هولندا أسفر أقل من نصف اللقاءات الطبية في المستشفيات عن تشخيص طبي محدد يفسر أعراض المرضى.
بالنسبة إلى أعراض كثيرة تدفع الأشخاص إلى طبيبهم، يعتبر "عدم وجود سبب طبي" أحد النتائج الأكثر شيوعاً إن لم تكن أكثرها شيوعاً، وينطبق ذلك على شكلي الرعاية الأولية والثانوية كليهما في المستشفى.
للأسف، يترك ذلك كُلفاً مهولة على كاهل هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" في ("أن أتش أس" NHS) في بريطانيا. وفق تقديرات مؤسسة البحوث البريطانية "كينغز فاند"King’s Fund ، ينفق 11 مليار جنيه استرليني في أقل تقدير سنوياً على المعالجة السيئة للأعراض غير المبررة طبياً، إضافة إلى العواقب المترتبة على عدم علاج مشكلات الصحة العقلية والنفسية بين صفوف من يعانون حالات صحية طويلة الأمد.
ومع ذلك، ليس المال سوى غيض من فيض في بحر مساوئ هذا النهج الطبي، ويكمن بيت القصيد في الكُلف البشرية، ويضاف إلى ذلك اعتلال الصحة والعجز الطويلي الأمد، والبطالة والظروف المالية الصعبة والضغط النفسي والتوتر على صعيد العلاقات، وتدني مستوى العيش [بالنسبة إلى أولئك المرضى] بشكل عام.
استشراف المرحلة المقبلة
في مقدور الطب النفسي وعلم النفس أن يصنعا فارقاً مهماً في النتائج الصحية لدى المرضى، على الرغم من أنه نادراً ما يستعان بهما في هذا المجال، وفي العادة لا تلقى خدمات من هذا القبيل في أية حالة الإرادة والموارد الكافيين.
تشكل هذه الحقيقة الآن سبباً وجيهاً يبعث القلق في شأن "كوفيد الطويل الأمد". ما زلنا نتلمس طريقنا صوب إيجاد تفسير محدد لماهية هذا المرض، ويبدو أنه يشمل مجموعة من الحالات يتسبب بعضها بعلل ملموسة تظهر في نتائج غير طبيعية لاختبارات الدم والأشعة، خلافاً لحالات أخرى كثيرة منها، على شاكلة حالة فيكتوريا.
ربما يعزى ذلك إلى فهمنا المحدود للكيفية التي يطور فيها الجسم الأعراض ويستشعر بها، لكن معاناة المريض حقيقية جداً، سواء ثبت وجود سبب مادي أم لم يثبت، وأياً كان السبب نعلم أن الاكتئاب والقلق والتعب والأرق كثيراً ما ترافق مرضاً مزمناً ينال من المريض ويتركه عاجزاً في الغالب، وكذلك نعلم أنه ينتفي غالباً الارتباط بين شدة الإصابة الأساسية من جهة والإعاقة اللاحقة الطويلة المدى من جهة أخرى، إذ يمكن أن يعاني مرضى الحالات الخفيفة الوطأة في بدايتها تأثيرات طويلة المدى.
والحال أننا نزيد حال المريض سوءاً إذ نحجم عن معالجة المشكلات المذكورة آنفاً، عبر إتاحة إعادة التأهيل العملي والعلاج الفيزيائي، وإيجاد حلول للخوف واليأس اللذين يكابدهما المرضى عند مواجهة مشكلة صحية غير واضحة الأسباب، لكنها مزمنة في ظاهرها.
واستطراداً، يتوجب أن يشكل الفهم المشترك لطبيعة المشكلة نقطة البداية لأي علاج ناجح، وعلينا إجراء حوار مفتوح في المجتمع حول العقل والجسم والصحة والمرض، وعلينا أن نتوخى الواقعية في ما يتصل بفهمنا الحالي للجسم ونحتفي بالعلاجات والابتكارات المدهشة فعلاً التي جلبتها لنا ممارسة الطب على امتداد نصف القرن الماضي، ونؤثر الصراحة في شأن أوجه القصور أيضاً.
بالنسبة إلى فيكتوريا تمثل الجزء الأصعب ضمن علاجها في مواجهة شكها وعدم يقينها في شأن المشكلة الصحية التي تعانيها. بعد أشهر من فحوص عادت كلها بنتائج طبيعية وإحساس متنام بأنها قد أُخبرت تكراراً أنها "ليست مريضة حقاً"، احتاجت إلى دليل ما يؤكد حقيقة مرضها كي تعرف أن الأطباء قد اقتنعوا بأنها تشكو من خطب ما، وتشي حاجتها إلى تبيان أنها ليست على ما يرام بحقيقة لا بد من قولها حول نظامنا الطبي الحالي. كانت فيكتوريا مريضة بالتأكيد، إنما ربما ليس ضمن النطاق الضيق للمرض الذي نعمل وفقه حالياً.
