بعد صراع قضائي استمر 20 سنة، حصل بشير فريك، الوالي (المحافظ) الأسبق لمدينة وهران، غرب الجزائر، على البراءة، في واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل، المرتبطة بجرائم "فعل التسيير" التي بثت الرعب لسنوات في نفسية الكوادر الجزائرية التي باتت تتوجس من تقلد مناصب المسؤولية خوفاً من أن تصبح خلف القضبان.
"براءتي انتصار للقضايا العادلة"
وقال بشير فريك في تصريح خاص لـ"اندبندنت عربية"، "هناك مبدأ في الحياة يقول ما ضاع حق وراءه طالب، ولو لم نكن نطالب بحقنا لضاع منا. طوال 20 عاماً ناضلت بالكلمة من خلال الكتابات والتصريحات إضافة إلى الصبر والمثابرة ودافعت عن نفسي من الظلم الذي طالني وكانت النتيجة براءتي". وأضاف فريك "ليس لدي نظرة عدمية في بلدي. في العدالة هناك رجال ونساء يحكمون بالضمير والقانون، إذا لم يُخضعوا أنفسهم للأوامر والإملاءات والضغوطات. وأعتبر الحُكم ببراءتي انتصاراً للقضايا العادلة والعدالة الجزائرية بالدرجة الأولى، قبل شخصي".
أضرار وخيمة
وأعادت هذه القضية، وهي واحدة من القضايا العديدة التي كان فيها "فعل التسيير" مجرَّماً، إحياء النقاش المحتدم في هذا الشأن، نظراً إلى الأضرار الوخيمة التي دفع ضريبتها مسيّرو القطاع العمومي بشقيه الاقتصادي والإداري وحصد نتائجها العكسية الاقتصاد الجزائري الذي شهد ركوداً في المبادرات والاستثمارات، فبقيت مشاريع عدة عالقة.
وتمت تبرئة الوالي السابق من تهمتين هما، توزيع 5 مساكن و5 محلات تجارية والمشاركة في التهديد بتحويل قطعة أرض عمومية لفائدة مؤسسة خاصة. وبدأت ملاحقة فريك بهذه التهم في عام 2002، وعلى الرغم من الدلائل والبراهين المقدمة من طرفه ومحاميه، صدر بحقه حكم بالسجن لمدة 8 سنوات، قبل نقض الحكم وتقليص مُدة العقوبة إلى 7 سنوات، ثم نقض الحكم من جديد على مستوى المحكمة العليا في عام 2010، لكن القضية لم يتم إحالتها على المحاكمة إلا في 2019 وتأجلت عدة مرات حتى بداية 2022.
وذكر المحافظ الأسبق لوهران، ثاني مدن الجزائر، أن "عبارة تبديد الأموال العمومية التي توبعت بها مطاطية ويمكن توظيفها في غير محلها، ويجب على أولي الأمر أن يعتبروا من الحكم الصادر بحقي وإصدار النص القانوني المتعلق برفع التجريم عن التسيير، وضبطه بشكل دقيق من قبل خبراء أكفاء وأصحاب خبرة وتجربة لحماية المسؤولين، لأن هناك فرقاً بين الخطأ غير المتعمد الذي قد يقع فيه أي مسؤول سواء كان مسيّراً إدارياً، تجارياً، أو اقتصادياً وجرائم الفساد وكل قضية ومجال اختصاصها القضائي".
غطاء قانوني للمسؤولين
في سياق متصل، فإن ارتفاع أصوات المنددين بارتفاع أعداد القضايا المرتبطة بفعل التسيير وحالة الظلم والتحقير التي تعرضت لها إطارات جزائرية، أجبر السلطات على التحضير لقانون يتعلق برفع "التجريم عن التسيير" الذي من المقرر أن يفصل بين المسؤولية الجنائية ومسؤولية التسيير، والتمييز بين فعل التسيير والرشوة وتبييض الأموال والثراء غير المشروع وتلقي الامتيازات وغيرها من الأفعال الإجرامية، التي تنضوي تحت حكم قوانين مكافحة الفساد.
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قال في أحد خطاباته، إن "السجن لمن يأخذ المال ويضعه في جيبه وليس لمن يخطئ التقدير". واعتبر أن "رفع التجريم عن فعل التسيير، سيسهم في تشجيع المبادرة الفردية والجماعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهة أخرى، أفاد المحامي بوجمعة غشير بأن "رفع التجريم على فعل التسيير كان موضوع نقاش منذ سنوات، وقد حاولت الحكومة التفاعل مع المطلب بتعديل قانون العقوبات لكنها لم توفَّق، والآن أصدر رئيس الجمهورية تعليمة تتعلق بالرسائل المجهولة وفعل التسيير، بحيث بات لا يمكن ملاحقة مسؤول إلا بعد أخذ رأي الوصاية، وهناك لجنة على مستوى وزارة العدل تحضر نصاً لنزع التجريم على فعل التسيير".
