باتت ذكرى اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 في مصاف الحوادث البائسة للديمقراطية الأميركية، والمعيبة في الآن ذاته لاستثنائيتها المزعومة، لا سيما أن الحادثة تحمل في طياتها حقائق متشابكة تمس المستويات الفكرية والعقائدية التي كونت العقل الجمعي لأنصار الرئيس ترمب، ودفعت بهم لتخطي الحدود الديمقراطية وهدم ما عهد لدى بلادهم من بنايات قيمية سياسية.
الأطياف الداعمة للرئيس ترمب مركبة من خليط زاخر بالأيديولوجيات المختلفة، فهم في مجملهم لا يستندون إلى أرضية فكرية مشتركة، إلا أن نقاط الالتقاء التي تجمعهم تحت لواء ترمب هي الغاية النهائية المنشودة متمثلة في مجابهة العدو المشترك داخلياً، اليسار الليبرالي السياسي. منهم المنتمون إلى مجموعات white supremists "المتعصبين للعرق الأبيض"، من مثل alt-right أو Proud Boys، وغيرهم من أتباع منظري المؤامرة والمشهورين باسم "QAnon"، بيد أن الصبغة الدينية المسيحية كانت حاضرةً في المشهد، حيث لا يمكن إغفال حضور الطقوس الدينية والشعارات التي يرددها اليمين المسيحي المتشدد في حادثة اقتحام أحد أهم معاقل النظام السياسي الأميركي.
الجموع الغفيرة المقتحمة للكونغرس، بحسب تحقيقات "نيويورك تايمز"، تلمست لحظة روحانية جماعية لتركع على قارعة الطريق وتتضرع إلى "الرب" بالصلاة، وتبتهل بالدعاء، لتنهض بعدئذٍ باتجاه الكونغرس فيما يعده كثير منهم "مشاركةً في حرب مقدسة"، حرب الخير ضد فلول الشر. ومن ضمنهم من يحمل صليباً أبيضَ بشعار: "ترمب فاز"، وآخر يحمل لافتة انتخابية يعتليها: "عيسى 2020"، وثالث يرتدي ما تم رقعه بكلمات "درع الرب".
كل ذلك يحرضنا على التساؤل عن ماهية الأسس الفكرية لدى اليمين المسيحي ودواعي نقمته على النظام السياسي، وكيف عاد بكل هذا الوهج والسطوة في حضور لا يشبه إلا تغلغله زمن الرئيس رونالد ريغان في بداية عقد الثمانينيات، وقبل أن تخبو جذوة فاعليته بنهاية ذلك العقد من القرن الماضي.
الدستور الأميركي ودوافع بروز التعبئة الدينية
الدستور الأميركي قائم على أسس ليبرالية من دون نص على كنيسة أو دين وطني، وبالقدر ذاته من الأهمية، من دون إقصاء للدين بالكامل من الحياة المجتمعية، فيجدر بنا التنبه إلى أن الشعب الأميركي يفوق كل الشعوب الأوروبية الغربية تديناً، حيث تشهد الاستطلاعات لدى مركز أبحاث "بيو/ Pew" أن 55 في المئة من الشعب الأميركي يؤدون الصلاة بانتظام، بينما هذه الفئة تمثل فقط ما نسبته 10 في المئة في فرنسا و6 في المئة في المملكة المتحدة.
بعض المراقبين بالداخل الأميركي يرى ضخامة الأثر الديني على السرديات السياسية والأنماط الانتخابية في البلاد، بينما رُؤى عالمية مقارنة، تعتقد بضآلة الأثر على المؤسسات الأميركية علمانية الأسس. ولا شك أن حركات اجتماعية - دينية من اليمين واليسار السياسيين، طالما سعت إلى التأثير في السياسات العامة حيث لا يمكن إنكار توظيف حركات حقوقية سابقة مقاربات دينية في تناول المشكلات المجتمعية، أكثرها نجاحاً كمثال تظاهرات الحقوق المدنية "Civil Rights Movements"، حيث تمت الاستفادة من كنائس الأميركيين الأفارقة كقواعد مؤسسية وأخلاقية للاحتجاجات، وفي الوقت الراهن تتصدى المنظمات الكاثوليكية ووالإيفانجليكية البروتستانتية لقيادة الحركات المجتمعية المعارضة للإجهاض والمسماة "المحبة للحياة/ Pro-life Movement".