من الجائز أن نكتشف يوماً ما كل العمليات الفسيولوجية غير الطبيعية، وستعزى الأمراض المهولة العدد التي لا يبررها الطب حالياً إلى اختلالات في المستطاع إثباتها، من ثم تستفيد من علاجات فيزيائية متقنة تستهدف المناطق المطلوبة. آمل ذلك. إنه هدف نبيل وإن كان من وجهة نظري غير مرجح.
في المقابل، يستمر ذلك الهدف أيضاً في تجاهل المكونات النفسية للأمراض بأسرها. لكل العلل الصحية مكون إدراكي ونفسي- اجتماعي، مما يعني أن مواجهتنا عدداً من الأعراض يمكن أن تكون شديدة الذاتية وتتأثر بمجموعة متنوعة من العوامل غير الطبية، ولا يخفى على أحد أن الشعور بالألم يتأثر بتوقعاتنا ومدى خطورة السبب في اعتقادنا، كذلك الأمر بالنسبة إلى ثقافتنا ومزاجنا وحتى الكلمات التي نستخدمها في وصف أوجاعنا. عبر تصديها لكل العوامل المذكورة، تخفف الأساليب النفسية من وطأة الأعراض، بل تعالجها أيضاً.
عند تقويم حالة مريض يكابد أعراضاً جسدية مستمرة من دون أسباب طبية تفسرها، يحتاج الطبيب النفسي إلى استكشاف العوامل الأخرى كافة التي ربما تؤدي دوراً مهماً في تخفيف الأعراض. يندرج ضمن ذلك التعرف إلى أي اعتلالات مزاجية راهنة من قبيل الاكتئاب، إضافة إلى اضطرابات القلق التي من المحتمل أن تستبقي المشكلات أو تتسبب بتفاقمها، وبالتالي أن يشكل التركيز على الأعراض وسيلة مفهومة لكنها لا تجدي نفعاً حينما يتعلق الأمر بحالات صحية مستمرة.
غالباً ما يكون الدافع وراء التشديد على الأعراض الخوف مما تشي به، لذا فإن التعرف إلى وجهات نظر الشخص المعني في شأن مرضه ومدى خطورته في رأيه، ومدى اعتقاده بإمكان السيطرة عليه.
إنها كلها أمور من الضروري الاستفسار عنها من المريض ثم التعامل معها، وليس الغرض من الأساليب النفسية أن تحل بديلاً عن الرعاية الطبية، إذ يشبه ذلك القول بأنه سيستعاض بها عن العلاج بالـ "أنسولين" لداء السكري أو أدوية القلب للحالات القلبية.
في المقابل، يمكن للمرضى استكمال هذه الرعاية. لا يقصد باستخدام الأساليب النفسية أن أعراض المريض غير حقيقية، ولا الإشارة ضمناً إلى أنها ربما لا ترجع إلى أساس جسدي حقيقي، ومع ذلك فقد طال هذا النقاش زمناً طويلاً إلى حد أنني لست متأكداً من مدى قدرة الطب على الارتقاء إلى مستوى التحدي. إن الطلب المتزايد على إنفاق مبالغ ضخمة على الصحة في مقابل إعطاء أولوية متدنية نسبياً للطب النفسي، يعني أنه لا يتوفر عموماً نوع العلاج المتخصص والمتكامل المطلوب سوى في مراكز قليلة كبرى.
وفق التقديرات، يعاني حوالى 2.3 في المئة من مرضى كورونا أعراضاً تمتد إلى أكثر من 12 أسبوعاً، فإلى متى يمكننا أن نعتبر العقل والجسم عنصرين منفصلين؟ طوال قرون من الزمن سادت نزعة تشطر الإنسان شطرين، عقل وجسم، ولكن ربما تكون المساعدة في سد فجوة هذا الانقسام المفاجأة التالية التي يحملها كورونا.
* استعضنا عن أسماء المرضى والتفاصيل الخاصة بهم بأخرى وهمية حماية لخصوصيتهم.
** أليستر سانتهاوس استشاري طب نفسي ومحاضر سريري أول فخري في الطب النفسي في "كينغز كوليدج لندن" King's College London. نشر هذه المقالة للمرة الأولى في "ذا كونفرسيشن" The Conversation.