قد لا يتنبه أحد من القراء العابرين لكتابات الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، أن واحداً من كتبه الشهيرة وهو "إرادة القوة" الذي لم تصدر طبعته الأولى إلا بعد شهور من رحيل الفيلسوف، قد صدر منذ ذلك الحين وطوال عقود طويلة من السنين في نحو نصف دزينة من الطبعات، ولكن في كل مرة بشكل مختلف وعدد صفحات مختلف وبالتالي بعدد فقرات يتنوع بتنوع الطبعات، فمرة نراه يتألف من 483 فقرة (الطبعة الأولى عام 1901 بعد عام من رحيل نيتشه) ومرة ثانية من 1067 فقرة (1906) ثم 696 فقرة (1917)، وهكذا حتى وصل عدد الفقرات إلى 2397 فقرة في الترجمة الفرنسية التي أصدرتها منشورات غاليمار الفرنسية عام 1935.
غير أن مسؤولية هذا التفاوت لا تقع على مؤلف الكتاب نفسه، فهو لم ينجز تنسيق الكتاب ولا أعده للنشر فيما كان غارقاً في مرضه و"جنونه" خلال السنوات التي سبقت موته، وبالتالي تولت المهمة أخته أليزابيت نيتشة - فورستر التي كانت قد استولت على إرثه ومخطوطاته حتى من قبل رحيله، وكانت النتيحة أن عبثت بالنص ما طاب لها الهوى، بل حتى في اتجاهين، أحدهما "ينفخ" الكتاب كي يدر عليها أرباحاً وهي التي كان الربح المادي ما تريد، وليس فقط من أجل مصلحتها الشخصية كما سوف نرى بعد قليل، والثاني في اتجاه تحويل فكر أخيها الراحل إلى فكر نازي معاد للسامية وهي التي تبنت طوال حياتها ذينك المعتقدين.
سرقات مفضوحة
بالنسبة إلى "نفخ" الكتاب سيبدو الأمر مضحكاً حين سيثبت عدد من الباحثين لاحقاً وعلى رأسهم الإيطالي ماتزينو مونتيناري (1928 – 11986) الذي أمضى جل سنوات عمره وهو يعيد إلى فردريك ما شوهته أخته أليزابيت، مثبتاً أولاً أن الفيلسوف كان قد تخلى عن مشروع "إرادة القوة" طواعية قبل سنوات من موته، إذ رأى ألا جدوى منه، وثانياً أن ثمة استعارات كثيرة ترد في فقرات كاملة من كتّاب كثر بينهم تولستوي والفرنسي لويس جاكوليت، لا علاقة لنيتشه بها بل أقحمتها الأخت عن تعمد أيديولوجي في اتجاه إضفاء طابع نازي على كتابات نيتشه الأخيرة، ففي نهاية الأمر كانت إليزابيت عضوة نشطة ومنذ زمن مبكر في حزب سبق النازية بأشواط قبل أن ينضم إليها مع سيطرة هتلر على اليمين النازي المتطرف، وهو حزب "الشعب الألماني الوطني" DNVP. وكان نيتشه يمقت ذلك الانتماء، تشهد على ذلك رسالة بعث بها فريدريك إلى أمه يعبر فيها عن اشمئزازه من "لا- سامية إليزابيت"، وكان ذلك الموقف سبباً رئيساً في القطيعة التي قامت بين الشقيقين وتواصلت حتى تزوجت هي من المناضل اليميني المتطرف برنهارد فورستر الذي هاجرت معه إلى باراغواي حيث أقاما مع رفاق لهما "كوميونة" متطرفة سموها "جرمانيا الجديدة" هدفها بعث الفكر الآري الجرماني في أميركا اللاتينية.
يوم غارت من سالومي
ولسوف يقال لاحقاً إن إليزابيت وزواجها وقطيعتها مع شقيقها نتجا عن غيرتها من ليو – أندرياس سالومي واحتجاجها على التأثير الذي مارسته هذه وزوجها بول ري على نيتشه بأفكارهما التقدمية الإنسانية، لكن المشروع الذي أقامه الزوجان في الباراغواي لم يتمكن من اجتذاب مستثمرين أيديولوجيين مما أدى إلى انتحار فورستر، فباعت أليزابيت ما امتلكه هناك عائدة إلى ألمانيا لتعتني بأخيها وتواصل نشاطها حتى موتها عام 1935، حيث دفنت في احتفال صاخب حضره هتلر بنفسه، وهو الذي كان يعرفها جيداً وراضياً عما فعلته بسمعة "فيلسوف النازية الكبير" من تشويه واستغلال، إلى درجة أنه لم يتوان عن وضع نسخة من كتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" في تابوت المارشال هندنبرغ يوم دفن هذا الأخير، متأثراً بالصورة التي رسمتها إليزابيت لأخيها، ونعرف أن هذه حين عادت من باراغواي في آخر العام 1893 أرملة ولكن متمسكة بفكرها المتطرف أكثر من أي وقت مضى، تناست تماماً ما كان أخوها يصفها به من أنها "أوزة معادية للسامية" كتب عنها يقول "إن أشخاصاً مثل أختي هم من دون مراء أعداء لأسلوبي في التفكير، وخصوم لفلسفتي لا يمكن التصالح معهم بأي حال من الأحوال".
أخت حمقاء
غير أن آراء مثل هذه ما كان أبداً من شأنها أن تثبط من عزيمة تلك السيدة، فمن ناحية كان تدهور عقلي واضح قد بدأ ينهش في أخيها يجعله غير قادر تماماً على التنبه إلى ما يدور من حوله، ومن ناحية ثانية كانت تعرف أن ثمة الآن بين يديها كنزاً يمكنها استغلاله والنهل منه، لتعيش طبعاً، ولكن لتخدم "القضايا" التي تدافع عنها وتواصل من خلال الإنفاق عليها ما كان زوجها قد أفنى حياته في سبيله: قضية الآريين وقد بدأت تقوى في تلك السنوات بالذات. ومن ههنا انكبابها خلال السنوات الأخيرة من حياة فردريك على إقامة الدعاوى القضائية ضد كل الناشرين الذين كانوا قد بدأوا يكثرون من نشر كتب نيتشه كي تتولى هي وحدها احتكار نشر الأعمال الكاملة بمساعدة عدد من تلامذة نيتشه ومساعديه، وعلى رأسهم بيتر غاست الذي سيقول الباحثون والمؤرخون لاحقاً إنه كان هو من يقوم بالعمل الفكري الرئيس بالنظر إلى أن إليزابيت التي لم تكن في شبابها تخفي استخفافها بكتابات أخيها على الرغم من تبجيلها له، والذي يصل إلى حد العبادة التي كان هو يرفضها معتبراً أخته "فتاة حمقاء"، كما يؤكد الباحث الفرنسي دوريان آستور الذي أشرف قبل سنوات من الآن على إصدر "قاموس نيتشه" في فرنسا.
ولكن مقابل قيام غاست بالجانب الفكري – العلمي من العمل، كانت إليزابيت تنشط إدارياً وأيديولوجياً وفي جمع المال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عصا نيتشه للفوهرر
ومن هنا حين اكتملت لديها مئات الصفحات التي كونتها من حول مشروع "إرادة القوة" الذي كان نيتشه قد تخلى عنه، انصرفت تحت إشراف غاست، ومن دون أن تهتم حتى باستشارة الأخ الذي كان قد بات عاجزاً عن اتخاذ أي قرار في ذلك الصدد لمرضه، انصرفت إلى العثور على فقرات "إضافية" تجمعها من هنا وهناك في سياق النص نفسه، إلى درجة أنها سرعان ما حولته إلى كتاب يكاد يكون نازياً في صفحات عدة منه، وأصدرته ما إن رحل نيتشه في شهر أغسطس (آب) من العام 1900 مستفيدة من الضجة التي أحدثها رحيله، مركزة دعاية جعلتها سبيل الكتاب إلى السوق لكونه "آخر ما كتب فردريك نيتشه في سنواته الأخيرة".
وهكذا ولدت من رحم دهاء تلك الشقيقة التي لم تتورع عن شيء، سمعة جعلت من نيتشه "مفكراً نازياً" لا يشق له غبار، ولسوف يزيد من حدة هذه السمعة تقرب إليزابيت لاحقاً من هتلر وزيارة قام بها هو إلى بيتها أحيطت بدعاية واسعة، وقامت خلالها بإهداء الفوهرر عصا كانت من مقتنيات الأخ الراحل وتعتبر كنزاً قومياً.
ومن الواضح أن ذلك كله يمكن أن يكون إضافة لفوائده المادية والعقائدية الجمة التي حققتها إليزابيت فورستر نيتشه من مرض أخيها وموته وضمه إلى الصفوف النازية، نوعاً من الثأر منه هو الذي، رغم حبها الكبير له، كان يحتقرها ويعتبرها بلهاء، وذلك منذ زمن مبكر حين حدثت القطيعة بينه وبين الحلقة الجرمانية المحيطة بالموسيقي فاغنر جراء اكتشاف نيتشه أن جرمانية فاغنر وبحثه عن تفوق الأساطير الآريانية في أوبراته وموسيقاها، لا تتلاءم على الإطلاق مع نزعة أوروبية كانت بدأت تتكون لديه.
وعلى ذلك النحو يومها وقفت إليزابيت في صف فاغنر وجماعته على الضد من موقف أخيها محاولة جذب انتباهه إليها، لكنه وكما يبدو لم يبال بها وبفكرها مكتفياً بالحنو الأخوي عليها، غير مشرك إياها لا في أفكاره ولا في تبعات تلك الأفكار، ولكن من دون أن يدري أن يوماً سيأتي ستقوم فيه هي بتشويه تلك الأفكار وبالمتاجرة بها.