لا ينحصر الإرث الثقافي والفني لمدينة جدة السعودية في ماضيها ومدينتها التاريخية المسجلة في منظمة "يونسكو"، بل إن زائرها سيلفت انتباهه كثرة المجسمات والمنحوتات المنتشرة في أرجاء المدينة، والتي أصبحت رموزاً ومعالم تتزين بها ميادينها وشوارعها.
خلال العقود الأربعة الماضية حرص مسؤولوها على تحويلها إلى متحف فني مفتوح، وتحديداً في منتصف سبعينيات القرن الماضي عندما قرر أمينها السابق محمد سعيد فارسي والذي تعود له الفكرة، إلى ملئ جنباتها بمجسمات الفنانين التشكيليين، إذ دعا الفنانين من كل العالم ليسهموا في إنشاء 600 مجسم فني، وهو رقم تقريبي زودتنا به أمانة المدينة لغياب الرقم الدقيق عنها، منها 20 تحفة فنية اختيرت لتشكل المتحف المفتوح الذي يقع على الكورنيش، في حين وزعت بقية المجسمات الأخرى على الميادين والشوارع.
وتتنوع هذه الأعمال بين كبار الفنانين المحليين مثل عبدالحليم رضوي والعرب أمثال السوري ربيع الأخرس والمصري مصطفى نبيل، والعالميين مثل البريطاني هنري مور، والفرنسيين فيكتور فازاريلي وسيزار بالداشيني، إضافة إلى الإسباني خوان ميرو والأميركي أليكساندر كالدر، والفنان الألماني جان أرب.
البداية
وتعود قصة تحويل المدينة لمتحف فني إلى بدايات الطفرة المالية في السعودية، فمع توسع المدينة والعمران بدأت تظهر أحياء جديدة بعيدة من سورها القديم، وأصبحت جدة تتوسع بشكل كبير مما دفع أمينها إلى ابتكار طريقة للوصف والاستدلال بالمعالم، وقال المهندس المعماري وعضو المجلس الدولي للآثار والمواقع الذي عمل مع أمين جدة محمد فارسي فترة طويلة عمرو درويش، "لم يكن في جدة خلال ستينيات القرن الماضي أي معالم معروفة يمكن الاستدلال بها عند وصف المواقع، ومع التوسع العمراني في تلك الحقبة وكثرة الشوارع أصبح من الصعب الوصول إلى العناوين، لا سيما عندما بدأ العمران بالتمدد شمالاً، مما دفع فارسي إلى البدء في وضع معالم جمالية يستدل بها سكان المدينة، وكانت البداية بتجميل الشوارع المؤدية لقصر الحمراء (مقر الحكومة الصيفي) في عهد الملك فيصل، من خلال وضع مجسمات عند تقاطع الطرق المؤدية له، إضافة إلى تجميل ميدان البيعة الواقع أمام مبنى وزارة الخارجية بمجسم من أعمال الفنان السعودي عبدالحليم رضوي".
واستطرد، "تطورت الفكرة لدى أمين مدينة جدة الأسبق فأصبح تخطيط الجزء الشمالي من المدينة يشمل ميادين في تقاطعات الشوارع الرئيسة، واستقطب فنانين من مختلف أنحاء العالم أبدعوا في تصميم المجسمات التي لا تزال إلى اليوم تحفاً فنية تتزين بها المدينة".
ومن أشهر المواقع "ميدان الهندسة، وميدان الفلك الذي يعود تصميمه للثمانينات على شكل المجرات التي تسبح في الفضاء للألماني هولمان، إضافة إلى ميدان الدراجة ومجسمات القناديل المملوكية من تصميم المهندس المعماري الإسباني خوليو لافونتي، والكرة الأرضية ودور الجمل من أعمال النحات ربيع الأخرس".
معالم اختفت
وعلى الرغم من الاهتمام بتلك التحف الفنية التي تشكل اليوم معالم للمدينة، إلا أن بعضها اختفى مع أعمال تطوير البنية التحتية في المدينة وإنشاء الكباري والأنفاق لفك ازدحام المرور مع توسع المدينة وزيادة كثافتها السكانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحول هذا يعلق درويش "من أشهر المعالم التي اختفت ميدان الطائرة الواقع في شارع الأمير ماجد (السبعين)، وهو ميدان ضخم كانت تتوسطه طائرة المؤسس الملك عبدالعزيز، إضافة إلى ميدان التحلية والذي استخدم في إنشائه الكنداسة القديمة لمحطة التحلية، والتي تم تحويلها إلى تحفة جميلة، وكذلك ميدان البواخر في طريق الملك عبدالعزيز، والذي كان عبارة عن بحيرة كبيرة تحوي بواخر قديمة ونوافير، وتمت إزالته هو الآخر مع تنفيذ مشروع النفق".
