دخلت السنة الجديدة 2022 على السودانيين (بالساحق والماحق)، كما يقول المثل السوداني عندما يتزامن وقوع مصيبة ما، مع قدوم حدث أو شخص ما. الزيادات الهائلة وغير المسبوقة في أسعار الكهرباء، بنسبة تجاوزت 500 في المئة وجرى تطبيقها من دون إعلان أو سابق إنذار، ومن دون انتظار إجازة الموازنة العامة للدولة 2022، التي لم تر النور حتى الآن وفق الإجراءات المؤسسية المعلومة، من قبل الجهازين التنفيذي ثم التشريعي، لتصبح بعدها قانوناً واجب النفاذ والتطبيق.
واعتباراً من الأول من العام الجديد، طبقت الشركة السودانية لتوزيع الكهرباء، الزيادات الجديدة بصورة فورية وفعلية، مستبقة إجازة الموازنة العامة الجديدة للدولة (2022)، بالنسبة للقطاعات السكنية والزراعية والصناعية والتجارية.
زيادات تصاعدية
واتخذت الزيادات بالنسبة للقطاع السكني، منحى تصاعدياً تتضاعف فيه القيمة تبعاً للاستهلاك، ببداية سعر 5 جنيهات للكيلوواط للمئة الأولى بعد أن كان سابقاً 0.80 جنيه فقط، و6 جنيهات للكيلوواط للمئة الثانية، وكان جنيهاً واحداً فقط و8 جنيهات للثالثة، و15 جنيهاً للرابعة، و20 جنيهاً للمئة الخامسة، و25 جنيهاً للسادسة، ثم 31 جنيهاً لكل كيلوواط وما فوق لـ 600 كيلوواط.
وتضاعفت بموجب الزيادات، التكلفة الكلية لأول 600 كيلوواط ساعة (المدعومة)، 10 مرات مما كانت عليه في السابق، بالقفز من حوالى 800 جنيه، ما يعادل (1.7 دولار)، إلى حوالى 8000 جنيه، ما يعادل (17.7 دولار)، (الدولار يعادل 450 جنيهاً) بما في ذلك قيمة أجرة العداد، بينما تضاعفت التعرفة لما بعد الـ 600 كيلوواط الأولى، بحوالى 5 مرات، إلى جانب تحديد سعر 24 جنيهاً للكيلوواط لدور العبادة ومرافق مياه الشرب.
أما بالنسبة للقطاعات الأخرى غير السكنية، فقد بلغت تعرفة للقطاع الزراعي حوالى 21 جنيهاً للكيلوواط، 26 جنيهاً للصناعي، 27 جنيهاً للاستثماري، وأصبح السعر للقطاعات (الحكومي، التجاري، السفارات، المنظمات والاتصالات) نحو 40 جنيهاً للكيلوواط الواحد.
صدمة ومفاجأة
وفوجئ المواطنون بتطبيق هذه الزيادة التي كانت بمثابة صدمة لهم، وقابلوها بغضب وسخط كبيرين، وسط حالة من الإحباط وخيبة آمال السودانيين الذين كانوا يتفاءلون بالعام الجديد، ليتفاجأوا بهذه الزيادة الخيالية في أسعار الكهرباء.
واعتبرت قطاعات كبيرة منهم، أن الوقت غير ملائم لتطبيق مثل هذه الزيادة الخيالية في أسعار الكهرباء، في ظل الاضطرابات السياسية والواقع الاقتصادي وغلاء المعيشة الذي تشهده البلاد، فضلاً عن انخفاض مستوى الدخل مع ارتفاع نسبة الفقر، بالنظر إلى أهمية الكهرباء كمحرك حيوي لحياة الناس وعجلة الإنتاج.
وقال متوكل عبد الرحيم، صاحب مركز تجاري حول هذه الزيادة بأنها "مبالغ فيها وستقود حتماً إلى زيادة الأسعار"، مشيراً إلى أن تكلفة الكهرباء الشهرية للمتجر كانت حوالى 8000 جنيه، ما يعادل (17.7) دولار، ستقفز مع استهلاكه الحالي إلى 120 ألف جنيه، ما يعادل (267 دولاراً)، ما سيحتم عليه رفع أسعار السلع، ناهيك عن الزيادة التي ستتم لتعويض فارق السعر داخل المصانع نفسها.
مختصون يحذرون
وفي السياق، أطلق مختصون ومراقبون اقتصاديون تحذيرات شديدة من فرط التداعيات الاقتصادية السالبة العميقة للزيادة الجديدة في تعرفة الكهرباء، متوقعين أن تنعكس سلباً على كاف قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي والخدماتي، وزيادة أسعار السلع الأساسية للمواطنين وتكلفة الإنتاج، إلى جانب زيادة الفقر والبطالة وزيادة التضخم وتفاقم الأعباء على المواطنين.
