سيطر مقتل الضابط السوداني برتبة عميد في أثناء التظاهرات التي حدثت في العاصمة الخرطوم، الخميس 13 يناير (كانون الثاني)، للمطالبة بتسليم السلطة من العسكريين للمدنيين، على نقاشات السودانيين في مواقع التواصل طيلة اليومين الماضيين، إذ شكك البعض في حادثة الاغتيال من أصلها سوى بيد متظاهرين، أو مندسين، معتبرين الحادثة مؤامرة ومخططاً لإظهار التظاهرات بأنها انجرفت نحو العنف واللا سلمية.
كما تداولت هذه المواقع أيضاً عديداً من الفيديوهات التي تظهر أفراداً من الأجهزة الأمنية مصابين إصابات متفرقة، في إشارة إلى أنهم تعرضوا إلى العنف من قبل المتظاهرين، فيما يرى البعض أنها مجرد مسرحية قديمة هدفها كسب عطف الشارع السوداني.
وفي الوقت نفسه، وصف بعض أفراد الشرطة المتظاهرين، في مقطع فيديو متداول بـ"السكارى ومتعاطي المخدرات"، وقالوا إنهم قتلوا الضابط بطعنتين بالسكين. فكيف ينظر المراقبون لما يحدث من اتهامات متبادلة بين أطراف الصراع من العسكريين والمدنيين؟ وما مبرراته وأهدافه؟ وما المطلوب لإيقاف هذا الاحتقان الذي يسود الشارع؟
سيناريو قديم
في هذا السياق، يقول الكاتب السوداني شمس الدين ضو البيت، "في اعتقادي، المؤامرات والمخططات والمكايدات من قبل الأجهزة الأمنية لم تتوقف طوال العقود الثلاثة الحالكة من حكم نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وما تلاها من سنوات الفترة الانتقالية الحالية، إذ ظلت هذه الأعمال المشينة مستمرة، ولم تتوقف لحظة، فهذه الأجهزة كانت تستدرج المتظاهرين نحو العنف، إذ توحي ظاهرياً للرأي العام بأنها تقوم بحمايتهم، لكنها تقوم بغدرهم وإلصاق التهم في ما تسميه بالمندسين وسطهم، وهو نفس السيناريو الذي يحدث حالياً في التظاهرات التي تندلع في الخرطوم ومدن السودان المختلفة منذ انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، التي راح ضحيتها 63 قتيلاً، غير المئات من المصابين بإصابات مختلفة نتيجة استخدام الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية".
وأضاف ضو البيت، "هذه الأجهزة الأمنية تبحث من خلال ما تحوكه من خطط مكشوفة عن شرعية لاستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، لذلك تجدها تختلق مثل هذه المسائل والحيل، لكن في المقابل ظل المتظاهرون على قدر من الوعي، فالتزموا بسلمية الثورة، ولم يجاروا قوات الأمن في العنف، الذي استخدمته ضدهم، لذلك فشلت كل محاولات إلصاق تهمة العنف والخروج عن السلمية بالمسيرات التي ينظمها المحتجون طوال هذه الفترة".
وتابع، "المجموعة العسكرية التي تسيطر على السلطة حالياً ليس لديها شرعية سوى الاستمرار في الحكم أو مواجهة المتظاهرين، لكن مؤكد أن مخطط إبعاد التظاهرات عن مسارها السلمي لن ينجح. السلمية ثقافة عامة في المجتمع السوداني، فقد تمددت في مناطق النزاعات، سواء في دارفور أو مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، فكل المطالب والتظلمات التي أدت لحمل السلاح باتت اليوم تتم عبر التظاهرات السلمية، فكلنا شاهد التظاهرات التي اندلعت في زالنجي وبورتسودان وغيرها من مناطق النزاع، وهذا دليل على أن عنف الدولة هو الذي يتمدد الآن في وقت أنه فاقد لكل شرعية قانونية وأخلاقية، في ظل تمدد التظاهرات السلمية على مستوى السودان، الأمر الذي يؤكد أن الانقلاب في أضعف حالاته، ولم يجد أي وسيلة يواجه بها معارضيه غير العنف".
وبين الكاتب السوداني، أن "إنكار حدوث اغتيالات في التظاهرات يوضح أن الانقلابيين من المكون العسكري يقرؤون من نفس الكتاب الصادر أيام خمسينيات وأربعينيات القرن العشرين الماضي، وهي الفترة التي كانت تتم فيها الاغتيالات دون أن يكتشفها أحد، لكننا الآن في عصر ثورة الاتصالات فكل شيء يصل للناس في غرفهم، فهناك تكنولوجيا لديها القدرة على تسجيل البصمات، بالتالي لا يوجد شيء يمكن إخفاؤه، فالانقلابات كانت قبل منتصف القرن الماضي هي المسيطرة على الحقائق وتؤسس للفردية، بينما أصبحت الآن لا تستطيع ذلك حتى في الدول المتقدمة، حيث تظهر أي خروقات للعلن مباشرة، لذلك أي حديث عن وجود طرف ثالث يقوم بالقتل والعنف كلام ضعيف جداً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاعتراف بالأزمة
في المقابل، أوضح نور الدائم طه، الأمين السياسي في حركة جيش تحرير السودان بقيادة أركو مني مناوي، أن "ما يشاع بأن الحركات المسلحة تشارك بجانب القوات النظامية في عمليات قمع المتظاهرين كلام غير صحيح، بل مستحيل، لأن هذه الحركات لم تصبح حتى الآن جزءاً من القوات الحكومية، إذ لم تنفذ عملية الترتيبات الأمنية بموجب اتفاق جوبا للسلام، فنحن كحركات مؤيدين للتظاهرات السلمية التي تخرج في الشوارع، ومع حق المواطنين في التعبير عن آرائهم السلمية، وضد العنف الذي يمارس من قبل أجهزة الأمن في وجه المتظاهرين مهما كانت مبرراته وأدواته وأساليبه، لكننا ندعو جميع السودانيين إلى الجلوس على مائدة الحوار، للوصول إلى اتفاق يؤطر ويجيب عن الأسئلة التاريخية المطروحة منذ استقلال البلاد في 1956 حول كيف يحكم السودان".
