روينا هنا قبل أسابيع الحكاية التي تمخضت عن "تحويل" الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه إلى "مفكر نازي" دون أن يعرف هو شيئاً عن ذلك، وحتى دون أن يستشار، بل قبل سنوات عديدة من ولادة النازية نفسها. وصورنا الكيفية التي "احتالت" بها إليزابيت نيتشه – فورستر، شقيقة صاحب "هكذا تكلم زرادشت" و"المعرفة الجزلة"، على هتلر، وجعلته يمجد ذكرى الفيلسوف جاعلاً من هذا المفكر نوعاً من أيقونة فكرية لأيديولوجية الدولة التوتاليتارية التي أقامها عند نهاية الثلث الأول من القرن العشرين على أنقاض هزائم الألمان وذلهم. وهذه المرة سيكون طبعاً من المفيد إعادة الأمور إلى نصابها والحديث بعض الشيء عما يتناقض في بعض أبرز كتابات نيتشه مع تلك النازية التي ستولد بعد سنوات من موته عند مفتتح القرن العشرين. والمهم ألا يبدو هذا القول الأخير متناقضاً، إذ نقول قبله أن نيتشه مات قبل "ولادة النازية" ثم نحاول أن نظهر تناقضه معها!
قبل نيتشه وبعده
ولكن مهلاً هنا!، فإذا كنا نتحدث عن النازية، فإننا نعني وجودها كفكر ألماني النزعة لا يحمل اسم النازية لنحو قرنين من بدايات القرن العشرين، فكر يقوم على وجود آريّ لعرق رفيع القيمة يزهو على العروق الأخرى، ويستفيد من استشراء نوع من معاداة السامية، واجداً في اليهود وممارساتهم ما يجعلهم كبش محرقة لخلق أحقاد وما إلى ذلك. وهو فكر يمكن على أية حال تلمس جذوره لدى مفكرين ألمان كفيخته وهردر، وتحديداً خلال أزهى لحظات عصر التنوير، وربما كنوع من رد فعل على النابوليونية التي عاثت في أوروبا فساداً وهي تزعم الارتقاء بها، جاعلة من القارة المتنورة أرضاً للشعوب والمساواة، فكر تلقفه العنصريون الألمان في لحظات بؤسهم التي تلت معاهدة فرساي فأحسوا بالذل منتظرين "بطلاً مخلصاً" من سوء طالعهم أنهم وجدوه في هتلر والبقية نعرفها بالطبع. وما يهمنا منها، هنا، هو ما يتعلق بالصورة التي علقت بنيتشه، صورة تاجرت أخته بها فتلقفها الفوهرر، ومن بعده متابعون للفكر النازي من بينهم كثر من العرب، تبعه بعضهم عن اقتناع وبعضهم نكاية بأعدائه الإنجليز وكانت سمعة نيتشه بين الضحايا.
بدايات عنصرية؟
مهما يكن من أمر، إذا عدنا إلى صبا نيتشه وإلى مراحل مبكرة من شبابه، لا شك أننا سنجده، أسوة بجماهير عريضة من الشبان الجرمانيين، مؤمناً بعظمة ما للشعوب الآرية، لا سيما بمكانة عالية للشعب والفكر الألمانيين. ومن المؤكد أن ذلك الإيمان، كان هو ما جعله يقف على نقيض النزعة الأوروبية الديمقراطية والتحررية. ولكن ذلك كان لفترة عابرة لم تنتج لديه كتابات ذات شأن، ولا حتى مواقف تذكر. كان كل ما أنتجته لديه تقاربه مع الموسيقي ريتشارد فاغنر الذي كان يكبره سناً، ويعلو عليه قيمة ومكانة في الحياة الفكرية والثقافية في بروسيا. ومع ذلك منحه هذا الأخير صداقة تبدت مثالية وودية وجعلت نيتشه في كتاباته الأولى على الأقل، يتمسك بأهداب الأساطير الجرمانية التي كان فاغنر ينهل منها مواضيع أوبراته العظيمة، معتبراً الروح التي تهيمن على جوهر تلك الأساطير ديونيزية تغوص في التاريخ وصولاً إلى أعظم تجليات الفكر الإغريقي. ولسوف تظل الأمور كذلك حتى ظهور أوبرا "تانهاوزر" في زمن كان نيتشه قد بات فيه يعد جزءاً من ثلاثي مبدع يضمه إلى فاغنر وإلى شوبنهاور، حتى من دون أن يُعرف عن صاحب "الحياة إرادة وتمثل" أي غوص في الفكر النازي. وعلى أية حال كانت تلك اللحظة هي التي شهدت وربما بصورة مباغته انتفاضة نيتشه ضد فاغنر، وتحديداً ضد جرمانية فاغنر و"لا – ساميته" وإيمانه بالعظمة والتفوق الألمانيين. فوقعت الواقعة وكتب نيتشه نصوصاً ضد فاغنر يتحدث فيها عن ذلك كله.
