على الرغم من أن الولايات المتحدة تسابق الزمن للحاق بروسيا والصين في مجال الصواريخ الفرط الصوتية، المعروفة باسم "الهايبر سونيك" التي تطير بأضعاف سرعة الصوت، فإن تجاربها الثلاث لإطلاق هذه الصواريخ فشلت خلال العام الماضي، ولم يغادر آخرها جناح القاذفة بي 52، في وقت يقترب فيه الموعد النهائي الذي حدده البنتاغون لتشغيل هذه الصواريخ العام المقبل، ما يهدد بتأخير الهدف الاستراتيجي ويُذكّر بأوجه القصور في أنظمة الدفاع الصاروخي الباليستية خلال التسعينيات، فما الأسباب وراء هذا الفشل وكيف يمكن التغلب على هذا الإخفاق؟
أمر محرج
للمرة الأولى منذ بدايات الحرب الباردة، تخلفت أميركا عن منافسيها الدوليين في سباق تكنولوجي سيكون له عواقب عسكرية ودبلوماسية بعيدة المدى، نظراً إلى أن أسلحة "الهايبر سونيك" التي تفوق سرعتها أضعاف سرعة الصوت، هي واحدة من ست تقنيات ناشئة تعتقد وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أنها يمكن أن تحسم نتائج الصراعات المستقبلية. ولكن مع استمرار منافسي أميركا في نشر صواريخ جديدة منها تستمر إخفاقات الولايات المتحدة. فبعد أيام قليلة من ظهور تقارير بأن الصين أطلقت بنجاح تجربة صاروخية تفوق أضعاف سرعة الصوت وبقدرة نووية، وإعلان روسيا أنها نجحت في اختبار صاروخ مماثل، اعترف مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية بفشل اختبار نظام لتعزيز سرعة صاروخ مماثل للمرة الثالثة على التوالي هذا العام.
وفيما حاول المتحدث باسم البنتاغون التخفيف من حالة الإحراج بتوضيح أن التجارب والاختبارات، سواء كانت ناجحة أو غير ناجحة، هي العمود الفقري لتطوير تقنيات بالغة التعقيد وحاسمة بسرعة هائلة، إلا أنه وفقاً للمعايير العسكرية الأميركية، تظل هناك سنوات عديدة حتى تكتسب هذه التجارب صفة التشغيل العملياتي المرغوبة. وهذا يبقي الولايات المتحدة متأخرة بالفعل عن المنافسة في هذا المجال مع خصومها في موسكو وبكين، الأمر الذي يسبب حرجاً وقلقاً للقيادات الأميركية، بسبب حقيقة أن أنظمة الدفاع الصاروخي الأكثر تقدماً في العالم، لا يمكنها التصدي بفعالية ضد الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والتي يمكن أن تطير بسرعات تزيد على 3800 ميل (6200 كلم) في الساعة، وتحلق في مسارات منخفضة ويمكنها المناورة أثناء الطيران، ما يجعل من الصعب تعقبها وتدميرها.
خطأ التعجل
وحسب كثير من خبراء الدفاع والتكنولوجيا الصاروخية، تبدو وزارة الدفاع الأميركية متعجلة من أمرها وعازمة على تحقيق نتائج سريعة في هذا المجال. فبدلاً من تحديد مفهوم أو مفهومين لتكنولوجيا هذه الصواريخ وإدخالهما في عملية البحث والتطوير والاختبار ثم التقييم المدروس بعناية، اختار مديرو برامج البنتاغون المضي قدماً في جهود متنافسة ومتعددة، ووضعوها في مسار يؤدي إلى إصدار نماذج أولية واختبارها بشكل سريع، على أن يتبعها حال نجاحها في الاختبارات، البدء في عملية إنتاج سريعة للصواريخ "الهايبر سونيك" وبدء تشغيلها. ولهذا السبب أصبح مقاولو وزارة الدفاع الرئيسيون مندفعين كثيراً مثل المنقبين عن الذهب في بدايات القرن الماضي.
وعلى الرغم من جهود الولايات المتحدة المستمرة منذ سنوات لبناء مركبات منزلقة وصواريخ كروز "هايبر سونيك"، فإنها جميعاً فشلت، وكان آخرها الاختبار الأخير الذي أجري الشهر الماضي، حين لم يغادر الصاروخ الذي يطلق من الجو، جناح القاذفة بي 52 التي تحمله، بينما يفترض أن يدخل هذا السلاح في خدمة الجيش والبحرية بحلول العام المقبل 2023، فضلاً عن نماذج أخرى تخضع للتطوير تفوق سرعتها سرعة الصوت، لكنها تعاني أيضاً سجل اختبار مضطرب.
