تختزل عبارة "المعيشة غلات" (الحياة أصبحت غالية)، التي يتداولها جزائريون هذه الأيام، واقع حالهم، فبينما لا تزال الطبقة المتوسطة تحاول الموازنة في مشترياتها من خلال الاستغناء عن بعض المواد "الكمالية"، ولو مؤقتاً، انكوت الشريحة الفقيرة من لهيب الأسعار، ويمكن ملاحظة ذلك في الأسواق الشعبية التي يسأل كثير من مرتاديها عن السعر من دون القيام بفعل الشراء، وهم يكافحون لتغطية نفقاتهم مع الأسعار الحالية المرتفعة.
وأضحت كل مادة استهلاكية ترتبط بأزمة، فيتردد على لسان مواطنين "أزمة حليب"، و"أزمة سكر"، وآخرها "أزمة الزيت"، وكحلٍّ لتجاوزها، والتقليل من حدتها، استعانت الحكومة برجال الأمن لتنظيم عملية البيع على مستوى بعض المراكز التجارية، حتى تجري عملية التسويق في ظروف بعيدة عن الفوضى وتجنب وقوع مناوشات وفق ما تظهره صور متداولة على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تضع الحكومة مسألة المضاربة والاحتكار في صدارة الأسباب الحقيقية لظاهرة الندرة.
قانون جديد... 30 سنة سجناً
وفي وقت يلف فيه الغلاء مظاهر الحياة، أضافت الجزائر إلى ترسانتها القانونية، نصاً تشريعياً جديداً لمحاربة المضاربة، الذي سيسري مفعوله على كل شخص يعمل على التحريض أو الدعوة إلى المضاربة غير المشروعة أو إلى الندرة أو التخزين، وغيرها من خلال تحريك الدعوى العمومية بطريقة تلقائية.
وعرّف النص القانوني ظاهرة المضاربة بأنها "كل تخزين وإخفاء السلع أو البضائع بهدف خلق الندرة في السوق واضطراب في التموين وكل رفع أو خفض مصطنع في أسعار السلع أو البضائع أو الأوراق المالية عن طريق وسيط، أو عن طريق استعمال الوسائل الإلكترونية".
وفي شهر ديسمبر الماضي (كانون الأول) من العام الماضي، صادق البرلمان بغرفتيه على قانون مكافحة المضاربة غير المشروعة، الذي "يقضي بالسجن 30 سنة على المضاربين، ويمكن مضاعفة العقوبة لتصل إلى حد الإعدام".
وكشفت وزارة العدل الجزائرية أخيراً عن متابعة 103 متهمين بالمضاربة قضائياً منذ شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، ووضعت المصالح القضائية 63 شخصاً رهن الحبس عن تهمة المضاربة بالسلع، و5 آخرين رهن الرقابة القضائية.
وبحسب أرقام لوزارة التجارة، فقد أحالت مصالح الرقابة وقمع الغش أكثر من 100 ألف ملف إلى الجهات القضائية تتعلق بمخالفات المضاربة، خلال 2021.
وتتهم الحكومة ما تسميه "مجموعات منظمة" تعمل على إحداث الندرة والمساس بالاقتصاد الوطني والأمن الغذائي للجزائريين، وهو سيناريو مشابه لما وقع في يناير (كانون الثاني) 2011 حين شهدت الجزائر أزمة تموين في السوق المحلية، عُرفت بـ"أحداث السكر والزيت"، والتي تزامنت مع موجة الربيع العربي في المنطقة العربية، لكن تم احتواؤها من طرف السلطات وقتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استعادة الدور الرقابي
في قراءة اقتصادية، يرى المحلل عبد الرحمن هادف، أن الجزائر تسير في طريق تنظيم نشاطات التوزيع وفتح ملف ما يسمى الدعم الاجتماعي على المواد الاستهلاكية، مثل الزيت والسكر والحليب والخبز من خلال إدراج مادة في قانون الموازنة العامة لسنة 2022 تسمح لها بمراجعته، لكونه بات يلتهم أغلفة مالية ضخمة.
يذكر أن ميزانية الدولة لسنة 2022 حافظت على ما يعادل 17 مليار دولار من الإعانات الاجتماعية التي تشمل التعليم والصحة المجانيين والإسكان والمساعدات المباشرة للأسر الفقيرة، بينما كان مبلغ هذه الإعانات يصل إلى ما بين 30 و40 مليار دولار سنوياً خلال السنوات الممتدة بين 2012 و2017.
