أثارت التصرفات والانفعالات التركية جنباً إلى جنب مع القرارات الأميركية المضادة خلال عام 2021، الكثير من الأسئلة والشكوك في شأن مستقبل العلاقات الثنائية بينهما، على الرغم من تأكيد مسؤولي البلدين مراراً وتكراراً أهمية استمرار التعاون الأميركي - التركي، وعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكن خدمة أبحاث الكونغرس، التابعة للكونغرس الأميركي، وضعت عوامل رئيسة محددة لما ستكون عليه العلاقة بين البلدين في ظل هذا التوتر.
فإجمالاً، ذكرت خدمة أبحاث الكونغرس، في تقريرها السنوي الصادر حديثاً، أن مستقبل العلاقات الأميركية - التركية يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك، ما إذا كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قادراً على الحفاظ على سيطرته داخلياً، نظراً لأزمة العملة ومخاوف مختلفة تتعلق بحقوق الإنسان وسيادة القانون، وما إذا كانت تركيا ستواصل شراء مزيد من الأسلحة الروسية، وستعمل على تشغيل نظام الدفاع الصاروخي الروسي "أس-400"، وعما ستؤول إليه الأزمات الإقليمية المختلفة (سوريا، وليبيا، ونزاعات الغاز في شرق المتوسط)، وتأثيرها على علاقات تركيا مع الجهات الفاعلة الرئيسة بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي وإيران والحكومات العربية، وأخيراً عما إذا كانت تركيا ستتمكن من ترسيخ قوتها وإنشاء مجال نفوذها الخاص مستغلة التعاون العسكري والاقتصادي.
أزمة العملة والاقتصاد
وركز التقرير على أزمة العملة التركية بعد انهيار الليرة أمام الدولار لتصل إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، الأسبوع الماضي، حيث بلغت 18.4 مقابل الدولار، وذلك بعد تراجع متواصل استمر لعدة أشهر بسبب مخاوف من تصاعد التضخم يرجع لسلسلة من إجراءات تقليص أسعار الفائدة بناءً على قرارات أحادية للرئيس التركي. وعلى الرغم من تدخل الرئيس مجدداً لإنقاذ الليرة بضخ مليارات الدولارات في السوق لتقفز بأكثر من 50 في المئة، فإن العملة فقدت مجدداً مطلع الأسبوع الحالي نحو 8 في المئة مقابل الدولار لتبلغ 11.78، ذلك مقارنة بـ7.3 تقريباً في الفترة نفسها من العام الماضي. واليوم، الخميس، ذكرت وكالة "رويترز"، أن الليرة التركية هبطت إلى 13.2 مقابل الدولار.
ويذكر التقرير الأميركي أن العديد من المراقبين أعربوا عن مخاوفهم في شأن "الحكم الاستبدادي إلى حد كبير" للرئيس التركي، كما يظل الاقتصاد أكبر تحدٍّ لنظامه. ويضيف أن أزمة العملة المستمرة، التي تسارعت في أواخر 2021، أدّت إلى تفاقم بعض المشكلات الاقتصادية الهيكلية، مما أدى بدوره إلى خلق قلق محلي كبير.
وفي الوقت الذي تواجه فيه البلاد تضخماً كبيراً، ضغط أردوغان على البنك المركزي التركي لخفض أسعار الفائدة، وهو قرار يتعارض مع النظرية الاقتصادية التقليدية القائلة إن رفع أسعار الفائدة يوقف التضخم، ويجذب رأس المال الأجنبي، ويدعم العملة. ويقول المراقبون إن أردوغان استبدل محافظ البنك المركزي ووزير المالية في عام 2021، لجعل السياسة المالية والنقدية التركية أكثر انسجاماً مع آرائه.
وكان الرئيس التركي قد دافع، في وقت سابق من الشهر الحالي، عن قراراته النقدية، بأن أسعار الفائدة المنخفضة تعزز الإنتاج والتوظيف والصادرات. كما انتقد أردوغان أسعار الفائدة المرتفعة باعتبارها تتعارض مع تعاليم الإسلام، وتؤدي إلى تفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
فرض الطوارئ
ويستبعد المراقبون أن يستجيب الرئيس التركي لدعوة السياسيين المعارضين لإجراء انتخابات مبكرة، بينما من المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يونيو (حزيران) 2023، وذلك في مواجهة الاستياء العام المتزايد من جراء ارتفاع تكاليف المعيشة.