وطالب المختصون، السلطات السودانية الاقتصادية وعلى رأسها وزارة المالية والاقتصاد الوطني، بضرورة استثناء القطاعات الإنتاجية في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات من تلك الزيادة المهولة في أسعار الكهرباء، نظراً لتأثيرها السلبي الكبير في تكلفة الإنتاج، ومن ثم أسعار السلع وكل تفاصيل حياة الناس ومعيشتهم، تأثيراتها في الأوضاع الأمنية والسياسية بالبلاد.
ووصف الأكاديمي والمحلل الاقتصادي، محمد الناير، الزيادات التي حدثت بغير المسبوقة، ولم تُحسب بصورة حقيقية، ولم تراع أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية الراهنة، فضلاً عن ترافقها مع زيادات أُخرى طاولت رغيف الخبز الذي تضاعف سعره نحو 6 مرات، وتحول معظم المخابز عن الخبز المدعوم بسعر 5 جنيهات للرغيف، ما يعادل (0.01) دولار، حتى نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021، إلى الخبز التجاري، بسعر 30 جنيهاً للرغيف، ما يعادل (0.07) دولار. وأشار إلى أن الدولة تتغافل عن هذا الأمر بهدف الوصول سراً إلى إلغاء دعم الخبز نهائياً، على الرغم من أن السعر التجاري يفوق طاقة المستهلك ويحرمه من تلبية حاجته من هذه السلعة الحيوية.
ولفت الناير إلى أن الزيادات التي طُبقت فعلياً، لم يتم حسابها بدقة وموضوعية، كما لم تضع في الاعتبار نسبة الفقر المرتفعة في البلاد، ما بين 60 إلى 80 في المئة، فضلاً عن ارتفاع نسبة البطالة بأكثر من 40 في المئة، وفي وقت يرتفع معدل التضخم ما بين 330 إلى 350 في المئة. كلها مؤشرات تؤكد صعوبة تحمل غالبية شرائح الشعب السوداني لهذه الزيادات الكبيرة، وتضاعف من معاناتها القائمة أصلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محرومون ومقتدرون
وأوضح الناير أن هذه الزيادات ستعني عملياً أن كثيراً من الأسر السودانية الفقيرة ستضطر للعيش في الظلام، وتُحرم من استخدام أدواتها الكهربائية البسيطة كالثلاجة والتلفزيون وغيرها، وكذلك حرمان الأبناء من التحصيل العلمي، نتيجة عدم المقدرة على مجاراة التعرفة الجديدة للكهرباء، بينما ستتمتع الفئات الغنية فقط بهذه الخدمة.
وأشار المحلل الاقتصادي إلى أن الأثر الكبير لتلك الزيادات ليس على الحياة اليومية للمواطن فحسب، بل سيتعداه إلى كل القطاعات الاقتصادية الإنتاجية، الزراعية والصناعية والخدمية، التي يتوقع أن ترتفع أسعارها أيضاً بدرجة كبيرة جداً وحتى السلع الضرورية خلال الفترة المقبلة، باعتبار أن هذه الزيادات ستنعكس على أسعار كل السلع، ومن شأنها أن تقود إلى المزيد من التعقيد في المشهد الاقتصادي، وعودة مؤشر معدلات التضخم إلى الارتفاع أكثر مما هو عليه الآن.
ونوه الناير إلى أن مرتبات العاملين بالقطاع العام والخاص لا تؤمن أكثر من 15 في المئة من احتياجات الموظف الضرورية، وحتى إذا تم تعديلها، إلا أن نسبة العاملين بهذين القطاعين لا تتعدى أيضاً 10 إلى 15 في المئة، من جملة تعداد الشعب السوداني البالغ 43 مليون نسمة، ما يعني أن 90 في المئة من الشعب سيعاني بشدة من هذه الزيادات.
واتهم المحلل الاقتصادي، الحكومة بعدم وضع حسابات دقيقة والنظر إلى التداعيات السلبية لهذا القرار، لكنها لا تنظر سوى لشروط صندوق النقد الدولي بصورة كاملة بغض النظر عن انعكاساتها على المواطن السوداني. فبدلاً من الالتفات إلى القضايا الأساسية والتركيز على تشكيل حكومة كفاءات وإجازة الموازنة العامة للدولة، تلجأ لمثل هذه الزيادات حتى من دون إعلانها للناس، في غياب تام لمبدأ الشفافية والوضوح.
