خلف العنف المفرط الذي استخدمته أجهزة الأمن السودانية الاثنين 17 يناير (كانون الثاني) ضد آلاف السودانيين الذين خرجوا في تظاهرات في العاصمة الخرطوم للمطالبة بحكم مدني، وراح ضحيته سبعة قتلى وأكثر من 100 جريح، موجة غضب عارمة وسط كل فئات الشعب السوداني، واستنكاراً واسعاً من قبل القوى السياسية والمدنية والتنظيمات الحقوقية، بسبب استخدام الرصاص الحي بكثافة والغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية في قمع المحتجين السلميين.
وعاشت مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم، الخرطوم بحري، وأم درمان)، يوماً دامياً وحزيناً، عبرت عنه مسيرات ليلية نظمت في عدد من أحياء الخرطوم للتنديد بما أسمته بـ "المجزرة"، فضلاً عن إغلاق الشوارع الرئيسة والفرعية بالمتاريس، تنفيذاً لدعوة تجمع المهنيين السودانيين ولجان المقاومة اللذين يقودان الحراك الشعبي.
لكن، في ظل هذه الأجواء المتوترة بسبب العنف المضاد، والتصعيد المتواصل نتيجة الأزمة السياسية، كيف ينظر المراقبون لفرص نجاح الانتفاضة السودانية؟ وما السيناريوهات المتوقعة في ضوء المؤشرات الماثلة للمشهد السياسي السوداني؟
خلايا إرهابية
يشير أستاذ العلوم السياسية في إحدى الجامعات محمد خليفة صديق، إلى أن "هذا التصعيد المفرط الذي حدث في مليونية 17 يناير كان متوقعاً، باعتبار أن هذه التظاهرة هي الأولى عقب مقتل الضابط برتبة العميد، وفي ظل استمرار التحركات الشعبية لقرابة ثلاثة أشهر من دون أن تسفر عن حلول، إذ يؤدي مثل هذا الوضع إلى توتر وزيادة استعداد وعتاد وسط العسكريين، وهو ما دفع مجلس الأمن والدفاع في البلاد إلى تشكيل قوة خاصة لمكافحة الإرهاب لمجابهة التهديدات المحتملة. وقد لا يتفق كثير من المواطنين مع هذه الخطوة التي تعني تبرئة الشرطة والجيش وقوات الدعم السريع مما وقع من أعمال عنف بحق المتظاهرين، ما لم يثبت بالفعل وجود خلايا إرهابية حقيقية".
وأضاف صديق "في تقديري ليس هناك مبرر في زيادة وتيرة العنف، فهذا لا يعني غير ضيق العسكريين ذرعاً بالتظاهرات، لأنهم يعرفون أن استمرارها يؤدي إلى اقتلاعهم من سدة الحكم وهذا هو شعار المتظاهرين. كان يجب أن تتعامل القوات النظامية مع هذه التظاهرات بمهنية عالية بتجنب استخدام الأسلحة الفتاكة، بل أن تقوم بحماية المسيرات والسماح لها بالتعبير السلمي، وأن تكون هناك مراقبة لهذه التحركات للمحافظة على سلميتها، لكن ما نشاهده الآن لن يؤدي سوى إلى الدمار والسيناريوهات المزعجة التي تتسبب في الفوضى والانفلات، بالتالي لن ينتصر أي طرف في هذه المعادلة".
وتابع أستاذ العلوم السياسية، "قد يؤدي عدم توصل التحقيقات التي أعلنت عنها الجهات العدلية بخصوص حالات القتل، التي شهدتها التظاهرات والتي أودت بحياة 70 شخصاً منذ إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حالة الطوارئ في البلاد في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، إلى الاتجاه نحو تحقيقات دولية، بالتالي العجز عن أي حلول داخلية سواء قضائية أو سياسية. وهذا كله نتيجة عدم تقديم كل الأطراف المعنية تنازلات تبعد الوطن شر الانقسامات، بل تجعله دائماً في انتظار الحلول الخارجية".
مآرب وأجندة
في المقابل، قال عضو لجنة مقاومة أم درمان الكبرى عبد الإله محسن "حرصنا منذ انطلاق الانتفاضة على أخذ السلمية شعاراً لها، ولن يخيفنا العنف الذي يمارس ضدنا من قبل الأجهزة الأمنية، فقد عاهدنا أنفسنا على أن نقاتل حتى تتحقق مطالب الانتفاضة كافة ومطالب الشعب السوداني الواضحة في انتقال ديمقراطي إلى حكومة مدنية كاملة. ونعتقد أن هذه المطالب مشروعة وحق مكتسب، لكن من الواضح للعيان أن العسكريين وعلى رأس السلطة، لهم مآرب وأجندة تجعلهم يتمسكون بالسلطة ولو قتلوا ثلث الشعب".
ومضى في قوله "لقد سئمنا من الأنظمة الدكتاتورية في السودان، ونحن كشباب باستطاعتنا أن نأتي بدولة ديمقراطية يحلم بها كل السودانيين الذين عانوا من الحكم العسكري، الذي ظل جاثماً 52 عاماً منذ استقلال البلاد في 1956. وعلى الرغم من العنف الممنهج وما يُحاك من مؤامرات، فإن الانتفاضة ناجحة باذن الله وستصل إلى هدفها بسقوط الانقلابيين من المشهد السياسي، ليتفرغ أبناء هذا الوطن إلى بنائه من جديد لما شهده من دمار في كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية".