ويقول التقرير، إنه إذا غذت الاضطرابات الاقتصادية عدم الاستقرار الداخلي، فربما تبدأ حكومة أردوغان في فرض حالة الطوارئ مع احتمال تأجيل الانتخابات. بالإضافة إلى ذلك، يشكك البعض في ما إذا كان يمكن إجراء انتخابات حرة ونزيهة في عهد أردوغان، أو ما إذا كان أنصار أردوغان سيصوتون بالفعل لأحزاب المعارضة. وبشكل منفصل، شككت بعض المصادر التي شملها التقرير الأميركي في صحة أردوغان، على الرغم من نفي الرئاسة التركية ما وصفته بـ"الإشاعات التي تتعلق بالوضع الصحي للرئيس"، مشيرة إلى أنها "لا أساس لها من الصحة".
قوة إقليمية ونظام متعدد الأقطاب
على صعيد العلاقات الخارجية، تعكس الاتجاهات في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة والدول الأخرى تغييرات في التوجه الاستراتيجي العام لأنقرة، حيث سعت إلى استقلالية أكبر في العمل كقوة إقليمية داخل نظام عالمي متعدد الأقطاب. فوفقاً للتقرير، يمكن القول إن مسار السياسة الخارجية لتركيا أقل توجهاً نحو الغرب الآن مقارنة بأي وقت آخر منذ انضمامها إلى حلف الناتو في عام 1952.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان لإصرار تركيا على شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي "أس-400"، تداعيات كبيرة على العلاقات مع الولايات المتحدة، إذ أدى ذلك إلى قرار واشنطن باستبعاد أنقرة من برنامج المقاتلات "أف-35"، كما فرضت عقوبات على وكالة المشتريات الدفاعية التركية بموجب قانون مكافحة خصوم أميركا (كاتسا).
وقد يؤدي استمرار التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا في شأن نظام الدفاع الصاروخي التركي إلى منع مبيعات أكبر من الأسلحة الغربية إلى تركيا، بحسب التقرير. فبينما طلبت تركيا، أخيراً، شراء دفعة جديدة من طائرات "أف-16" الأميركية، وتحديث أخرى في أسطولها القديم، عارض بعض أعضاء الكونغرس الطلب، ويرجع ذلك جزئياً إلى إصرار تركيا على شراء الأسلحة الروسية، في حين ينبه المراقبون بأنه إذا لم تستطع تركيا الدخول في شراكة مع الولايات المتحدة لتحديث طائراتها المقاتلة، فقد تلجأ إلى روسيا أو موردين آخرين كبديل، غير أنه إذا انتقلت تركيا إلى منصات الأسلحة الروسية، فمن غير الواضح كيف يمكن أن تظل مندمجة بشكل وثيق مع "الناتو" في الأمور الدفاعية.
العلاقات التقليدية
تقليدياً، اعتمدت تركيا بشكل وثيق على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في التعاون الدفاعي، كما ارتبطت مع الدول الأوروبية في شؤون التجارة والاستثمار، بما في ذلك الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي منذ أواخر التسعينيات، وروسيا وإيران لواردات الطاقة، ما يعني أن القوة العسكرية لتركيا ورفاهها الاقتصادي لا يزالان يعتمدان إلى حد كبير على هذه العلاقات التقليدية.
ومن ثم، ترى خدمة أبحاث الكونغرس أن الأزمة الاقتصادية المستمرة في تركيا تسلط الضوء على المخاطر التي تواجهها البلاد إذا عرضت تلك العلاقات التقليدية للخطر، إذ يؤثر عدد من المواقف المعقدة في المنطقة المحيطة بتركيا - بما في ذلك تلك المتعلقة بسوريا واليونان وقبرص وليبيا - على علاقاتها مع الولايات المتحدة والجهات الفاعلة الرئيسة الأخرى، لكن حرص أردوغان للحفاظ على ائتلافه البرلماني مع القوميين الأتراك وتوطيد سلطته داخلياً، ربما يفسر أفعاله جزئياً في بعض المواقف حيال دول المنطقة، وغيرها.
وعلى سبيل المثال، ففي حين اشترت أنقرة من موسكو نظام دفاع صاروخي، ونما التعاون بين الطرفين في بعض المجالات خلال السنوات الأخيرة الماضية، فإن التحركات التركية لمواجهة روسيا في العديد من مسارح الصراع، ليس أقلها ليبيا وسوريا، تشير إلى أن التعاون بين البلدين ظرفي، وليس شاملاً، وفق ما يرى المراقبون الأميركيون.