وتابع طه، "نعتقد أننا بعد تجربة الحرب التي خضناها عقدين من الزمان ضد نظام الرئيس السابق عمر البشير في دارفور، مروراً بكل أدوات النضال، فإن كل الأطراف السودانية المعنية بقضية البلد السياسية أمام أعظم فرصة ظللنا ننادي بها مع انفجار هذه الأزمة، وهي الاعتراف من الجميع بأن البلاد في أزمة حقيقية تتطلب الانخراط في حلول عبر مناقشات تضع أسس واضحة للانتقال إلى التحول الديمقراطي والدولة المدنية".
وزاد، "ما يحدث من قتل واعتداء على المتظاهرين والعسكريين على حد سواء حسب تقارير الطرفين يجعلنا أن نطالب بتحقيق حقيقي وشفاف للوصول إلى الحقيقة، وكشف الذين يقومون بأعمال القتل والاعتداءات المختلفة، فنحن جربنا العمل السلمي، ونعرف كيف تكون التظاهرات، وكيف يتم التعامل معها، وقد شاهدنا ذلك في عديد من دول العالم، بالتالي استخدام أي أدوات عنف من قبل أي جهة عمل مرفوض تماماً وغير مقبول مهما كانت دواعيه ومبرراته".
وحول إذا كان هناك مخطط أو مؤامرة لجر هذه التظاهرات إلى مربع اللا سلمية، أجاب الأمين السياسي في جيش حركة تحرير السودان، "لا أستطيع اتهام جهة بعينها، وأن هناك فعلاً مؤامرة تحاك ضد الثورة بإلصاق التهم حول المشاركين فيها بأنهم يرتكبون أعمال عنف وغيره، فهذه أساليب قديمة، ويجب مواجهة الخطر الذي يواجه البلاد الآن بدلاً من الولوج في مثل هذه الاتهامات والمؤامرات التي هي أشبه بالنهج الذي كان يستخدمه نظام البشير، فلا بد أن نعترف بأن هناك أزمة انطلقت شرارتها في الأطراف، وانتقلت إلى الخرطوم، وهذا يتطلب جلوس كل السودانيين دون إقصاء لأحد للاتفاق حول مستقبل الحكم في البلاد، وتنفيذ العدالة بحق كل من ارتكب جريمة ضد الإنسانية".
مقتل العميد
وكانت وزارة الداخلية في السودان قد أعلنت يوم الخميس القبض على المتهم بقتل العميد علي بريمة حماد، وإصابة عدد من منسوبي الشرطة، إذ أوضح المكتب الصحافي للشرطة أن المتهم أقر بالجريمة وإصابة آخرين من منسوبي الشرطة بالأذى الجسيم وجارٍ تعقب بقية المتهمين.
وحماد، هو أول قتيل بين قوات الأمن منذ بدء التظاهرات ضد قرارات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر، التي اعتبرها غالبية الشعب السوداني انقلاباً عسكرياً، التي أسفرت، وفق لجنة الأطباء المركزية (نقابة مستقلة)، عن مقتل 63 متظاهراً حتى الآن.
التعويل على الشارع
وتعول لجان المقاومة وتجمع المهنيين، اللذان يقودان هذا الحراك، على هذه التظاهرات في حسم الموقف لصالح مدنية الدولة بعزل العسكريين من المشهد السياسي، فقد ظلا يدعوان في كل مليونية جموع الشعب السوداني الخروج إلى الشوارع من أجل إسقاط الانقلاب العسكري، مع تأكيدهما أن طريق النضال ما زال طويلاً، لكن تظل بوادر النصر قريبة.
ويرى أنصار الحكم المدني في السودان، الذي ظل تحت الحكم العسكري بشكل شبه متصل منذ استقلاله قبل 66 عاماً، أن إطاحة الجيش حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر الماضي، هو وسيلة لعودة نظام الرئيس السابق عمر البشير الذي كان مدعوماً من الإسلاميين.
وتأتي هذه التظاهرات الجديدة بعد بضعة أيام من إطلاق الأمم المتحدة محادثات تشمل كل الفصائل السودانية، في محاولة لحل الأزمة.
وأعرب الأعضاء الـ15 في مجلس الأمن الدولي خلال اجتماع مغلق عقد الأربعاء 12 يناير عن دعمهم الجهود التي يبذلها مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرثيس، في مسعى إلى إجراء مفاوضات غير مباشرة بين المكونين المدني والعسكري، بحسب ما أفادت مصادر دبلوماسية.
ولم يتمكن العسكريون من تشكيل حكومة مدنية منذ الانقلاب، على الرغم من تعهدهم بذلك فور إقالتهم حكومة حمدوك، في 25 أكتوبر. وقد حاولوا الاستعانة بحمدوك مجدداً، وعقدوا معه اتفاقاً سياسياً في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) استعاد بموجبه منصبه، إلا أن الشارع لم يتقبل الاتفاق، فاضطر لتقديم استقالته في الثاني من يناير.