وكانت هذه الرسائل مستخدَمة في السابق للتبليغ عن قضايا الفساد داخل المؤسسات الحكومية والخاصة، وتوجه إلى أجهزة الأمن أو القضاء لطلب فتح تحقيقات في ما يعتبره موجهوها فساداً في التسيير أو التعاملات الاقتصادية. وكانت مصدر شكاوى من مسؤولين ورجال أعمال ومسيّرين بدعوى أن أشخاصاً يستغلون تلك الرسائل لتصفية حسابات خاصة والإساءة إليهم.
وأثرت جرائم فعل التسيير على مردودية الكوادر الرسمية الجزائرية، وهنا لفت المحامي غشير إلى "سيطرة نوع من الجمود على كل مستويات الدولة، لذلك تدخل الرئيس وأصدر التعليمة رقم 5 المتعلقة بضرورة التفرقة بين فعل التسيير والأخطاء المترتبة على تلك الأفعال التي تندرج ضمن الفساد بكل أنواعه، رشوة، ومحاباة واختلاس...".
النأي بالقضاء عن الصراعات
من جانب آخر، شدد وزير الاتصال الجزائري الأسبق عبد العزيز رحابي، على "ضرورة حماية الإطارات الوطنية من خلال تجسيد رفع التجريم عن فعل التسيير الاقتصادي والإداري بصورة واضحة ودقيقة تفصل بين الخطأ الإداري والتجاري، ومجالهما القضاء الإداري أو التجاري، والتصرف الجرمي العمد بالمال العام ومجاله القضاء الجزائي"، إضافة إلى "تجسيد مبدأ استقلالية العدالة وعدم توظيفها أو استعمالها لأغراض مشبوهة تهدف إلى ضرب الخصوم أو تصفية الحسابات".
واعتبر رحابي في منشور له، أن "براءة بشير فريك بعد 20 سنة من الصراع القضائي، تُعد عبرة لمَن يريد أن يعتبر في مختلف مؤسسات الدولة وخصوصاً السيادية منها". وأشار إلى أن "القاضي الجزائري أثناء تصديه للملفات والقضايا من دون ضغوطات ولا إملاءات نجده يحكم الضمير ويطبق القانون، وهو ما نلمسه في حكم محكمة الجنايات الاستئنافية بمجلس قضاء العاصمة التي برأت بريئاً بعد سنوات من المعاناة والظلم".
ووفق رحابي، "تكمن خصوصية قضية فريك، في أن ثمة جهات حركتها وأمرت بسجن كادر من كوادر الدولة بأمر من أعلى هرم الدولة، وهي قضية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في سجل التوظيف السياسي للعدالة الجزائرية والذي يستمر اليوم من خلال المضايقات ضد أصحاب الرأي الحر والمعارضة السياسية".
وفي أحدى التصريحات التي وصِفت بـ "النارية"، اعترف بشير فريك بتلقي الولاة (المحافظين) تعليمات من أجل تزوير الانتخابات التشريعية (البرلمانية) لعام 1997 التي فاز بها "التجمع الوطني الديمقراطي" (الأرندي) الذي لم يتأسس إلا قبل الاستحقاق الانتخابي بسنة.
وقال فريك في شهادته، إنه نزع وفق "تعليمات فوقية" مقاعد في ولاية وهران، من "حركة مجتمع السلم" ذات التوجه الإسلامي، حتى تتساوى مع عدد مقاعد "التجمع الوطني الديمقراطي"، وهي واقعة حركت مطالب إبعاد الإدارة الرسمية عن تنظيم الانتخابات وإسنداها إلى هيئة مستقلة.
وشهدت الجزائر خلال فترة التسعينيات حملة اعتقالات كبيرة، أُطلق عليها اسم "حملة الأيادي النظيفة" وقادها أحمد أويحيى، رئيس الحكومة الأسبق، المسجون حالياً بسبب قضايا فساد، ضد شخصيات وطنية حاولت التصدي لعمليات الخصخصة وبيع المؤسسات العامة، وسُجن بموجبها حوالى 6300 شخص بحسب رئيس الحكومة الأسبق مقداد سيفي، وقد استفاد جُلهم من البراءة بعد سنوات أمضوها خلف القضبان.
ويرى مراقبون أن "رفع التجريم عن فعل التسيير يتطلب مناخاً سياسياً صحياً وبيئة ديمقراطية مساعدِة واقتصاد تنافسي بعيد عن الضغوطات والحسابات السياسية الضيقة حول الريع الاقتصادي".