ارتكازاً على العرف الدستوري والسياسي، لم يكن الدين ذا تأثير مباشر على المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة، لكنّ تنامي الحضور السردي الديني ضمن الحوارات السياسية كان نتيجة لتسييس الدين منذ سبعينيات القرن الماضي على يد اليمين المسيحي أو "اليمين الجديد"، وبالأخص الحركة الإيفانجليكية، مما أبرز الحركة الفكرية تلك كإحيائية أيديولوجية تتطلع إلى إعادة تشكيل المنهجية السياسية العامة والمجتمعية.
الإيفانجليكية تدخل عالم التأثير في السياسة الفيدرالية الأميركية
الطيف الديني المتمثل في الإيفانجليكية ادّعى في السبعينيات من القرن الماضي، أن اندفاعه باتجاه السياسة الفيدرالية الوطنية كان مردّه الحنق الشعبي العارم الذي خلفه قرار المحكمة العليا في القضية التاريخية "Roe vs. Wade" عام 1973، والقاضي بأن الدستور الأميركي يحفظ حق المرأة الحامل في اختيار الإجهاض دون قيود حكومية مفرطة، بيد أن ما حفز هذا التحالف على الدخول في شرك السياسة الوطنية هو استشعار اليمين جملة من الأخطار "المحدقة بثقافته المجتمعية"، بحسب ما يرى منظريه، لا سيما بعد أن حكمت المحكمة العليا في القضية الشهيرة "Brown v. Board of Education" ضد قوانين الولايات الداخلية من أجل إنهاء الفصل العنصري في المدارس العامة في عام 1954، ولاحقاً قرار المحكمة العليا إبطال الممارسات الدينية في المدارس العامة، سواءً أكانت الصلاة أو القراءة الإجبارية للإنجيل، مما أرغم اليمين المسيحي على إنشاء المدارس المسيحية الخاصة تحايلاً على القرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خارجياً، تؤمن الفلسفة الكونية للإيفانجليكيين بوجوب اضطلاع الولايات المتحدة كقوة عظمى في تشكيل العالم، واستخدام القوة لفرض ما يعدونه نمطاً إلهياً مقدساً يعبر عنه العهدان القديم والجديد من "الكتاب المقدس"، لذا شهدت حقبة السبعينيات تلاقحاً لأفكار اليمين المسيحي مع أطروحات متمرسين سياسيين محسوبين على الحزب الجمهوري وغيرهم من الأفراد الوطنيين من الحزب الديمقراطي، ممن اشتهروا بنقدهم اللاذع للأدوار الخارجية الهشة لبلادهم والمفضية برأيهم إلى تضعضع للقوة العظمى الأميركية.
"المحافظون الجدد" و"اليمين الديني الجديد"
تتبع الجذور الفكرية للمحافظين الجدد يقودنا إلى فكر الفيلسوف اليهودي الألماني الأصل الأميركي الجنسية، ليو شتراوس، والذي يؤكد نخبوية المعرفة وينتقد الليبرالية الديمقراطية وما أفضت إليه موجات الحداثة السياسية، فضلاً عن نقده للنظام العالمي ومفهوم الحكومة العالمية، وضرورة عدم تقييد المصلحة القومية لدولة عظمى بمعايير الحدود الجغرافية. وينبغي التأكيد أن المحافظين الجدد كما هم المحافظون التقليديون ما زالوا أوفياء لمبادئ أدموند بيرك، فضلاً عن جون آدمز فيما يختص بالدور الأخلاقي للدولة، وبضرورة أن تعمل أجهزتها على تنمية الفضيلة والمسؤولية المجتمعية وتحسين البيئة الأخلاقية للمجتمع.
"اليمين الديني الجديد" يعتنق أتباعه مزيجاً مما يعتنقه عناصر الاتجاه المحافظ التقليدي والجديد في الولايات المتحدة وعناصر الاتجاه الشعبي، حيث يعتقدون أن الحكومة تُدار من قبل جماعات مصالح شخصية ونفعية ضيقة الأفق، كما يضعون المسؤولية على عاتق الجماعات الليبرالية إزاء تردي وانحلال الأخلاق في المجتمع بسبب دعمهم للسياسات التحررية، كحق الإجهاض وتقبل الشذوذ الجنسي وتعليم الجنس في المدارس.
