لم يمنع انشغال إيران بالمفاوضات في فيينا حول إعادة إحياء الاتفاق النووي ومشكلاتها الداخلية واتجاهها شرقاً نحو الصين، من عزمها إعادة التوجه نحو القارة الأفريقية أيضاً، إذ صرح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن "إقرار وتوطيد العلاقات مع دول القارة الأفريقية من أولويات السياسة الخارجية لإيران خلال العهد الجديد".
ولم يعد التدخل الإيراني يتجلى في وسائل كانت إيران تعدها "فتوحات فكرية" قائمة على نشر الثورة الإيرانية ومبادئها فقط، بل أصبحت تخترق الحدود المغلقة ثقافياً ولغوياً وحتى دينياً، وتمد نفوذها إلى مساحات لا تمت بصلة إلى الجغرافيا السياسية للوجود الشيعي، فلم يعد الأمر مقتصراً على احتواء المجموعات الشيعية في البلدان العربية أو حتى تشييعها إن كانت على مذهب آخر، بل أصبحت تكتفي بتشكيل حركات موالية لإيران سياسياً وذات ولاء شيعي عابر قائم على نصرة "المستضعفين" في الأرض، عبر أساليب منها التركيز على مسار التنمية في القطاعات الاقتصادية والتجارية والسياسية، وإنشاء عدد من المساجد والمراكز الثقافية والجمعيات الخيرية والمؤسسات التعليمية.
ولإيران أهداف بعيدة المدى مثل توسيع رقعة نفوذها وترسيخ وجودها في مناطق ذات حضور دولي، واستقطاب دول القارة لتوفر لها عدداً كبيراً من الأصوات في الأمم المتحدة.
وأفادت مصادر أميركية وإسرائيلية سابقاً، بتنشيط إيران خلايا نائمة في أفريقيا لاستهداف مسؤولين من دول المنطقة انتقاماً لمقتل الجنرال قاسم سليماني، القائد السابق لـ "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، في ضربة نفذتها طائرة مسيرة أميركية قرب مطار بغداد الدولي في 3 يناير (كانون الثاني) 2020، إثر اتهامه بالتخطيط لهجمات على دبلوماسيين وعسكريين أميركيين.
اتجاهات العلاقة
ونشأ التوجه الإيراني نحو أفريقيا بشكل واضح على أربع مراحل زمنية، وفي كل مرحلة كان يتسم بسمات معينة مختلفة.
في حكم الشاه محمد رضا بهلوي (1941-1979) كان التوجه نحو أفريقيا مدفوعاً بموقف مناهض للشيوعية والراديكالية بسبب تحالفه مع الغرب إبان الحرب الباردة التي استمرت تزامناً مع نيل معظم دول القارة استقلالها خلال تلك العقود. واستغلت إيران في تلك الفترة المشاعر المناهضة للاستعمار في أفريقيا، ووظفت النفط في ذلك التوسع عبر تقديم مساعدات لعدد من دولها.
وفي عز "الثورة الإيرانية" خلال الفترة بين عامي 1981 و2005، والجهود المبذولة لنشر التشيع، كان التحرك الإيراني هذه المرة مدفوعاً بمعاداة أميركا مما أضر بالعلاقات الاقتصادية والسياسية، إذ ركزت إيران دبلوماسيتها بهدف تغيير الوضع السياسي في بعض الدول الأفريقية حتى يكون متناسباً مع وجودها، ولتحقيق تطلعاتها الجيوسياسية. وتعاقب على الحكم في تلك الفترة الرئيس السابق والمرشد الأعلى الحالي علي خامنئي، والرئيس الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني، ثم الرئيس السابق محمد خاتمي.
وعند تسلم الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد الحكم بين الأعوام 2005 و2013، وهي الفترة التي حاولت إيران خلالها التمدد نحو أفريقيا للخروج من العزلة الدولية التي اتسمت بها حقبة ما بعد الثورة الإيرانية، أسس مباشرة للعلاقات الإيرانية مع منطقة القرن الأفريقي عام 2006، ماداً حبال الوصل مع إريتريا بعد قطع الولايات المتحدة علاقتها معها، وفرض عقوبات دولية في ما بعد عليها بسبب حربها الطويلة مع إثيوبيا ودعمها لـ "حركة الشباب" المتشددة في الصومال. وفي مقابل توقيع اتفاقات تجارية واستثمارات إيرانية في أسمرا، سمحت إريتريا للسفن الحربية الإيرانية بالرسو في ميناءي عصب ومصوع الاستراتيجيين.
