في الأشهر الأخيرة تعرض المسرح المصري، أو بمعنى أدق المسرح الذي تشرف عليه المؤسسات الرسمية، لضربات قاسية وقاصمة، هددت بتوقفه تماماً، وتمثلت في إجراءات إدارية ومالية مفاجئة وغير منطقية، عطلت الإنتاج في معظم المسارح، وتسببت في ردود فعل غاضبة في الأوساط المسرحية والثقافية عموماً.
وإذا كانت ردود فعل المسرحيين قد ظهرت في مقالات وتقارير صحافية وكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي، فقد برز رد فعل طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية في عرض مسرحي، أو احتفال مسرحي، كما وصفوه، اختاروا له عنواناً لافتاً هو "المسرح وحشنا"، عنوان يفصح عن وجهة نظر مؤدّاها أن المسرح في مصر خرج، وربما لن يعود. والسبب ليس عدم وجود عناصر فنية تنقذه من عثرته، بل قرارات عشوائية تم اتخاذها بشأن الإنتاج المسرحي، وهي كفيلة بتغييب المسرح عن الساحة، بخاصة أن إنتاج الفرق الخاصة محدود للغاية، نظراً إلى تكلفته المالية الكبيرة التي لم تعد متوافرة لدى معظم هذه الفرق. هكذا يظل المسرح الذي تقدمه المؤسسات الرسمية هو الملاذ الآمن، سواء كفرصة عمل للمسرحيين، أو كفرصة للمواطنين لمشاهدة أعمال مسرحية جادة ومنضبطة، وبأسعار مناسبة، باعتبارها ليست هادفة للربح.
مواجهة الأزمة
الإجراءات، وفق ما تم إعلانه، تهدف إلى ترشيد النفقات، لكن تنفيذها أدّى إلى انصراف المسرحيين عن المسرح الرسمي، واضطرار هذا المسرح، في ظل توقف الإنتاج، إلى إعادة تقديم عروض قديمة. فالإجراءات تمنع التعاقد مع عناصر من غير العاملين في تلك المؤسسات، بينما لاأحد من هؤلاء العاملين التحق بعمله، بوصفه كاتباً أو شاعراً أو مصمم رقصات، ما يجعل هناك استحالة في تقديم عرض مسرحي، بسبب عدم توافر هذه العناصر داخل المؤسسات الرسمية. وألغت هذه الإجراءات بند الدعاية، أي ألزمت صناع العروض بعدم عمل أي دعاية عن عروضهم، ما يعني أن أحداً لن يشاهدها، فضلاً عن إلزام كل من يعمل في عرض مسرحي بتقديم فاتورة إلكترونية للحصول على أجره. وهذه الفاتورة لا تتوافر سوى لدى الشركات وكبار التجار، أي إن الإجراءات تقولها صراحةً: أوقفوا إنتاج المسرح تماماً.
الغريب في الأمر أن الدولة المصرية تعلن دائماً اهتمامها بالمسرح وإدراكها لضرورته كجزء مهم وفاعل، وفي الوقت نفسه فإن الدولة هي التي تضع كل هذه العراقيل أمام المسرح، وهو أمر وصفه الكثيرون بأنه يتجاوز مرحلة العبث بكثير.
في ظل هذه الظروف المرتبكة قدم الطلاب عرضهم الذي لا يتناول من قريب أو بعيد الأزمة التي يتعرض لها المسرح المصري الآن، وربما لم يخطر ببال صناع العرض أن يكون عرضهم بمثابة رد عملي على محاولات ضرب المسرح في مقتل. وهنا تكمن المفارقة التي تمثلت في تقديم ثمانية عشرة ممثلاً وممثلة من طلاب المعهد على قدر عالٍ من الموهبة، هم: ميرنا نديم، وسام عادل، ونغم صالح، ومازن جمال، وخالد أنور، وممدوح السعيد، ونادر عزيز، ونور الدريني، وعلاء الوكيل، وحنان عادل، وأحمد عباس، ومنة الفيومي، ورحمة أحمد، وجنى صلاح، ومحمود حجاج، وزينب غريب، وهايدي كابو... وكأن هؤلاء يتساءلون: أين نذهب إذاً والمسرح المصري الآن ليس بخير؟
العرض أخرجه أشرف زكي لطلاب السنة النهائية في قسم التمثيل والإخراج في المعهد، وهو ليس عرضاً بالمفهوم التقليدي، لكنه عروض عدّة، أو بمعنى أدق مشاهد عدّة من مسرحيات مصرية شهيرة، كوميدية وتراجيدية، تم دمجها معاً بغرض إظهار طاقات الطلاب التمثيلية. وعلى الرغم من ذلك فثمة خيط يسلم كل مشهد إلى الآخر في تسلسل محسوب بدقة، وإيقاع منضبط. حتى إن العرض، الذي استغرق ساعتين، مر من دون أن يشعر المشاهد بأي ملل، ومرّ كذلك من دون إظلام واحد بين المشاهد، وكأننا أمام شريط سينمائي تمت "منتجته" بإتقان، لتتوالى صوره من دون أي فجوات بينها.
