كانا شقيقين يكتب عنهما مؤرخ الفن إرفين بانوفسكي، بوصفهما من أقدم الرسامين الإنسانيين النهضويين، إلى جانب كونهما فنانين عرفا كيف يرفدان فن الرسم بعديد من الابتكارات. ويخص أصغرهما يان بكونه ينافس زميله الألماني أولبريخت دورر في كونه واحداً من أول الرسامين الأوروبيين الذين أسسوا لرسم البورتريه الذاتي بعد بدايات خجولة في هذا المجال حققها، ولو مواربة، بعض السابقين الذين مرروا صورهم في لوحات جماعية.
ولئن كان بانوفسكي في كتابه "البدائيون الفلامان" يضع الأخوين هوبيرت ويان فان آيك إلى جانب دير فايدن كمؤسسين للفن الأوروبي الشمالي في زمن انتقاله من الرسم الديني الكنسي إلى رسم البشر العاديين، ولو كانوا من سراة القوم، فإنه يفيدنا بأنه في مقابل بقاء لوحات عديدة تحمل بصمات وتوقيع يان ولوحات أخرى "من الواضح" أنها حققت جماعياً في محترف الشقيقين، ثم في محترف يان وحده، فإن لوحات هوبيرت اختفت تماماً، بحيث نجد بانوفسكي يعتمد على جورجيو فازاري للحديث عن هذا الشقيق.
الرسام الذي أنسن القديسين
مهما يكن نعرف أن الأشهر من بين لوحات يان فان آيك إلى جانب لوحات أنسن فيها قديسين من أمثال سان جيروم وسان كريستوف، لوحته حول عرس الزوجين آرنولفيـني، التي ابتكر فيها بشكل مبكر فكرة أن يصوّر نفسه في مرآة معلقة خلف الزوجين اللذين يصورهما في ذلك البورتريه المزدوج الشهير دوّن فوقها بخط أنيق أن "يوهانس فان آيك كان موجوداً هنا عام 1434"، بمعنى أنه كان شاهد ذلك الزواج وها هي ذي لوحته البديعة تشهد على ذلك.
وهي بالتأكيد واحدة من أشهر لوحات هذا النوع في تاريخ الفن. ناهيك بأنها ربما تكون اللوحة التي درست من قبل الباحثين بأكثر مما درست وحللت أية لوحة غير دينية تنتمي إلى تلك الحقبة، وليس فقط دراسة جمالية، بل كذلك بوصفها شهادة سوسيولوجية من خلال التعمق في تفسير الدلالات التي يعبر عنها كل غرض من الأغراض المرسومة بدءاً من الكلب في مقدمة اللوحة، الذي يرمز إلى الوفاء وصولاً إلى ملاحظة كون العروس حاملاً يوم زواجها حملاً لا يشكل هنا أيما إدانة أو لا يعطي مجالاً لأي استغراب أو احتجاج، مروراً طبعاً بالطريقة التي يسند بها العريس يد عروسه والصندل الملقى بلا مبالاة في الطرف الأسفل ليسار اللوحة، وغير ذلك من عناصر اجتماعية ربطت من قبل الباحثين بالعادات الاجتماعية، واعتبرت ممهدة لما سوف يلحظ دائماً في الفن الفلاماندي الإنساني النزعة من تركيز على العناصر الدلالية.
تقنيات إرث للآخرين
وهنا قد يكون من المفيد أن نذكر أن كبار الباحثين في الفن الهولندي من أمثال بانوفسكي قد ركزوا على تميز هذا الفن في المعاني الدلالية للعناصر الموزعة على لوحاته، إضافة طبعاً إلى اشتغالهم على الدلالة التي يحملها ابتكارهم للبورتريه وكونهم، مع بقية جيرانهم الشماليين، من أول مبتكري هذا النوع الفني.
وهذا ما يحيلنا في هذا السياق إلى بعض البورتريهات التي علّمت مسيرة يان فان آيك الفنية التي انطبعت بعدد لا بأس به من بورتريهات سيبدو لاحقاً أن دورر الذي كان في الجانب الألماني من مبتدعي النوع الكبار كأنه اتبع، في بورتريهاته، الذاتية أو العامة، تقنيات فان آيك.
وحين نقول فان آيك هنا نعني طبعاً يان، بالنظر أولاً إلى أنه لم يبقَ لدينا أي من لوحات أخيه هوبيرت، وثانياً أن هذا "الغياب" التام لهوبيرت جعل كثراً يفترضون أنه لم يوجد أصلاً حتى وإن كانت لوحة متعددة المشاهد (retable) لفان آيك تسمى "ريتابل غاند" تحمل على أحد جانبيها عبارة تفيد بأن هوبيرت شارك في الرسم. وربما لهذا السبب ربط فازاري بين يان وحده واكتشاف استخدام الزيت في الرسم، وهو ربط أنكره عدد من الباحثين أعادوا اكتشاف دور الزيت في تثبيت الألوان وإعطائها زخمها ولمعانها وجعلها تنشف بسرعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا اكتشف الزيت
وفي هذا السياق، يروي فازاري أن استخدام الزيت من قبل يان فان آيك جاء عن حاجة استشعرها يوماً، وكان لا يزال يستخدم المساحيق الملونة في رسم لوحاته ممزوجة بالماء والصمغ أي بتلك التقنية المسماة detrempe. فذات يوم انتهى يان من رسم لوحة كانت مهمة بالنسبة إليه، ويحتاج إلى أن يجففها بسرعة، فوضعها في مكان يغمرها فيه ضوء الشمس، لكنه حين عاد إليها وجد ألوانها اختلطت ببعضها البعض فرمى اللوحة، وقرر أن يبحث عن طريقة جديدة فجرّب وجرّب حتى توصل إلى عدة أنواع من الزيوت، منها زيت القنب، الذي بدا الأكثر مناسبة لعمله.