متحف الكورنيش
وعلى الرغم من إزالة عدد من مجسمات المدينة مع مشاريع تطوير البنية التحتية، إلا أن كثيراً منها تم نقله إلى الكورنيش الأوسط في المدينة، إذ توفر للزائر مساحة للتأمل التي برع فنانون في تصميمها.
كما يضم المتحف الشاطئي مجسماً لـ "العين الساهرة" للنحات الفرنسي سيزار بلديسيني، ولا بد من التوقف من أجل التفكير في الأشكال البصرية السحرية المثبتة في الأرض والشامخة في الهواء للفنان الفرنسي فيكتور فازاريلي، والتي تتألف من مربعات متعددة الألوان ومتداخلة التراكيب تمارس خداعاً بصرياً للناظر إليها.
كما يشتهر كورنيش المدينة بميدان النورس الذي يقع في منتصفه، وهو من تصميم الفنان مصطفى سنبل، ويعد من أكبر التماثيل التجريدية في العالم، إذ يبلغ ارتفاعه 55 متراً واستغرق بناؤه ثلاث سنوات ويتكون من قطعة طويلة تمثل جناح الطائر.
أهم الميادين
ومن معالم المدينة ميدان الجمل في منطقة أبحر الشمالية شمال جدة وهو من أعمال النحات السوري ربيع الأخرس، في حين تعود أول أعماله للمدينة إلى العام 1983، وهو عبارة عن مجسم خيول متقطعة، إضافة إلى ميدان مجسم الفلك من تصميم الفنان الألماني أوتمار هولمان الذي يقع على قاعدة تبلغ 8.5 متر بارتفاع 44 متراً، واستغرق العمل لاستكماله سبع سنوات.
ويعد دوار الكرة الأرضية من أبرز معالم المدينة اليوم، لا سيما وأنه يقع في تقاطع طريق الملك مع طريق السلام ومقابل كبري الصالة الملكية التابعة لمطار الملك عبدالعزيز، وهو من تصميم الفنان الإسباني خوليو لافوينتي وتبلغ مساحته 600 متر مربع، وقد تم تصميمه عند إضاءته لإظهار مكة المكرمة على أنها نور وسط العالم الإسلامي.
ويعد لافوينتي من أكثر الفنانين العالميين الذين شاركوا في تزيين المدينة، فقد شارك أيضاً بمجسم القناديل المملوكية العملاقة والمتواجدة في طريق الملك عبدالعزيز، كما صمم مجسم السيارات الواقع على طريق الكورنيش، وهو عبارة عن مكعب خرسانة به خمس سيارات.
رضوى وجدة
وعلى الصعيد المحلي، ارتبط تجميل المدينة الساحلية بالفنان السعودي عبدالحليم رضوى الذي قدم عملاً فنياً من المنحوتات والمجسمات، وبدأت معه أولى مراحل مشروع فارسي لتجميل جدة، ومن أبرزها الصخرة التي تقع أمام مبنى وزارة الخارجية والتي صممها بمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي عام 1973، ونحت على الوجه الأول آية "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، وأحاطها بأغصان الزيتون التي ترمز إلى السلام، أما الوجه الآخر للمجسم فنحت عليه الآية القرآنية "ونزعنا ما في صدورهم من غل" التي أحاطها بمنحوتات لأمواج البحر والطيور.
ويملك عملاً آخر كان قد دُفن وسط الأبنية التي أنشئت بشكل عشوائي في منطقة البلد، قبل أن يتم إعادة إظهاره مرة أخرى، وهو مجسم يحتوي زخارف على شكل "سمك" وعبارات نُحتت في عدد من الصخور، تعبّر عن الحياة في جدة القديمة، إذ نحت الفنان في أعلى أحد جوانبه آيات قرآنية وعبارة "الله أكبر"، وفي الجهة الأخرى عبارة "جدة عروس البحر"، ليحكي تحتها تاريخ تلك الحقبة الزمنية، وما تميزت به من فنون في العمارة ببيوتها القديمة، التي اختار منها النوافذ المميزة والمعروفة باسم "الروشان" وهي نوافذ خشبية ذات تصاميم فريدة ونقوش مميزة تسمح للضوء والهواء بالعبور من خلالها، في حين لا تظهر سكان المنزل للعابرين أمامه، إضافة إلى نحته لأبواب تلك البيوت التي كانت تُصنع من الخشب المنقوش بطريقة هندسية خاصة بتلك الفترة.