وبيّن محسن أن هذا العنف المفرط من قبل القوات الأمنية والذي يزداد يوماً بعد يوم، يغلق كل الأبواب أمام بارقة أمل لحل تفاوضي للأزمة السودانية سواء من الداخل أو الخارج، بل أنه زاد من تماسك وحدة الشعب وتعاطفه مع الانتفاضة بشكل كبير، فضلاً عن التمسك بشعار "لا تسويات، لا مبادرات حتى يسقط النظام العسكري" الذي ظهرت حقيقته بأنه غير مؤهل لحكم البلاد، وأنه لا يمثل المؤسسة العسكرية التي يجب أن تكون قومية ولا تقتل شعبها بالسلاح.
بيان للشرطة
وبحسب بيان صادر عن المكتب الصحافي للشرطة السودانية، فإن قوات الشرطة وضعت بموجب ظهور دعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمواكب ومسيرات، خطة لتأمين هذه المواكب تمت إجازتها من جميع لجان أمن المحليات في ولاية الخرطوم، لتأمين الممتلكات العامة والخاصة والمواقع الاستراتيجية والسيادية والأسواق من "المتفلتين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف البيان "ناشدت قوات الشرطة قيادات الحراك للجلوس والتنسيق، ولم تجد الدعوة الاستجابة بل قوبل ذلك بعداء مستحكم ومواجهات اتسمت بالعنف المنظم واستخدام المولوتوف وتكتيك أشبه بالعسكري، ما أدى إلى وقوع إصابات وقتل وطعن في وضح النهار. وقد تمركزت تجمعات المتظاهرين في منطقة شروني وبري في الخرطوم، وشارع المعونة في الخرطوم بحري، وشارع الـ 40 في أم درمان، وتعاملت معها قوات الشرطة بأقل تقدير من القوة القانونية، خصوصاً محاولات التعدي على أقسام الشرطة والقوات بأماكن التجمعات، وذلك باستخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه".
وبيّن أنه في نهاية اليوم، سجلت مضابط الشرطة سبع حالات وفاة لمواطنين جميعهم في محلة الخرطوم، وأصيب 50 فرداً من الشرطة، و22 متظاهراً بإصابات متفرقة، فيما قُبض على 77 متهماً وتم اتخاذ إجراءات قانونية بحقهم.
عصيان مدني
وسارع عدد من التنظيمات السياسية والمدنية والحقوقية لإدانة ما وقع من عنف، أدى إلى مقتل سبعة أشخاص وإصابة العشرات من المتظاهرين بحسب لجنة أطباء السودان المركزية، إذ دعا تجمُّع المهنيين السودانيين، قائد الحراك الاحتجاجي في البلاد، إلى التصعيد وغلق شوارع الخرطوم بالأحجار، مؤكداً أن "قوات السلطة الانقلابية ارتكبت مجزرة في حق الشعب المسامح، وفي مواجهة الثوار والثائرات السلميين العزل في مليونية 17 يناير".
ووصف ما حدث الاثنين بـ"محاولة يائسة من محاولات سلطة الانقلاب لكسر إرادة الشعب"، لافتاً إلى أن "السلطة الانقلابية تريد بممارسة العنف المفرط واستخدام الأسلحة، تخويف الشعب السوداني وإرهابه".
وحض التجمع في بيان، من وصفهم بـ"الثائرات والثوار على التصعيد الثوري والتتريس، لافتاً إلى أن العنف سيزيد عزيمة الشعب للانتصار لانتفاضته التي تقابل بقوة السلاح.
في حين دعت "قوى إعلان الحرية والتغيير"- المجلس المركزي في السودان، إلى عصيان مدني شامل لمدة يومين اعتباراً من الثلاثاء، رداً على ما سمته بـ"مجزرة 17 يناير"، وذلك بعد مقتل سبعة متظاهرين خلال تحركات الاثنين في الخرطوم.
ودعا البيان إلى جعل فترة العصيان بمثابة تجهيز لخوض ما أسماه "معركة حاسمة لإسقاط سلطة الانقلاب".
بدورها، قالت تنسيقية لجان المقاومة بالخرطوم في بيان مقتضب، "إلى الثوار والثائرات نعلن التتريس والتصعيد الكامل بكل شوارع مدينة الخرطوم".
كما أهابت تنسيقية لجان مقاومة مدينة أم درمان غرب العاصمة، "سكان المدينة إلى الخروج وإغلاق الشوارع كلياً، حداداً على الضحايا وغضباً من عسف السلطة".
إدانة أممية
من جانبها، دانت الأمم المتحدة، استخدام "القوة المميتة" ضد المتظاهرين في السودان.
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، خلال مؤتمر صحافي عقده في المقر الدائم للمنظمة الدولية في نيويورك، "نحن ندين استخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين، سواء كان ذلك في السودان أو في أي بلد آخر".
وأضاف، "الناس لديها الحق في التظاهر السلمي، ومن المهم أن نرى في السودان مناخاً يدعم المشاورات الجارية حالياً".
70 قتيلاً
ومنذ 25 أكتوبر الماضي، يشهد السودان احتجاجات رداً على إجراءات استثنائية اتخذها قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، أبرزها فرض حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وهو ما تعتبره قوى سياسية انقلاباً عسكرياً في مقابل نفي الجيش.
ووقع البرهان ورئيس مجلس الوزراء، عبدالله حمدوك، في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، اتفاقاً سياسياً تضمن عودة الأخير إلى منصبه بعد عزله، وتشكيل حكومة كفاءات، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
لكن في الثاني من يناير الجاري، استقال حمدوك من منصبه، في ظل احتجاجات رافضة لاتفاقه مع البرهان ومطالبة بحكم مدني كامل، لا سيما مع سقوط 70 قتيلاً خلال التظاهرات منذ أكتوبر الماضي، وفق لجنة أطباء السودان.