ولفت هادف في تصريح خاص إلى أن "الجزائر تمر بمرحلة مهمة في إعادة التحكم في السوق الوطنية وتطهيرها من المضاربين غير الشرعيين وفي الوقت نفسه وضع أسس لازمة لسوق حرة مبنية على التنافس، قبل التوجه نحو أسواق خارجية لتصدير سلعها، إذ تراهن على اقتحام السوق الأفريقية بشكل تنافسي ونزيه".
ويقول إن "الحكومة تريد استعادة دورها الرقابي للتقليل من ثقل الفساد والمحسوبية في القطاعات الاقتصادية، والتقليص من حجم السوق الموازية والتعاملات خارج الأطر الرسمية، وأولى الخطوات كانت من خلال سن قانون لمحاربة المضاربة التي أصبحت تتحكم في المواد واسعة الاستهلاك، منها مواد فلاحية وغذائية".
وفي رأي هادف فإنه "في إطار الآليات المستحدثة في التعاملات التجارية من الطبيعي تسجيل ندرة في بعض السلع وعودتها إلى السوق مجدداً، مبرزاً "التجار تعودوا على ممارسات عشوائية والعمل في غياب الرقابة والتهرب الضريبي، وهذه التعاملات الفوضوية أضرّت بالاقتصاد الوطني".
وفي 6 يناير (كانون الثاني) الحالي، أرجع الوزير الأول، الذي يشغل أيضاً منصب وزير المالية أيمن بن عبد الرحمن، النقص الحاد في بعض المواد الاستهلاكية أساساً إلى اضطراب التوزيع، مرجحاً العودة إلى الوضع الطبيعي خلال الأيام القليلة المقبلة.
وفي تبريره لموجة الغلاء التي تعيشها الأسواق المحلية ذكر بن عبد الرحمن أن "كل المواد الاستهلاكية على المستوى العالمي عرفت زيادة رهيبة في الأسعار نتيجة الظروف المناخية وارتفاع تكلفة النقل البحري من الصين إلى أوروبا، وأيضاً من أوروبا إلى الجزائر، والتي تضاعفت أربع مرات".
انخراط مؤسساتي
ودخل البرلمان الجزائري على خط الندرة، وقرر تشكيل لجنة استعلامية، للتحقيق في أسبابها ومن يقف وراءها، إذ باشرت هذه اللجنة زياراتها الميدانية للوقوف على أسباب ندرة مادة زيت المائدة، إلا أن عملها يبقى رهينة "استجابة الجهاز التنفيذي لمهامها" والنتائج المتوصل إليها.
ويقول مراقبون، إن هذه الخطوة تعكس وجود أزمة حقيقية في السوق، كما أنها محاولة لإثبات تمثيل البرلمانيين لمنتخبيهم واستعادة دورهم في الرقابة، بحكم أن المؤسسة التشريعية الحالية جاءت بعد حراك شعبي طالب بالتغيير الجذري لآليات الحكم وطرق التسيير العتيقة.
وتكافح الجزائر لتقليص الفاتورة الضخمة للاستيراد وفوضى التوريد التي عاشتها البلاد في في العشريتين الأخيرتين تحت غطاء استجلاب سلع من الخارج، لكن هدف كثير من العمليات التجارية كان تهريب النقد الأجنبي.
ويدعو متخصصون إلى إحداث إصلاحات اقتصادية عميقة تحذوها الجدية والشفافية بعيداً من سياسة الكيل بمكيالين، تنطلق من المصارف التي تفتقد صناعة مالية، وخصوصاً الحكومية منها، وكذلك سلطة الضرائب التي لا تزال خطواتها متثاقلة في الطريق نحو الرقمنة.
ويترقب جزائريون مع تخفيض الضريبة على الدخل الإجمالي في إطار إجراءات قانون المالية 2022 ارتفاعاً للأجور يتلاءم مع الواقع المعاش، حتى يتمكنوا من تغطية نفقاتهم بكل يُسر. في مقابل ذلك، تحتاج العادات الاستهلاكية للمواطنين لإعادة نظر وتغيير، إذ يغذيها الخوف من الغد، ولهذا يلجأ عدد كبير من المواطنين إلى سلوكيات غير رشيدة للاستهلاك من خلال تخزين السلع في المنازل، وهو ما يخلق جواً من القلق الاجتماعي.