أما بالنسبة إلى البورتريه الذاتي فإن إنتاج فان آيك في هذا المجال غير واضح تماماً إلا من خلال لوحة واحدة تبدو من أفضل لوحاته ومن أكثرها شهرة، لوحة رسمها في عام 1433، وتُعرف باسم "الرجل ذو العمامة الحمراء" بالنظر إلى أن ثمة سجالاً حول ما إذا كانت بورتريهاً ذاتياً أو بورتريهاً عادياً لشخص آخر، أسوة ببورتريهاته الأخرى التي رسمها لبعض علية القوم من أمثال بودوان دي لانوي (1435) وتيماثيوس (1432)، بخاصة للكاردينال نيقولو آلبيرغاتي (1438)، كما باللوحة التي صور فيها نيقولاوو أرنولفيني عريس اللوحة التي تحدثنا عنها أعلاه.
هل هي صورته؟
وعلى الرغم من كثرة البورتريهات التي رسمها يان، أو أشرف على رسمها في محترفه الخاص، يبقى البورتريه الذاتي المفترض الأقوى بين نتاجاته، لأنه يبدو وكأنه، بالتحديد، قد صاغ القوانين الخاصة بهذا النوع وكانت قوانين في منتهى الجدة: من نظرة الوجه المرسوم مباشرة إلى من يشاهد اللوحة، وهو كان أمراً جديداً في ذلك الحين يتسم بقدر كبير من تواضع الفنان، وركز الضوء من دون أن يحدد مصدره وقفاً على الوجه في الجانب الأيسر منه كما على العمامة التي تعلو الرأس، بينما أغرق في العتمة بقية اللوحة، بخاصة خلفيتها التي بالكاد تبدو منفصلة عن اللون الغامق الذي يهيمن على ثياب الشخصية المرسومة.
من دون أن ننسى هنا بالطبع أن الرسام استبعد يدي الشخص المرسوم من اللوحة على عكس ما كان متبعاً في البورتريهات عموماً، إذ باستثناء بورتريه الكاردينال آلبيرغاتي، بخاصة في اللوحة الوحيدة التي تمثل امرأة، وهي بورتريه مارغريت فان آيك التي لن يرسمها قبل عام 1439 مروراً بكل البورتريهات التي رسمها، سنلاحظ جعله اليدين لدى موديلاته جزءاً ليس فقط من عناصر اللوحة، بل حتى تعبيراً عن دلالتها بما في ذلك تحميله اليد ما يشي بعمل الشخص المرسوم.
وفي هذا السياق، نلاحظ كيف أن يان لم يشعر بحاجته إلى التركيز على هذا البعد في "الرجل ذو العمامة الحمراء"، ما يعزز فرضية أنها تمثله، إذ يبدو فيها قادراً على أن يتصرّف بحرية تعبيرية من الواضح أنها أثارت إعجاب الكاردينال لاحقاً فرضي بأن يصوّره الرسام من دون أن يجعل من يديه جزءاً من المشهد.
تجوال أوروبي
ولد يان فان آيك على الأرجح عام 1390 في آيك - سور - موز الواقعة اليوم في بلجيكا بعد عقد أو خمسة أعوام من التاريخ المفترض لولادة أخيه هيربيرت. وتقول لنا سيرته الموجزة إنه التحق بفن الرسم بدءاً من عام 1422 كرسام للدوق جان دي بافيير، إذ سينهمك خلال سنوات في تزيين قصر هذا الأمير في لاهاي. وهو سُجل بعد عامين في بلدية المدينة - قسم الضرائب رساماً، ما جعله يحسب حرفياً ورسمياً في عداد رسامي المدينة المعلمين.
لكن يان سرعان ما سينتقل إلى بروج إثر وفاة الأمير، وهو منذ ذلك الحين راح يمضي وقته متنقلاً بين مختلف مدن المنطقة، لا سيما في مدينة ليل التي منحه مجلسها البلدي ما مكّنه من التجوال في عدة بلدان أوروبية راح يدرس فنون مبدعيها، ويمارس في كاتدرائيتها ولحساب ملوكها مهنته التي راحت تزداد تألقاً، حتى بات يعتبر رساماً أوروبياً بامتياز، عرف كيف يوازن بين اللوحات الدينية واللوحات الدنيوية بشكل كان فريداً من نوعه إلا في صفوف كبار فناني المرحلة خلال ذلك الزمن النهضوي، وهو سوف يرحل عن عالمنا في عام 1441.