سنوات القطيعة المثمرة
طبعاً لن نهتم هنا كثيراً بالشقاق بين نيتشه وفاغنر فلقد كُتب عنه كثير، كما أننا بدورنا تناولناه مرات ومرات. ما يهمنا منه هنا، إذن، هو ما يتعلق بالتناقض التام الذي راح يتعاظم، فكرياً منذ ذلك الحين، بين الموسيقي الكبير والفيلسوف المتمرد، ويتواصل خلال سنوات عديدة فصلت بين انتهاء صداقتهما وبدء حالة الجنون التي راحت تستبد بينهما حتى غاص فيها نيتشه كلياً ورحل معانياً منها. بيد أن السنوات الفاصلة كانت، على أية حال، أكثر السنوات إثماراً في مسار نيتشه، بمعنى أنها كانت السنوات التي أنتج فيها كتبه الكبيرة والثرية، الكتب التي لا سيما بعدما نسي كاتبها قضية فاغنر راحت تمتلئ بالأفكار التي لا يُكف عن استكشافها والعودة إليها كلما احتاج المفكرون طوال القرن العشرين إلى مرجعية فكرية صلبة. وفي هذا السياق من المؤكد أننا لا نبتعد عن الحقيقة حين نلاحظ كيف أن فيلسوفين أوروبيين، على الأقل، عرفا كيف "يعودان" بقوة منذ بدايات القرن والألفية الجديدين: نيتشه نفسه وسلفه الكبير الهولندي باروك سبينوزا. ولئن كان سبينوزا قد عرفت أفكاره كيف تخلصه باكراً من التعصب اليهودي الذي لم يكن على أية حال من شيمه، فأدى ذلك إلى طرد اليهود أنفسهم له من أحضان طائفتهم والحكم عليه بـ"الإعدام" المعنوي، فإن نيتشه اضطر للانتظار طويلاً قبل أن يتخلص من جرثومة النازية التي ألصقتها به أخته.
الأجوبة الشافية بقلمه
غير أن الواقع كان ينبغي أن ينقذه منها قبل ذلك بزمن. بل لعل القراءة الدقيقة لكتاباته نفسها كان من شأنها أن تكشف ذلك: وعلى الأقل تكشف أمرين متضافرين ويؤدي أحدهما إلى الآخر بالتأكيد، أولهما وقوفه العنيد ضد نزعة تأليه الذات التي تسود لدى "العرق الجرماني" والتي كانت أحد الأسلحة التي سيستخدمها هتلر لتجميع تلك الأمة البائسة من حوله في حراك لم يكن يعرف أنه سوف يقودها إلى الجحيم، وثانيهما إيمانه العميق والنهائي بالحياة الأوروبية المشتركة، وبأن لا مستقبل للعقل والأنوار من دون التمسك بالنزعة الأوروبية، إيمان سبق بنصف قرن على الأقل ولادة الفكرة الأوروبية لدى "رواد" كجاك مونو وروبير شومان بعد سنوات من الحرب العالمية الثانية، وأتى لدى نيتشه متناقضاً مع "أوروبية كاريكاتورية" هتلرية ستقوم على احتلال القارة واستعباد شعوبها كمقدمة لتخليص العالم من أبناء "العروق الأدنى" بتحويلهم عبيداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فرص أوروبا الضائعة
ولئن كان من المستحيل في هذه العجالة العودة، من خلال كتابات نيتشه إلى تلك النصوص الواضحة والعظيمة التي تكشف عن عميق تطوره منذ كتب، مثلاً، في واحد من كتبه الأولى "ولادة التراجيديا" (1872) معبراً عن حلمه بولادة ثقافة ألمانية تحمل تميزها في ذاتها، حتى اللحظة التي كتب فيها في "هوذا الإنسان" (1888) – الفقرة الثانية من نص "حالة فاغنر"، معتبراً ألمانيا عدوة لأوروبا، ولا سامية وأدت بحروبها المتواصلة "المسماة حروب الاستقلال"، لا سيما منها ما جابهت به نزعة نابوليون التوحيدية الأوروبية، أدت إلى أن تضيع على القارة، كما على الإنسانية فرصاً كبيرة "ضيعت بصورة خاصة المعنى المدهش الذي اتسم به وجود نابوليون نفسه"، بالتالي فإنها تتحمل وزر كل الذي حدث وما يحدث اليوم، وبالتحديد هذا المرض وهذا العبث الذي يعاش، ويمكن اعتباره أكثر أعداء الحضارة: النزعة القومية، هذا العصاب القومجي الذي هو مرض أوروبا الحقيقي القائم على ممارسة صغائر السياسة.
"العرق" الأوروبي المتعدد
في مقابل تلك النزعة، إذن، يدعو نيتشه إلى نزعة كوزموبوليتية أوروبية تقود القارة إلى نوع من وحدة "ثقافية"، هي وحدها القادرة على دمج المواطنين الأوروبيين جميعاً مهما كانت أصولهم ونوازعهم. وكان ذلك هذه المرة في كتاب سابق له هو "إنساني، مفرط في إنسانيته" (1878)، حيث يقول في الفقرة 475، إن أوروبا التي يتطلع إليها هي تلك التي يسهم كل مواطن في بنائها، لا سيما بناء ثقافتها، بما في ذلك الألمان الذي يعرفون بكونهم خير من يترجم وخير من يخطط ومن يقف وسيطاً بين الباقين، واليهود الذين "لفرط ما عانوا واضطُهدوا تعلموا عديداً من المهن المدينية بحيث يستفاد من شطارتهم هذه ضمن إطار قارة واحدة، ما يمكنه حل مشكلاتهم التي تبدو مستعصية". ولعل السؤال المنطقي هنا: هل حقاً قرأ هتلر ونازيوه هذا الكلام قبل أن "يضموا" نيتشه إلى صفوفهم ويحتفلوا به؟ وهل تبين لهم مثلاً أن نيتشه قرأ ماركس أكثر كثيراً مما قرأ فيخته وغيره من مؤسسي الفكر العنصري الجرماني؟