كوميدي وتراجيدي
حرص المخرج - إمعاناً في إظهار مواهب الممثلين - على أن يؤدي أغلبهم مشاهد كوميدية، وأخرى تراجيدية، فضلاً عن الرقص والاستعراض، والغناء الذي قام به الممثلون أنفسهم، وبشكل حي وليس على طريقة" البلاي باك"، وكأن المخرج يقول: هذه بضاعتنا التي تجيد كل فنون الأداء.
وعلى الرغم من أن المشاهد المتنوعة التي قدمها الممثلون تكاد تكون محفوظة بالنسبة لكل المهتمين بالمسرح، فقد تعامل معها الممثلون بذكاء شديد، إذ أدركوا جيداً أنهم ليسوا بصدد تقديم فقرات لتقليد الفنانين أو استعارة طرق أدائهم، وأن عليهم إسباغ شخصياتهم على تلك المشاهد، فضلاً عن أن التقليد سيضعهم في مقارنة ليست في صالحهم، وهو ما فطنوا إليه. وقدّم أغلبهم هذه المشاهد بشكل يخصه. صحيح أن بعض ظلال طرق أداء نجوم المشاهد الشهيرة كانت حاضرة، وهذا أمر طبيعي، لكن ثمة إضافات شخصية كانت حاضرة أيضاً تشير إلى قدرات هؤلاء الممثلين الشباب.
مرونة الديكور
وإذا كان التمثيل هو أبرز ما في العرض، أو هو أهم عنصر سعى العرض إلى تقديمه، فقد كانت العناصر الأخرى عاملاً مساعداً وفاعلاً في تأطير، أو كما يقولون باللهجة المصرية "بروزة"، هذه الطاقات التمثيلية. الديكور صممه أحمد عبد العزيز، وجاء مرناً ومدركاً لطبيعة العرض وتعدد مشاهده، وحريصاً على ضبط إيقاعه، بخاصة أن جميع المشاهد تتوالى من دون اللجوء إلى الإظلام. وهو أمر صعب على أي مصمم يضطر إلى اللجوء للإظلام لتغيير الديكور، لكن المصمم هنا تعامل مع الأمر بذكاء، فالمنظر الوحيد الثابت عبارة عن منصة في عمق المسرح، مرتفعة قليلاً عن المستوى صفر، تم تخصيصها للفرقة الموسيقية التي صاحبت الغناء الحي للممثلين، وضمت كلاً من محمد علام، وياسر أنيس، وهاني الحداد، وياسين بدر. وفي واجهة المنصة ستارة المسرح المعروفة، وعن يمين المشاهد وجها المسرح، الضاحك والباكي، وعن يساره قلبان باللون الأحمر متداخلان، هذا فقط ما واجه المشاهد طوال العرض، ربما ليذكره بحضور المسرح دائماً في قلوب محبيه حتى لو كانت هناك محاولات لتغييبه. واعتمد المصمم على قطع بسيطة يتم تغيير أوضاعها تبعاً لطبيعة المشهد، أو تغييرها بقطع وموتيفات أخرى، وذلك خلال الحركة، وليس عبر الإظلام، ما ينم عن الحرفية والذكاء اللذين تعامل بهما المصمم مع العرض.
سؤال مؤلم
الاستعراضات أيضاً صممها عاطف عوض، أحد أشهر مصمي الاستعراضات في مصر، ولم يعتمد فيها على فرقة مختصة. فقدمها مع الممثلين أنفسهم، الذين أدّوها بدرجة عالية من الاحترافية، على موسيقى وضعها أحمد حمدي رؤوف، وكتب أشعارها طارق علي، وهي أشعار تمس رسالة العرض وتشكل جزءاً مهماً في بنيته، وليست مجرد كلمات مصاحبة للاستعراضات فحسب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوافر للعرض أيضاً مصمم إضاءة صاحب موهبة وخبرة (عمرو عبد الله) الذي كانت مهمته هو الآخر صعبة في ظل تعدد مشاهد العرض وتسارعها، ما يتطلب مرونة وحسابات دقيقة للمساهمة في تشكيل الصورة المسرحية. وهو ما نجح فيه، وأضفى الكثير من البهجة على العرض بتعدد مساقط الإضاءة ودرجات ألوانها التي تم توظيفها لخدمة كل مشهد حسب طبيعته.
"المسرح وحشنا" احتفال مسرحي، لكن الرؤية الذكية، التي تبنّاها مخرجه أشرف زكي، تجاوزت فكرة الاحتفال إلى فكرة السؤال المؤلم. فالمشاهد التي قدّمها العرض تستعرض جزءاً من تاريخ المسرح المصري، وتقدم مواهب في غاية النضج ولديها القدرة على مواصلة المسيرة، ولكن كيف لها أن تواصل والمسرح يتلقى كل هذه الضربات الموجعة؟