ما أشبه الليلة بالبارحة
وتُذكّر الجهود الحالية بالبداية الصعبة لبناء الولايات المتحدة أنظمة دفاع ضد الصواريخ الباليستية في التسعينيات، التي شهدت خيبات أمل متكررة. لهذا قامت ثلاث من الوكالات التابعة للبنتاغون بشيء غير معهود، حين جمعت لجنة من الخبراء المخضرمين لفحص الوضع، تحت قيادة الجنرال المتقاعد في القوات الجوية لاري ويلش، الذي أصدر تقريراً صادماً أصبح عناوين الصحف ووسائل الإعلام في ذلك الوقت، بسبب انتقاده بشكل صريح الجداول الزمنية القصيرة والصارمة في عمل يتعلق بجهود تطوير تكنولوجيا معقدة، كون هذه الجداول لا تساعد عمليات التخطيط والاختبار على النجاح، وبالتالي كانت الإخفاقات ناتجة عن سوء التصميم والتخطيط للاختبار، وميل الحكومة ومديري البرامج إلى التقليل من أهمية أسباب هذه الإخفاقات المكلفة. وظهرت أوجه القصور في الاختبارات المبدئية، ما أدى إلى الاندفاع نحو الفشل.
ولكن بعدما تحولت جهود نظام الدفاع الصاروخي الباليستي الأكثر تعقيداً إلى جدول زمني أطول، دخل البرنامج مرحلة جديدة من التطوير للنماذج الأولية من نظام ثاد الصاروخي بعد إخفاقين آخرين من أصل أربعة اختبارات بحلول أغسطس (آب) عام 1999. ولم تُستأنف اختبارات الطيران حتى عام 2005، لكنها أسفرت عن نجاحات متسقة منذ ذلك الحين في اعتراض الصواريخ المهاجمة. ولم تظهر أول بطارية ثاد في إطار تشغيلي، إلا عام 2008 بعدما كان من المقرر أصلاً البدء في نشرها عام 1996.
وعلى الرغم من أنه لم يُعرف بعد ما إذا كانت جميع أحكام لجنة ويلش حول أوجه القصور في تطوير أنظمة الدفاع الصاروخي في التسعينيات، ستنطبق على مشاريع الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت اليوم، فإن التقرير الصادر في أبريل (نيسان) عام 2021 من مكتب محاسبة الحكومة بالكونغرس، أبدى بعض الملاحظات المؤسفة المماثلة لتقرير ويلش، وبخاصة التقنيات غير الناضجة والجداول الزمنية الصارمة والضاغطة التي تستهدف بناء نموذج أولي في غضون ستة أشهر، ونشر قدرة أولية تشغيلية في غضون خمس سنوات.
حقائق معقدة
غير أن السؤال المثير للجدل في الأوساط الأميركية هو كيف لم تتمكن الولايات المتحدة، بميزانية دفاعية سنوية تزيد على 700 مليار دولار، من إنتاج سلاح "هايبر سونيك" ووضعه في الخدمة، بينما الجيش الروسي بميزانية سنوية قدرها 61 مليار دولار فقط، يمتلك بالفعل سلاحين؟ والإجابة عن هذا السؤال تبدو طويلة ومعقدة لكنها تتعلق بحقائق ضرورية.
على الرغم من تقدم العالم في التقنيات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت خلال التسعينيات ووجود خطط لطائرات تفوق سرعتها سرعة الصوت، يعود تاريخها إلى الخمسينيات من القرن الماضي، فإن العقدين الماضيين من الصراعات الأميركية في الشرق الأوسط فرضا تحولاً في تركيز البنتاغون بعيداً من التقنيات العسكرية المتقدمة في هذا المجال، وتوظيف اهتمامه بدلاً من ذلك على أنظمة القتال الحالية مثل طائرات "أف 14" و"أف 22 رابتور" و"أف 35". فقد كان يُنظر إلى صواريخ "الهايبر سونيك" على أنها أسلحة باهظة الثمن، بينما لا يوجد تهديد قوى لدى الخصوم للتعامل معه.
لكن الآن، ومع اندلاع حرب باردة جديدة بين القوى العالمية، فإن "البنتاغون يعوض عن الوقت الضائع بأفضل طريقة يعرفها، وهي تخصيص مزيد من الأموال لعلاج المشكلة"، حسبما يقول أليكس هولينغر الضابط السابق في مشاة البحرية الأميركية. ففي عام 2020، خصص البنتاغون ما يزيد قليلاً على ملياري دولار لتطوير تقنيات "الهايبر سونيك"، بما في ذلك الصواريخ. وفي عام 2021، قفز هذا الرقم إلى 3.2 مليار دولار، زادت مرة أخرى في اقتراح ميزانية وزارة الدفاع لعام 2022، إلى 3.8 مليار دولار. وأصبح هناك ما لا يقل عن 70 برنامجاً دفاعياً تستخدم هذه الأموال، سبعة منها مخصصة للصواريخ التي تفوق سرعتها أضعاف سرعة الصوت، وتعمل عليها شركات كبيرة مثل "لوكهيد مارتن" و"رايثون" وغيرها، وفقاً لما تم الكشف عنه حتى الآن.