الإيفانجليكية حركة فكرية داخل اليمين الديني الجديد، ذات طابع إحيائي، جوهرها يتمحور حول التفسير الحرفي للعهدين القديم والجديد من "الكتاب المقدس" أي التوراة والإنجيل. وهي حركة داخلة ضمن ما يسميه عبد الوهاب المسيري "الصهيونية ذات الديباجة المسيحية"، في موسوعته الشهيرة "اليهود واليهودية والصهيونية". فهي دعوة أصولية في الأوساط البروتستانتية المتطرفة تستشهد بقيام دولة إسرائيل على تحقق النبوءة المفسرة حرفياً من الكتب المقدسة، وفحواها يدور حول إعادة اليهود إلى أرض الميعاد، فلسطين، ليتم التمهيد لعودة "المسيح"، حيث ستجري المعركة الكونية الفاصلة في "هرمجدون".
ويؤكدون أن عودة اليهود شرط الخلاص، على الرغم من اعتقادهم بهلاك ثلثي يهود العالم ممن يقف في وجه المسيح المخلص في تلك المعركة، فهي مزيج غريب من الحب والكره والدفاع والاستغلال إزاء اليهود وإسرائيل.
الإيفانجليكية المسيحية والرئاسة الأميركية
التشابك الديني - السياسي بإيجاز يتمظهر في خطابات سياسية هي نتيجة أفكار أيديولوجية ترمي إلى موضعة الدين في قلب صنع القرار السياسي، ويتبدّى أيضاً في الملامح الفكرية الجديدة التي تتبناها النخبة القيادية. فعبارة "بارك الله أميركا/ God Bless America"، في ثنائية تربط الدين بالدولة وتشرح فكرياً حجم الأثر الذي انبرى له اليمين المسيحي ليصبغ الممارسات السياسية بصبغته، أصبحت ديدن الخطاب الرئاسي من بعد الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات، على الرغم أنه لم يقلها أي رئيس أميركي قبله سوى الرئيس ريتشارد نيكسون - عندما حاول تخفيف الأضرار أيام فضيحة "ووترغيت".
فيما يتعلق برؤساء الولايات المتحدة، يسترعي الانتباه أولاً استخدام عديد منهم للإشارات الدينية بغية التأثير على الجموع واكتساب تعاطفهم، لكن الدين لم يكن عاملاً مباشراً في التأثير على السياسة أو على الانتخابات الرئاسية قبل عام 1980، حيث إن النقطة الفاصلة التي مكّنت اليمين المسيحي من مبتغى التأثير السياسي جاءت عقب إنشاء منظمة الأغلبية الأخلاقية Moral Majority، وهي عبارة عن تحالف ما بين اليمين المسيحي والحزب الجمهوري، وبفعل نشاطات المنظمة التي اشتملت على تسجيل الناخبين، وجمع التبرعات لأغراض سياسية، وتأسيس جماعات الضغط، ودعم الحملات الانتخابية، لتتوج تلك الجهود جميعها بوصول الرئيس رونالد ريغان إلى سدة الحكم يناير (كانون الثاني) 1981.
على أية حال، اليمين المسيحي أو اليمين الجديد والمتمثل في الحركة الإيفانجليكية، انتعش كما انتعش اليمين المحافظ منذ الثمانينيات من القرن الماضي مع وصول الرئيس رونالد ريغان للسلطة، لكنه وبعد أن خبت نار تأثيره لعقدين ونصف العقد من الزمن، عاد متوهجاً وطاغياً في خطابات "الحرب الثقافية" التي أشعلها الرئيس دونالد ترمب منذ أن أعلن ترشحه لانتخابات 2016 الرئاسية، فكيف انعقد الوفاق السياسي بين الطيف اليميني الإيفانجليكي وحملات الرئيس ترمب، وهل ما زالت الحركة قادرة، هي وغيرها من الحركات المناصرة لترمب، على إعادته لسدة الرئاسة الأميركية من جديد عبر بوابة انتخابات 2024؟ نُلقي الضوء على هذه التساؤلات في مقالة لاحقة.