أما في الفترة من 2013 وحتى 2021، التي حكم خلالها حسن روحاني، فانشغلت إيران بتدخلاتها في الدول العربية والخليجية، خصوصاً السعودية، ورافق تلك الفترة حدثان مهمان، الأول توقيع طهران الاتفاق النووي العام 2015، بينما تمثل الثاني بخروج الولايات المتحدة منه في عام 2018، ثم جرت العودة للمفاوضات بغرض إحياء الاتفاق، وصولاً إلى عهد الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي منذ الثالث من أغسطس (آب) 2021، الذي بدأ بالتوجه وفق أسس جديدة.
استراتيجية جديدة
ويمكن تصور أن توجه العلاقات الإيرانية ووقوعها بين مد وجزر في عهد روحاني وفي ظل تنامي الخلافات بين إيران والولايات المتحدة من جهة، وبينها وبين جيرانها من جهة أخرى، قاد إلى نتيجة حتمية هي تشابك علاقات إيران الدولية. ومما أسهم في تغيير آليات التوجه نحو أفريقيا، ليس فقط رغبة إيران في تغيير منهجها، بل أيضاً عجزها عن انتهاج آلياتها القديمة، فالتجارب الإيرانية التاريخية المتكررة تشير إلى أن سلوكها الإقليمي وتعنتها يقود في النهاية إلى تجنب التعامل معها، فالتجارب الأكثر وضوحاً على ضرورة تغيير إيران لمنهجها هو أنها حولت من قبل سياستها الخارجية التقليدية إلى سياسة خارجية متحفزة ومتعسكرة يسيطر عليها "الحرس الثوري"، وليست ذات صلة بأنشطة وزارات الخارجية التقليدية.
وتحاول إيران الاستفادة من تراجع الدور الإقليمي العربي في أفريقيا بسبب الآثار التي خلفتها أحداث "الربيع العربي"، مستغلةً حاجة هذه الدول إلى الاستقرار عبر مد يد العون إليها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، كما تتجه إيران في علاقاتها مع أفريقيا لتملأ الفراغ الذي أحدثته عداواتها مع بقية الدول الغربية خصوصاً الولايات المتحدة.
وإذا كانت الاستراتيجيات القديمة تركز على استخدام المعارك لكسب المواقف الدولية، فإن الاستراتيجية الإيرانية الجديدة تنحو إلى أبعد من ذلك بحيث ترغب في السيطرة على الأرض والموارد والممرات المائية والمقدرات الاقتصادية والمواقع العسكرية الحساسة بوسائل ناعمة.
ولكل دولة من الدول التي سعت إيران إلى توثيق علاقاتها معها مزايا مختلفة عن غيرها، فإريتريا مطلة على مضيق باب المندب، والسودان يربط بين شرق القارة وغربها بملتقى طرق حيوي يسهم في نشر التشيع مع الحركة التجارية والثقافية، أما دول غرب أفريقيا مثل نيجريا والسنغال فتبدو متأهبة لتوطيد هذه العلاقات نظراً لوجود بعض الحركات الإسلامية المساندة للمذهب الشيعي، وهناك أيضاً العلاقة مع جنوب أفريقيا التي ستستمر على الصعيد الاقتصادي نظراً إلى معدلات النمو الاقتصادي الكبيرة التي تمتلكها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عوامل التأثير
وتعود إيران بعد أعوام من فتور علاقاتها مع أفريقيا، ومع عدم احتمال زوال عوامل التأثير الأيديولوجية كلياً، فبسبب فشل مبدأ "تصدير الثورة" تلجأ حالياً إلى تطبيق فكرة "الجيوبوليتيك الشيعي"، وهي الفكرة الراسخة في السياسة الإيرانية منذ حرب العراق عام 2003 لاحتواء المساحة السنية الممتدة من الخليج إلى المحيط، ولكن بعد التطورات الناتجة من حدة الصراعات الطائفية والمذهبية باتت إيران تنظر في استراتيجيتها الجديدة إلى احتواء العالم الإسلامي وامتداداته، وصولاً إلى المجال الحيوي في أفريقيا عبر تطبيق آلية هجينة تعتمد على المصلحة المتبادلة وكثافة التعاون الاقتصادي.
ولتحقيق هذه الاستراتيجية تعتمد إيران على ثلاثة عوامل، أولاً سعيها إلى أن تكون القوة الأكثر قرباً إلى أفريقيا من خلال الانتقاص من الجهود الدولية والإقليمية لحل الأزمات الأفريقية، وهذا التصور مقروء مع سعي الحراك الإقليمي والدولي إلى حل الأزمة في السودان وإثيوبيا ومالي والصومال وغيرها، ومع أن تدخلها جاء متأخراً فإنها إن نجحت ستعمل على تحييد الجهود الدولية لتبرز كدولة مساندة للقارة السمراء.
أما العامل الثاني فهو ديموغرافية القارة الأفريقية الجاذبة، إذ إن أكثر الطبقات من الشباب الذين يتوقع استيعابهم خلال العقد المقبل بصورة كبيرة في سوق العمل، يقابله تفشي الشيخوخة في المجتمع الإيراني، مما يهدد نظام البلاد واقتصادها.
ويعد العامل الثالث استعداد إيران للتعامل مع أفريقيا باتباع النهج الصيني المستمد من التعاون في مجالات التنمية، مع بعض الفروق بين الدولتين، وهي أن الصين لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولكن إيران لن تستطيع التغاضي عن ذلك، ولكن هذه المرة على الأقل لن يكون تدخلاً صارخاً بسبب إدراكها أن هذه ربما تكون الفرصة الأخيرة للتمدد في منطقة مضطربة.
ونظراً إلى العلاقات الوثيقة بين إيران والصين فإن الأخيرة بحكم خبرتها في الاستثمارات في أفريقيا ربما تقدم لها عدداً من الفرص.
مسرح المواجهات
ومن أجل تحقيق الأهداف بعيدة المدى ونجاح سياساتها، كانت إيران بحاجة إلى حليف ييسر لها التمدد من داخل الإقليم، لكنها تبحث الآن أبعد قليلاً عن حليف تنقذ من خلاله مشروعها الإقليمي وتحمي مجالها الحيوي، ومن هذا المنطلق تدرك إيران حجم التأثير الذي تتركه الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والقوى الإقليمية، كونها المحرك والفاعل الأساس للسياسات الدولية، لذا وضعت نفسها في موضع الدولة الإقليمية في مواجهة محفوفة بالأخطار، ورأت أن من حقها إن لم يكن التحالف مع أفريقيا، فمواجهة هذه القوى هي الحل، نظراً إلى ما تفرضه عليها ضرورة وجودها الإقليمي.
وشكلت هذه الرؤية الإيرانية إدارة للعلاقات بينها وبين أفريقيا بوضعها في مرتبة المصالح القومية، وهي رؤية واسعة وموغلة في التفاؤل، ويمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية سريعة.
ويعود ذلك إلى أنه كان هناك تقارب واضح بين إيران التي تطمح في أن يكون لها موطئ قدم فاعل ومؤثر في أفريقيا، وبين الدول الأفريقية الماكثة في محطة انتظار ملاذ آمن تعتمد عليه لمواجهة التضييق الغربي ومتطلبات الديمقراطية وقضايا حقوق الإنسان وغيرها، كما أن بإمكان إيران استغلال الحاجة الأفريقية الاقتصادية والسياسية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، ولكن الخسائر التي ستمنى بها الدول الأفريقية والناتجة من تبعات التحالف مع إيران ستكون أكبر من تحقيق المصالح.
وعلى الرغم من أن العلاقات الإيرانية - الأفريقية ربما تحكمها عوامل تدعم مسار التعاون، إلا أن أرضية تنفيذها ستتحول تبعاً للسياسة الخارجية للقوى الدولية إلى منطقة صدام، وكما لم تستطع إيران تحقيق ما كانت تصبو إليه في أفريقيا في عهد أحمدي نجاد بسبب اصطدامها بالمصالح الدولية الأخرى، وانشغالها بتغذية وكلائها في مناطق أخرى في الشرق الأوسط، فإنها ربما لن تستطيع تحقيق ذلك الآن بسبب شدة الاستقطاب الدولي لدول القارة الأفريقية، وتأثير الموقف الأميركي والروسي والصيني، كما ستكون موعودة بمواجهة إقليمية على النفوذ، خصوصاً من قبل إسرائيل التي خطت خطوات واسعة نحو تأسيس علاقات مع دول القارة، مما يعني أن أفريقيا ستكون أيضاً مسرحاً للتوترات بين الدولتين.