أنواع "الهايبر سونيك"
تظهر صواريخ "الهايبر سونيك" في شكلين، الأول هو مركبات انزلاقية فرط صوتية، لا تختلف كثيراً عن الرؤوس الحربية للصواريخ الباليستية التقليدية الطويلة المدى، إذ يتم حملها في الغلاف الجوي العلوي عبر معززات السرعة العالية مثل الصواريخ التقليدية العابرة للقارات، ثم يتم إطلاق واحدة أو أكثر من مركبات الانزلاق والتحكم في إدارة هبوطها بسرعة فائقة عند اقترابها من أهدافها.
أما النوع الثاني فهو صواريخ كروز فرط صوتية، تعتمد على نظام دفع متقدم يسمى "سكرامجت"، وهو في الأساس محرك نفاث يتنفس الهواء ويصل إلى الاحتراق بتدفق هواء أسرع من الصوت، على عكس المحركات النفاثة التقليدية التي تستخدم وسائل لتقليل تدفق الهواء إلى سرعات من دون سرعة الصوت. ويسمح محرك "سكرامجت" بمعدلات سرعة عالية بشكل لا يصدق، لكنه يحتاج إلى الاعتماد على مصدر تقليدي للطاقة، ونظراً إلى أن محركات "سكرامجت" فعالة فقط في معدلات السرعة العالية، فيتم نشر هذه الصواريخ من خلال طائرات سريعة الحركة أو تعتمد على شكل مختلف من الدفع للوصول بها إلى هذه السرعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من صاحب السبق؟
وعلى الرغم من أن كلمة "هايبر سونيك" أو "الفرط الصوتية"، يتم التعامل معها كما لو كانت من فيلم خيال علمي، فإن الحقيقة هي أن المنصات التي تفوق سرعتها أضعاف سرعة الصوت كانت موجودة بالفعل منذ عقود، ولا تستخدم هذه التسمية إلا عندما تتجاوز السرعة 5 ماخ، أو ما يقرب من 3838 ميلاً في الساعة.
ومن الناحية العملية، فإن كل صاروخ باليستي أو مركبة فضائية أطلقها البشر كانت ولا تزال تفوق هذه السرعة بطبيعتها، بل إن مكوك الفضاء الأميركي تجاوز بانتظام سرعة 25 ماخ، أو أكثر من 17500 ميل في الساعة، أثناء إعادة الدخول إلى الغلاف الجوي. كما يمكن لطائرة (إكس 37 بي) الموجودة في الخدمة حالياً بالقوات الجوية الأميركية أن تصل أيضاً إلى هذه السرعات الفائقة، وهي طائرة ظهرت للمرة الأولى منذ ما يقرب من 12 عاماً، ما يثبت أن الولايات المتحدة كانت في الصدارة من حيث التوصل إلى هذه السرعات الفائقة.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة لا تمتلك فقط مجموعة متنوعة من المنصات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت مثل العديد من الدول الأخرى، بل حتى الشركات الفضائية التي يديرها أميركيون مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس، يمكنها الادعاء بامتلاكها قدرات تفوق سرعة الصوت.
المنافسة ليست بعيدة
وتتمتع الولايات المتحدة بتقنيات فرط صوتية بنسب قوية حسب موقع "ساندبوكس" الدفاعي الأميركي. ففي عام 2004 أجرت وكالة ناسا اختباراً لعرض تكنولوجيا محرك "سكرامجت" بطول 12 قدماً ووصلت سرعته إلى 9.6 ماخ. وفي عام 2011 حلقت طائرة "بوينغ بي 51" وأجرت تجربة مماثلة بتكنولوجيا محرك "سكرامجت" ووصلت سرعته إلى 5.1 ماخ لمدة 210 ثوان. وفي أغسطس (آب) من العام نفسه، حقق مشروع "فالكون" التابع للبنتاغون إطلاق مركبة منزلقة بسرعة 20 ماخ خلال اختبار طيران مدته تسع دقائق. وفي عام 2017، أجرت الولايات المتحدة وأستراليا اختباراً مشتركاً لصاروخ "هاي فاير سكرامجت"، ووصلت سرعته إلى ما يزيد على 8 ماخ.