بديل لإنجرليك
أثرت التوترات التركية في شرق المتوسط مع دول مثل قبرص واليونان سلباً على علاقاتها مع العديد من البلدان في المنطقة، والتي أصبحت (مثل قبرص واليونان وإسرائيل ومصر) أقرب لبعضهما البعض نتيجة لذلك. وفي بعض الأحيان، شجع المسؤولون الأميركيون على التعاون بين الحلفاء والشركاء الآخرين لمواجهة الممارسات التركية، كما ارتبطت واشنطن باتفاقية تعاون دفاعي متبادل مع أثينا، على سبيل المثال. وفي هذا السياق، يسلط التقرير الضوء على توصيات بعض المراقبين بضرورة أن تستكشف الولايات المتحدة قواعد بديلة للأصول العسكرية الأميركية والتابعة لـ"الناتو" على الأراضي التركية.
ويقول تقرير الكونغرس، إن التوترات المتزايدة بين تركيا والدول الغربية والشكوك بشأن سلامة وفائدة الأراضي التركية للأصول العسكرية الأميركية وغيرها لـ"الناتو"، دفعت الكثيرين للدعوة لإيجاد قواعد بديلة لقاعدة إنجرليك في تركيا. وتشير بعض التقارير إلى أن الوجود العسكري الأميركي الموسع، أو المحتمل توسيعه في دول مثل اليونان وقبرص والأردن ورومانيا قد يكون مرتبطاً بمخاوف في شأن تركيا.
وتعد قاعدة إنجرليك الجوية العسكرية جنوب شرقي تركيا، من الأصول الاستراتيجية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في المنطقة. ولعبت هذه القاعدة دوراً كبيراً في المعركة ضد تنظيم "داعش"، حيث أطلقت منها الولايات المتحدة ضرباتها في سوريا. وتخزن الولايات المتحدة في هذه القاعدة 50 رأساً نووياً من نوع "B-61"، تعود إلى حقبة الحرب الباردة، كما يوجد بها نحو 1500 عسكري أميركي. وتخضع القاعدة لسيطرة من البلدين منذ عام 1955، وكانت موقعاً مناسباً لتخزين القنابل النووية الأميركية الموجهة ضد الاتحاد السوفياتي.
وعلى الرغم من أهمية قاعدة إنجرليك للعمليات العسكرية في المنطقة، يتردد منذ عام 2019، الحديث داخل دوائر صنع القرار الأميركي، عن نقلها إلى إحدى دول المنطقة، بما في ذلك جزيرة كريت اليونانية. وبحسب تقارير صحافية أميركية، نُشرت في سبتمبر (أيلول) 2020، يتردد داخل الكونغرس الحديث عن التخلي عن القاعدة الجوية في تركيا، بسبب السياسة الخارجية "المقلقة"، وهى الدعوة التي أيدها العديد من المراقبين.
وفي السنوات الأخيرة الماضية، اتخذت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) خطوات تبدو أنها تهدف لتقليص اعتمادها على إنجرليك. فبحسب وسائل إعلام أميركية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 150 مليون دولار في العامين الماضيين لتطوير قاعدة موفق سلطي الجوية في الأردن، إضافة إلى تطوير القواعد الأميركية في اليونان وقبرص.
ومع ذلك، فإن النفوذ التركي في البحر الأسود، حيث تتحكم في الوصول البحري للدول غير المطلة على البحر الأسود، وهو امتياز محدود حظيت به أنقرة بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936، يبقى نقطة قوة لأنقرة ومجال تعاون مهماً مع الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال "الناتو"، الذين يرغبون في تقويض النفوذ الروسي في البحر الأسود.
شرعية أردوغان
ويخلص التقرير إلى أن مدى استعداد واشنطن للترابط الوثيق مع أردوغان يمكن أن يعتمد على تصورات الولايات المتحدة لشرعيته السياسة داخلياً ومدى احتمال أن يظل في السلطة وإلى أي مدى قد يغير خليفته سياساته في ضوء الاعتبارات الجيوسياسة والتاريخية والاقتصادية. فدعم أردوغان بالمقارنة بغيره من السياسيين الرئيسين في بلاده، قد يعتمد جزئياً على اعتبارات الأمن القومي والظروف الاقتصادية، ومن جانب آخر على اعتبارات أيديولوجية أو هوية جماعية نابعة من العرق والدين والجنس والطبقة الاجتماعية.
كما أن إجراءات وقرارات الإدارة الأميركية والكونغرس تجاه تركيا سيكون لها آثار على العلاقات الثنائية والخيارات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، وتوجه تركيا الاستراتيجي ورفاهها المالي، إذ يمكن أن تشمل هذه الإجراءات الاستجابة لطلب تركيا في أواخر عام 2021 لشراء وتحديث طائرات "أف-16"، وإعادة النظر في عقوبات "كاتسا"، وربما تخفيفها، وتقييم خيارات القواعد العسكرية، وتحقيق التوازن في العلاقات مع تركيا ومنافسيها الإقليميين.