قبل نحو عام، رحل الكاتب البريطاني الكبير جون لو كاريه تاركاً خلفه 26 رواية تجسّس تمكّن فيها من إعادة تحديد هذا النوع الأدبي، ومن إثبات بصيرة نادرة في قراءة العصر الراهن. وكان قراؤه يظنون أن هذا الإرث المشرِّف سيبقى على حاله لولا أن صاحب ثلاثية "كارلا" الشهيرة لم يخْفِ مفاجأة سارّة في واحد من أدراجه، رواية أخيرة بعنوان "سيلفرفيو" لا أبالغ في اعتبارها تحفة أدبية صغيرة، وتقارب موضوعات شكّلت شاغلاً رئيسياً لصاحبها في سنواته الأخيرة.
أحداث الرواية، التي صدرت حديثاً عن دار "فايكينغ"، تنطلق مع شابة تحضر إلى عنوان أحد مسؤولي جهاز الإستخبارات البريطانية، بروكتور، لتسليمه باليد رسالة من أمّها المنازعة تحذّره فيها من تسريب استخباراتي خطير. بعد ذلك، تنتقل الرواية إلى بلدة نورفولك البريطانية الساحلية حيث فضّل شاب يدعى جوليان لوندسلي الاستقرار وتأسيس مكتبة، على وظيفته المربحة في حيّ السيتي الشهير في لندن: "تركتُ بريق الذهب من أجل رائحة الورق القديم". ولكن في أحد المساءات، يدخل إلى مكتبته رجل بريطاني متقدّم في السن وأنيق يدعى إدوارد آفون، يبدو بسرعة أنه من أصول بولندية ويعيش مع زوجته المريضة ديبورا في منزل كبير على طرف البلدة يحمل اسم "سيلفرفيو".
من محاورته جوليان، يتبيّن أن إدوارد يعرف الكثير عن عائلة هذا الشاب، وتحديداً عن والده الراحل الذي كان كاهناً أنغليكانياً قبل أن يُطرد من سلك الكهنوت بسبب مغامراته الجنسية. لكن ماذا يريد إدوارد منه، غير المشروع المثير الذي يطرحه عليه ويقتضي بتحويل الجزء السفلي من المكتبة إلى مساحة للقراءة باسم "جمهورية الأدب"؟ ما يجهله جوليان وينكشف تدريجياً هو أن إدوارد، الذي يتمتع بشخصية مغناطيسية وثقافة أدبية مدهشة، كان ناشطاً شيوعياً في بولندا خلال الحقبة السوفياتية، قبل أن يجنّده جهاز الاستخبارات البريطانية ويوكله مهمات جمّة في أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة، ثم في البلقان خلال حرب البوسنة حيث تعرّف إلى زوجته ديبورا التي كانت المسؤولة عنه في الجهاز المذكور.
جاسوس محترف
ومثل أي جاسوس جيّد، يتمتع إدوارد بقدرة على الظهور بحِلَل وهويات مختلفة، وهو ما يحدس جوليان به، بعد فترة من تعرّفه إليه، ويجعله يقول في نفسه: "إنه أشخاص كثر". لكن افتتانه بهويات صديقه العجوز لا يحول دون تساؤله إن كان الأمر يتعلق بأداء أم بطبيعة معقّدة. تساؤل يبقيه لو كاريه معلّقاً، تاركاً جوليان ــ والقارئ معه ــ في حالة شكّ من كونه تمكن أخيراً من محاصرة كافة جوانب شخصيته. وحين يحضر بروكتور إلى البلدة وينطلق في التحقيق في سلوك إدوارد مع معارفه، نفهم أن الرسالة التي تسلّمها من تلك الشابة مطلع الرواية تتعلق بهذا العجوز، وأن الأم المريضة التي خطّت هذه الرسالة ليست سوى.. ديبورا زوجته.
بالتالي، "سيلفرفيو" هي أولاً رواية حول تحقيق استخباراتي جهنّمي يقوده محترف في الجاسوسية. ومع أنها تذهب بالقارئ مراراً إلى تلك الأيام المليئة بالإثارة خلال الحرب الباردة، ثم أثناء صراع البلقان الأخير، إلا أن قصتها تتركّز على موضوعي طريقة إدارة العملاء على يد الأجهزة التي ينتمون إليها، والضغوطات العاطفية التي تحثّهم خلال فترة على تأدية مهماتهم، ثم تحطّمهم. بعبارة أخرى، ومثل روايتي لو كاريه السابقتين، "إرث جواسيس" (2017) وعميل ناشط على الأرض" (2019)، تتناول "سيلفرفيو" بلا مواربة أخطاء الماضي التي ارتكبها مسؤولو هذه الأجهزة وكلفتها الأخلاقية العالية، عن طريق عميل سابق ــ إدوارد ــ بات يعتقد أن ثمة طرقاً أفضل لحلّ مشاكل العالم من العمل الاستخباراتي. وهو ما يسمح للكاتب بتفحّص إرث أجهزة الاستخبارات البريطانية وبتسجيل الملاحظات عليه، مستعيناً بعيون أولئك الذين خدموا في أعلى المناصب داخل هذه الأجهزة، كالمسؤول الاستخباراتي عن إدوارد خلال فترة ما الذي سيقرّ بمرارة لبروكتور أثناء تحقيق هذا الأخير معه: "الحقيقة هي أننا لم نفعل شيئاً يُذكر لتغيير مسار تاريخ البشرية، أليس كذلك؟ شخصياً، أعتقد بأنني كنت سأكون أكثر فائدة لو أدرتُ نادٍ للشباب".
عجز الأجهزة
لكن ثمة هدف آخر للرواية هو إظهار عجز الأجهزة المذكورة عن التعلّم من أخطائها، ومتابعتها العمل التجسّسي لتغيير مجرى التاريخ أو، على الأقل، لترجيح كفة الميزان في هذا الاتجاه أو ذاك، موقعة في كل مرة في شباكها ضحايا أبرياء، كما سيحصل لجوليان وليلي، ابنة إدوارد وديبورا، اللذين سيجدان أنفسهما واقعَين رغماً عنهما داخل شبكة معقّدة لا أمل لهما في فهمها.
ثمة أيضاً ذلك الموضوع الذي يعبر معظم روايات لو كاريه ويتعلّق بتمييز هذا الكاتب بين الجواسيس الأشرار الذين يخونون وطنهم من أجل عقيدة أو مال، وأولئك الذين يفعلون الشيء نفسه بدافع الحب أو المثالية، فيستبدلون وفاءً بالياً بشغف يتطلب التزامهم المطلق، كما يحصل مع إدوارد في البوسنة حيث يقع في غرام امرأة عربية فاتنة بعد إنقاذه إياها من مجزرة مروعة يُقتل فيها زوجها وأطفالها، وينتهي به الأمر بتسريبه معلومات لها من مكتب زوجته بالذات. تسريب تكتشفه ديبورا صدفةً ويُطلق تحقيق بروكتور الذي يشكّك في النهاية بقيمته بقوله: "ما الذي تم تسريبه، مخططات الجهاز أم شلله؟ وماذا لو أن هذا الجهاز هو بالذات المشكلة، لكونه بات، في غياب أي سياسة خارجية متماسكة، أكبر من حذائه؟".
هاجس الموت
ثمة أخيراً ــ وليس آخراً ــ موضوع الموت، الحاضر أيضاً في جميع روايات لو كاريه، والمركزي في روايته الأخيرة، ليس فقط لأن واحدة من شخصياتها الرئيسة، ديبورا، تحتضر وتموت بسبب إصابتها بمرض السرطان، بل أيضاً وخصوصاً لأنها تسقطنا، وإن بسرعة، في الفظائع التي ارتُكبت أثناء الحرب الباردة، ثم في حرب البوسنة، وتلك التي ارتُكبت في فلسطين، وبالتالي لأنها تقارب أفعالاً دموية محددة وتداعياتها المستمرة، ما يفسّر غضب لو كاريه المستشعَر داخل نصّه ويأسه وإحباطه من الأعمال الهمجية التي تُرتكب باسم المصالح الجيوسياسية.
في "سيلفرفيو"، لا مطاردات ولا أفعال بطولية أو تفجيرات، لكن نصّها يولّد توتّراً حاداً يمسك بالقارئ حتى الصفحة الأخيرة ويثبت مرةً أخيرة لماذا يتربع مؤلّفها على "عرش" رواية الجاسوسية. فبينما يضخّ معظم روائيو هذا النوع في أعمالهم فصولاً طويلة وغزيرة من الـ "أكشن" لتشويق القارئ، يتمكن هو من بلوغ نتيجة أفضل من خلال وصفه مسرح الأحداث المروية أو عبر نقله الفريد لمبارزة حوارية. وفعلاً، لعل المحور الاستثنائي الأهم في روايته الأخيرة هو عملية استجواب بروكتور زميلين له متقاعدين، والتي يتم خلالها تشريح شخصية إدوارد آفون وقصته، باقتصاد كبير في الكلمات وطريقة تعكس فنّاً يتجاوز معظم روائيي النوع المذكور. استجواب لا يلبث أن ينقلب، كما في جميع روايات لو كاريه السابقة، إلى استجواب مضاد يكشف كل عيوب وآثام أجهزة الاستخبارات البريطانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبقى أن نشير إلى أن بعض الصحافيين شكّكوا في كون لو كاريه هو مَن أنجز هذه الرواية، مرتكزين في شكّهم الى نحالة نصّها (نحو مئتي صفحة) وخصوصاً الى طريقة ختمها السريعة والمفاجئة التي تفتقر، في نظرهم، إلى ما عود هذا العملاق قراءه أن يتوقّعوا من الخاتمة في رواياته، أي ذلك الشعور بالقنوط الناتج عن مآل الأحداث المروية. لكن ما فات هؤلاء الصحافيين هو أن كل مميزات رواياته حاضرة في "سيلفرفيو"، بدءاً بالنبرة التي تعكس معرفة عميقة في الموضوع المقارَب، مروراً بالحبكة المتاهية التي تتطلب انتباهاً شديداً من القارئ كي لا يتوه في أروقتها، وبالأسلوب الأنيق والفريد في طرافته الباردة والناجعة. وانتهاءً بالطريقة المنهجية الحاذقة في فضج التناقض الأخلاقي للأجهزة الاستخباراتية ومسؤوليها، من دون أن ننسى تلك التفاصيل التي تشكّل بدورها ثوابت في أعمال الكاتب، كالأب المخزي والزوجة الخائنة.
أما بالنسبة إلى خاتمة الرواية غير المعهودة في سرعتها، وأيضاً في انتصار خيار الحب فيها على القنوط، وإبقائها القارئ معلّقاً في الأفق المفتوح لهذا الخيار، فلماذا يرفض القراء لجون لو كاريه حق ختم مسيرته الكتابية المجيدة وحياته بنوتة أمل، وهو الذي كان يدرك أثناء كتابتها وشوك رحيله، وأنها ستكون عمله الأخير؟