وفي الوقت نفسه، فإن صاروخ "كينزال 47 أم 2" الروسي، الذي دخل الخدمة في عام 2017، ليس مركبة انزلاقية تفوق سرعة الصوت، ولا هو صاروخ "كروز" يعمل بمحرك "سكرامجت"، ولكنه تطوير من صاروخ إسكندر الباليستي القصير المدى، ومزود بجهاز استهداف جديد مُركب على بطن طائرة "ميغ 31" أو محمولاً داخل قاذفات توبوليف، أي إن "كينزال" هو صاروخ باليستي يُطلق من الجو ومصنوع من مكونات تم تصميمها عام 1988.
وفي حين أن هذا النوع من الأسلحة يوفر لروسيا قدرة عسكرية متزايدة، إلا أن الولايات المتحدة لا ترى قيمة عملية من تسريع العمل على تصميم بدائي مثلما تفعل موسكو لجذب انتباه الإعلام الدولي، والذي يعد أحد الأهداف الاستراتيجية الطويلة الأمد لروسيا.
هل تلحق أميركا بالركب؟
تتضمن جهود الولايات المتحدة لتطوير صواريخ "هايبر سونيك" ما لا يقل عن مركبتين انزلاقيتين، وربما ما يصل إلى خمسة صواريخ كروز تستفيد من الدفع النفاث لمحرك "سكرامجت". ولأنه لم يسبق لأي دولة أن وضعت نظام سلاح يعمل بمحرك "سكرامجت" في الخدمة، فمن المنطقي أن يتأخر هذا الجهد عن نهج روسيا في استخدام التكنولوجيا القديمة، ولكن سيؤدي النهج الأميركي إلى جدول زمني أطول، قد ينتج عنه أنظمة أسلحة أكثر قدرة على المدى الطويل.
ومع ذلك، تمتلك كل من روسيا والصين أنظمة أسلحة ذات مركبات انزلاقية تفوق أضعاف سرعة الصوت. وعلى الرغم من النجاحات الأميركية السابقة في هذا المجال، فلا أحد ينكر أن الولايات المتحدة لم تضاهِ هذه القدرة بعد، ربما بسبب تركيز أميركا على تطوير أسلحة تقليدية "هايبر سونيك" وليست نووية. وهذا يفرض تحديات تقنية أكبر، لأنه عندما تستخدم الأسلحة النووية لا تحتاج إلى أن تكون بالدقة نفسها بسبب الحجم النسبي لنصف قطر انفجارها. لكن السلاح التقليدي يحقق إطاراً تدميرياً أصغر، وبالتالي يجب أن يكون أكثر دقة لتدمير هدفه، وهو ما أشار إليه تقرير أصدرته خدمة أبحاث الكونغرس.
ميزة السلاح التقليدي
وبينما تتوافر دلائل بأن الصين وروسيا تطوران صواريخ "الهايبر سونيك" لغرض استخدامها في هجوم نووي على مواقع مهمة أو ضد حاملة طائرات، إلا أن البعض في الولايات المتحدة يعتقد أن استخدام تكنولوجيا "الهايبر سونيك" لا يقدم سوى القليل من القيمة الاستراتيجية، إذ من شبه المؤكد أن أي هجوم نووي متبادل، سيؤدي إلى حرب نووية واسعة النطاق، بينما يمكن للصواريخ المماثلة ذات الرؤوس الحربية التقليدية وبدقة عالية أن توفر ميزة استراتيجية من دون أن يؤدي ذلك إلى حرب نووية واسعة.
ولكن في كل الأحوال، فإن إخفاقات أميركا الفنية الأخيرة لا يمكن تجاهلها، لكن على الرغم من أنه ليس لدى واشنطن ما تكسبه من تسريع استخدام سلاح "هايبر سونيك" ووضعه في الخدمة سوى الحفاظ على هيبتها كقوة عسكرية أولى في العالم، فإن الهيبة في حد ذاتها هي لعبة مضحكة. فقد ظلت أسلحة روسيا والصين في الخدمة منذ بضع سنوات، ومن المنطقي أن تكون صواريخ أميركا متأخرة لمدة خمس سنوات قبل أن تصبح جاهزة للعمل.
وفي النهاية، سيتوقف سباق التسلح عن الظهور عندما يبدأ الحديث عن القدرة الاستراتيجية والتكتيكية التي توفرها هذه الأسلحة. فقد كانت أميركا في وضع ضعيف للفوز بالمباراة الأولى من هذا السباق، لكنها الآن في وضع جيد للفوز بالجولة الثانية، كما يقول جيمس أكتون، المدير المشارك لبرنامج السياسة النووية في مؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي.