فتحت المبادرة الكويتية حيال لبنان كوة في جدار انسداد الأفق لحلول الأزمة اللبنانية قد تكون الفرصة الثمينة لوضع البلد على سكة النهوض، وإن كانت الطريق طويلة لبلوغ هذا الهدف، بفعل التعقيدات الكثيرة التي تواجه إعادة الاستقرار إليه، لتعدد الأزمات التي يعانيها، وتداخل عواملها السياسية والاقتصادية مع الوضع الإقليمي المتوتر والمقبل على تطورات لم ترتسم معالمها بعد.
ومع انطلاق البحث ببنود الورقة الكويتية الاثني عشر، التي كان حملها وزير خارجية الكويت الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح إلى بيروت في 22 يناير (كانون الثاني)، ثم الرد اللبناني المكتوب عليها الذي سلّمه وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب في 29 يناير لنظيره الكويتي عشية الاجتماع التشاوري لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية الذي انعقد في اليوم التالي في العاصمة الكويتية، تلوح في الأفق إمكانية خلق دينامية نشطة لعملية سياسية تسمح بانتشال لبنان من تحوله ساحة للصراعات الإقليمية إلى بلد يستعيد مقومات الاستقرار وبناء الدولة.
المبادرة الأولى منذ "الدوحة" وخريطة ماكرون
فهي المرة الأولى التي تطرح جهة عربية ما يشبه خريطة طريق لحلول للأزمة في لبنان تتناول جوانبها السياسية والأمنية والاقتصادية المالية، منذ اتفاق الدوحة عام 2008. كما أنها تأتي بعد فشل تنفيذ المبادرة الفرنسية في شقها السياسي من زاوية تأجيل البنود الخلافية اللبنانية من أجل تأليف حكومة اختصاصيين غير حزبيين، إذ كان الرئيس إيمانويل ماكرون يأمل حين وضع ما سُمّي خريطة الطريق الفرنسية في 1 سبتمبر (أيلول) 2020 إثر الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت بخطوات مرحلية تقتصر على بنود إصلاحية لضمان نهوض لبنان من الأزمة الاقتصادية الخانقة بالتدريج، في انتظار الانتخابات النيابية في ربيع 2022، لكن رفض "حزب الله" الضمني مع حليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون صيغة حكومة الاختصاصيين حال دون تنفيذها، ما اضطر باريس إلى التراجع عن الإصرار على حكومة كهذه بتشكيل "أي حكومة" تولى الرئيس نجيب ميقاتي رئاستها.
التفاصيل بالمرجعيات الدولية والعربية والحوار
وعلى الرغم من أن البنود الـ12 لم تتصدَّ لتفاصيل الأزمة اللبنانية، فإن الاستناد في نصها إلى مرجعيات اتفاق الطائف، والقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجامعة العربية، وإلى قرارات الحوار الوطني اللبناني في عامين 2006 و2012، ثم إلى مستجدات التأزم اللبناني الخليجي، وصبط الحدود، يختزن تفاصيل كثيرة تتفرع منها، وعناوين سياسية حساسة وجوهرية تتطلب لمعالجتها، المتابعة على الصعد الدولية والإقليمية والمحلية.
وإذا جاز التعبير، فإن اتفاق الدوحة وخريطة الطريق الفرنسية كانا يهدفان إلى حلول مرحلية للتأزم اللبناني. ويمكن وصف المبادرة الفرنسية بأنها سعت إلى أخذ نوع من "الوقت المستقطع" عن الصراع السياسي الدائر بين الأفرقاء اللبنانيين، من أجل تمرير إصلاحات تحول دون الانهيار الاقتصادي، فيما الورقة الكويتية تقارب الأزمة من جوانبها كافة، وصولاً إلى البند 12 منها الذي ينص على "العمل مع البنك الدولي لإيجاد حلول لمسألة عدم تمكين المواطنين اللبنانيين من تسلم ودائعهم في البنوك اللبنانية".
الرد التقليدي وتغييب مجلس الوزراء
ربط الرد اللبناني على البنود الحساسة المتعلقة بالقرارات الدولية والعربية وسلاح "حزب الله"، والموقف من القرار 1559 الذي ينص على نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية (المنظمات الفلسطينية في المخيمات وخارجها) بحفظ السلم الأهلي، مع تأكيد احترام سلطاته لهذه القرارات. والسبب أن الحزب افتعل أحداثاً أمنية في كل مرة طالب معارضوه بنزع سلاحه. أما في شأن تدخلات الحزب في شؤون دول الخليج، فكان الرد تقليدياً يؤكد الحرص على حسن العلاقة مع هذه الدول، لكنه التزم تعزيز الرقابة على الصادرات اللبنانية إلى الخليج منعاً لتهريب المخدرات إليها، فيما دول الخليج تدرك أن المواقف اللفظية للسلطات اللبنانية لا تلزم الفريق المشكو منه، أي "حزب الله"، في الإساءة إلى هذه الدول التي تتهمه ضمناً بحماية تهريب المخدرات إليها، وبرعاية "أنشطة الجماعات المناوئة" لها، كما جاء في الورقة الكويتية، مطالبة بوقفها، والتزام سياسة النأي بالنفس "قولاً وفعلاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولقيت التسريبات عن مضمون الرد اللبناني ردود فعل عدة تنتقد السلطات اللبنانية لحصرها صياغة الرد بالتشاور بين رؤساء الجمهورية العماد ميشال عون، البرلمان نبيه بري، والحكومة نجيب ميقاتي مع الوزير بوحبيب، من دون مجلس الوزراء. ودفع ذلك رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي ثمّن "المبادرة الخليجية التي أعادت في بنودها الاعتبار للقضية اللبنانية مؤكداً أهميتها، لكونها خليجية وعربية ودولية وتجسد مطالب اللبنانيين التاريخية إلى الحديث عن مخالفة دستورية في صياغة الرد باستبعاد مجلس الوزراء. وسبقه رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة بأن توقع "ألا تتمكّن الحكومة اللبنانية من أن تقدم أجوبة حقيقية تلامس ما يحتاج إليه لبنان ليجيب عن المواضيع التي جاءت بها المبادرة الكويتية العربية، والتي ينبغي للبنان أن يتقيّد بها، لأنها تمثل ما يحتاج إليه من حلول لمعالجة جوهر المشكلات التي يعانيها". ورأى أكثر من سياسي لبناني من القوى السيادية المعارضة لـ"حزب الله" أن هذه الورقة هي "الفرصة الأخيرة" التي على لبنان التجاوب معها. وذكّر السنيورة بأن النقاط التي تضمنتها مذكرة قدمها رؤساء الجمهورية والحكومات السابقين للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حول أزمة لبنان، هي نفسها واردة في الورقة الكويتية.
الخشية من الـ1559 والـ1701 يرتكز إليه
ودفعت الانتقادات لتغييب مجلس الوزراء عن صياغة الرد على الورقة الكويتية ميقاتي إلى إبلاغ المجلس خلال اجتماعه لدرس الموازنة، الاثنين 31 يناير، بعد أن كرر وزراء ملاحظاتهم حول عدم اطلاعهم عليها، بأن الورقة الكويتية "غير رسمية" حتى الآن، وأنه تمت كتابة الجواب عليها من وحي البيان الوزاري للحكومة والحرص على أفضل العلاقات مع دول الخليج.
وعكس رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وليد جنبلاط، المناخ المتردد في تبني السلطة اللبنانية للقرار الدولي 1559 في حديث تلفزيوني في 27 يناير، حين قال: "القرار 1559 أكبر منا، ولا نستطيع تنفيذه. نحن نوافق على القرار 1701 لأنه مفتاح الأمن لكل لبنان ولازدهار الجنوب، فوجود القوات الدولية له أثر سياسي، وآخر اقتصادي". وجاء موقفه هذا على الرغم من تصاعد انتقاداته للحزب في الأشهر الأخيرة وللآثار السلبية على الصعيد الاقتصادي جراء استتباعه لبنان للسياسة الإيرانية، لكن جنبلاط يحيل منذ سنوات مسألة سلاح الحزب إلى "الحوار الوطني حول الاستراتيجية الدفاعية"، الذي كان الرئيس عون وعد بالدعوة إليه عند انتخابه في عام 2016، لكنه تأخر في ذلك حتى ما قبل شهر. وقال مراقبون إن القرار 1701 نفسه الذي تؤكد السلطات اللبنانية التزامها بتنفيذه، يرتكز إلى القرارات الدولية السابقة على صدوره وينص عليها ومنها القرار 1559، بالتالي فإن رفض الأخير لا معنى له.
المبادرة العربية "أفضل" من التحركات الدولية
في الكويت شدد الوزير الصباح غداة تسلمه الرد اللبناني على حرص بلاده على استقرار لبنان ورفاهية شعبه واستمرار المسعى الكويتي لترتيب العلاقات مع الأشقاء في الخليج استكمالاً لما ورد في الرد اللبناني وشكر لبنان على "التفاعل" مع المطالب التي صاغتها الدول الخليجية، قائلاً إنه "خطوة إيجابية، لكنه أوضح أن الأمر "الآن متروك لدراسة هذا الرد من قبل الجهات المعنية في الكويت وفي دول الخليج لمعرفة ما هي الخطوة المقبلة مع لبنان".
وصدر عن وزارة الخارجية اللبنانية بيان أوضح أن بوحبيب قدّم في اللقاء الوزاري التشاوري عرضاً للأوضاع في لبنان، مشدداً على "حاجته لاستعادة العلاقات التاريخية الأخوية بأشقائه العرب. وقد كان لهذه الرسالة وقع إيجابي لدى الجانب الكويتي والمشاركين".
وتقول مصادر الخارجية اللبنانية لـ"اندبندنت عربية"، إن بوحبيب يعتبر أن الورقة الكويتية خطوة إيجابية تسمح بالحوار حولها، وأن تحركاً عربياً من أجل السعي للحلول في لبنان أفضل من المبادرات الدولية لأنه يأتي من أشقاء يمكن أن يتفهموا ظروف لبنان أكثر من الدول الغربية. وفي اعتقاد بعض الأوساط التي تخشى من ردة فعل "حزب الله" الأمنية في حال طُرحت مسألة سلاحه من قبل الدول الغربية، أن مناقشة هذا الأمر في الإطار العربي قد يكون وقعه أقل حدة، إذا انخرط في بحثه مسؤولون لبنانيون رسميون، بحجة أن لبنان جزء من المنظومة العربية ودولة الكويت لها علاقة تاريخية خاصة به.
ويميل الاعتقاد لدى أكثر من جهة في بيروت إلى أنه مع عدم اقتناع الدول الخليجية بالرد اللبناني المتأثر بنفوذ "حزب الله" في السلطة السياسية، فإن التحرك الكويتي المدعوم سعودياً ومن قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن أميركا وفرنسا، حسبما أكدت مصادر رسمية لبنانية لـ"اندبندنت عربية"، يفتح الباب على حوار حول مسار للحلول في لبنان ولو أنه سيأخذ وقتاً.
وفضلاً عن الملاحظة بأن الورقة الكويتية تمثل أول تحرك عربي جدي منذ اتفاق الدوحة عام 2008، وبعد المبادرة الفرنسية، يؤيد مراقبون هذا الاستنتاج لأسباب عدّة منها:
الحضور في لبنان ينشّط الدور العربي إقليمياً
- أنها تستجيب لمطالبة غربية (أميركية فرنسية خصوصاً)، وروسية متواصلة للدول العربية والخليجية بعدم ترك لبنان للنفوذ الإيراني.
- أن عودة العرب إلى الاهتمام بوضع لبنان يعيد الثقل العربي إلى هذا البلد على الرغم من النفوذ الإيراني فيه، من زاوية أن للعرب رأيهم في ما يرسم له على الصعيد الدولي والإقليمي، مثلما يسترجع القادة العرب الفاعلين حجمهم وموقعهم في معالجة الأزمات الإقليمية برمتها إذا كان الذراع الإيرانية في لبنان، "حزب الله"، يسهم في تهديد أمن دول الخليج انطلاقاً من المنصة اللبنانية، بدلاً من أن ينحصر اهتمام هذه الدول على منطقتهم وحدها، مع أهمية التركيز على إنهاء التدخل الإيراني في اليمن.
- أن الحوار السعودي - الإيراني الذي تحتضنه بغداد، والذي يتناول العلاقات الثنائية والأزمات التي لإيران دور فيها، ولا سيما في اليمن لا بد من أن يشمل دورها أيضاً في العراق وسوريا ولبنان. وحتى لا تأخذ طهران العرب بالمفرّق، على المنظومة العربية أن تسعى إلى تفكيك كافة الأزمات التي لإيران دور فيها في الإقليم برمته.
تراجعات وصعوبات تعترض طهران
- أن الاهتمام العربي والخليجي في لبنان يأتي في ظل أحداث تدل إلى أن الدور الإيراني في عدد من الدول أخذ يلقى تراجعاً في اندفاعتها العسكرية عبر الحوثيين في مأرب وشبوة، إضافة إلى صعوبات وعقبات، حيث هناك حراك سياسي وشعبي ضد هيمنتها أو نفوذها في العراق كما أثبتت الانتخابات، وفي سوريا، حيث يتصاعد تنافسها مع روسيا، وأخيراً في لبنان، حيث اتسعت رقعة الاعتراض على سلاح "حزب الله" وحلفائه في السلطة، سواء على الصعيد المسيحي أو السني أو الدرزي. ولبنان مقبل على انتخابات نيابية ورئاسية للحضور العربي عبر بنود خريطة الطريق الكويتية العربية لا بد من أن يكون له صدى لدى القوى السياسية التي تخوض هذه الانتخابات.
- أن التسويات والمعادلات التي يمكن أن تفرزها نتائج مفاوضات فيينا حول النووي الإيراني، توجب حضوراً عربياً في كافة الميادين الإقليمية التي يحتمل أن تشمل تسخيناً للصراع أو تفاوضاً.
الاستنجاد بالثقل العربي على الصعيد الدولي
- أن بنود الورقة الكويتية الـ12 فرصة ثمينة للبنان كي يستنجد بالثقل العربي في المحافل والمنتديات الدولية، إذا كانت الحجة التي يستنجد بها "حزب الله" وحلفاؤه ومنهم الرئيس عون و"التيار الوطني الحر" للاحتفاظ بسلاحه على الرغم من رفض الأكثرية ذلك، هي أن إسرائيل تستمر في احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وجزء من قرية الغجر وتواصل خرق القرار 1701. فمن مصلحة لبنان والمنظومة العربية السعي لدى المجتمع الدولي من أجل إيجاد مخارج لهذه الأمور، في اتجاه الضغط على سوريا أن تبلغ مجلس الأمن بعد تحديد الحدود مع لبنان، بأن مزارع شبعا لبنانية، الأمر الذي كانت ترفضه. والتحرك في هذا الاتجاه يشمل الدول الغربية المؤثرة على إسرائيل، وروسيا المؤثرة على القيادة السورية... من أجل نزع حجة الحزب من جهة ومن أجل الانتقال في تنفيذ القرار الدولي من وقف الأعمال العدائية الذي توقف عنده، إلى وقف إطلاق النار وترسيم الحدود.