بين المالية والكهرباء
من جانبه، أوضح المهندس أمين عثمان، مدير الشركة السودانية لتوزيع الكهرباء، أن الزيادات الأخيرة في الكهرباء تمت بالتنسيق التام مع وزارة المالية، وذلك بعد أن وافقت على الموازنة التي قدمها إليها قطاع الكهرباء متضمنة التكلفة الحقيقية للإنتاج لعام 2022. وذلك على الرغم من نفي الناطق الرسمي باسم وزارة المالية والاقتصاد الوطني، أحمد الشريف، صدور أي قرار من الوزارة بشأن رفع الدعم عن الخبز والكهرباء في الموازنة الجديدة، بحسب ما نقله عنه عدد من مواقع التواصل الاجتماعي وصحف محلية.
وكشف عثمان، في تصريح إذاعي، أن وزارة المالية درجت على دفع تكلفة دعم الكهرباء لفترات طويلة مضت، وهو عبارة عن الفارق بين التكلفة الحقيقية والمبيعات، مشيراً إلى أن هذا العجز كان لا بد أن تتم تغطيته إما بالدعم أو بتغيير الأسعار.
وأوضح مدير عام شركة التوزيع، أنه بعد التعرفة الجديدة للكهرباء يصبح الدعم المقدم من وزارة المالية يعادل نسبة 69 في المئة من جملة التكلفة المطلوبة من قطاع الكهرباء، وذلك بعدما كان بنسبة 80 في المئة عند بداية العام 2020، مشيراً إلى أن التعرفة الجديدة اهتمت بمراعاة الشرائح الضعيفة، بتقسيمها إلى ثلاث فئات هي التي تستهلك من 100 إلى 600 كيلوواط/ساعة، بنسب تتراوح ما بين 91 إلى 57 في المئة.
متطلبات صناعة الكهرباء
وعلى الصعيد ذاته، قال عثمان ضوء البيت مدير الشركة القابضة للكهرباء، إن زيادة سعر الكهرباء تحددها وزارة المالية بحسب ما هو متوافر لها من إيرادات، وأوضح في تصريحات صحافية، أن الزيادات تهدف إلى توفير متطلبات صناعة الكهرباء مع مراعاة دعمها الشرائح الضعيفة والجهات الإنتاجية.
وأشاد ضوء البيت بالمجهودات الكبيرة التي يبذلها العاملون في قطاع الكهرباء ليلاً نهاراً، من أجل توفير هذه الخدمة للمواطنين، ما يتطلب أهمية عونهم وتقدير مجهوداتهم وتفادي التعرض لهم، ليتواصل الاحترام المتبادل بين شركاء قطاع الكهرباء من المنتجين والمستهلكين.
وكشف مدير شركة الكهرباء القابضة أن الحكومة وضعت خطة طموحة تستهدف زيادة تغطية الكهرباء من 32 في المئة حالياً إلى 100 في المئة بنهاية عام 2035، إلى جانب خطط مستقبلية تشمل مراجعة المشاريع قيد التنفيذ لضمان استكمالها ودخولها مرحلة الإنتاج. وتشمل المشاريع 530 ميغاواط توليد حراري بمحطة (قرى 3)، فضلاً عن 350 ميغاواط حراري ببورتسودان، كما تتضمن الخطط متابعة عمليات التنفيذ لتفادي القصور وضمان استكمالها بالمستوى الفني المطلوب.
ويبلغ إنتاج المحطات الحرارية نحو 560 ميغاواط، في حين تبلغ طاقتها التصميمية أكثر من 1200 ميغاواط، وتأمل شركة التوليد الحراري في رفع طاقتها الإنتاجية بمقدار 750 ميغاواط بعد اكتمال العمل في محطتين عام 2022، بينما تنتج منشآت التوليد المائي الست العاملة في البلاد، ما بين 70 إلى 75 في المئة من مجمل إنتاج الكهرباء الحالي في السودان، يتراوح ما بين 1800 إلى 1900 ميغاواط، وهو أقل بنحو 33 في المئة من مجمل الاستهلاك، الذي يتراوح ما بين 2900 إلى 3 آلاف ميغاواط.
وتخطط الحكومة لزيادة حجم التوليد المائي بنحو 300 ميغاواط خلال الفترة المقبلة، عبر إنشاء محطة جديدة في الضفة الشرقية لخزان سنار، بطاقة إنتاجية تبلغ 146 ميغاواط، كما تعمل لرفع الطاقة الإنتاجية لخزان الروصيرص من 280 إلى 442 ميغاواط.