وباء كورونا في ذروة عدوانه في ألمانيا، ومع ذلك قررت السلطات السماح لمهرجان برلين السينمائي الذي يحمل الرقم 72 أن يقدم دورة جديدة من 10 إلى 20 من الشهر الحالي. نحو مليونين ونصف المليون شخص أصيبوا بالفيروس في الأسبوعين الأخيرين، وعلى الرغم من هذه الأرقام المخيفة، تستعد العاصمة الألمانية لاحتضان أكبر حدث ثقافي وفني يجري في البلاد. وبعد دورة العام الماضي التي أقيمت افتراضياً، رأت إدارة الـ"برليناله" (تسمية المهرجان وفق اللفظ الألماني) أن أوان التعايش مع الوباء حان، وعدم السماح له يعكر صفو الاحتفالية السينمائية التي تستقطب كل عام عدداً كبيراً من المشاهدين (أكثر من 400 ألف مشاهد) بخلاف مهرجاني كان والبندقية.
إذاً، انطلق المهرجان مساء أمس حضورياً، علماً بأن سوق الأفلام انتقلت إلى الفضاء الافتراضي. كُثر من الذين كانوا ينتظرون مشاهدة أفلام، وهم في دفء سريرهم، مراهنين على تراجع المهرجان في اللحظة الأخيرة عن إجراء دورة حضورية، أصيبوا بالخيبة. تجربة العام الماضي اليتيمة يبدو أنها لن تتكرر. أما لماذا لم يتم اللجوء إلى صيغة تجمع بين الحضوري والافتراضي؟ فالجواب هو أن أي عرض لأفلام على موقع المهرجان يحتاج إلى تصاريح خاصة، والحصول على حقوق بث، وهذه عملية تتطلب وقتاً. في أي حال، صرحت الإدارة أن أي عرض افتراضي لأفلام المهرجان، كما في الدورة الماضية، لم يكن ممكناً، ذلك أن "الوضع كان مختلفاً العام الماضي في ظل إقفال الصالات والإغلاق الذي ألقى بظلاله على كل فئات المجتمع".
خمسون في المئة
يعود المهرجان إلى أرض الواقع ليفتح صالاته أمام المشاهدين بقدرة استيعابية لا تتجاوز حدود الخمسين في المئة، لكن هذا لا يعني أن الدورة ستقام في ظروف طبيعية، كما لو أن الدنيا بألف خير، بل العكس هو الذي سيحدث في الأيام المقبلة. فبدايةً، قررت الإدارة حصر المهرجان للمحترفين في سبعة أيام فقط بدلاً من 11 يوماً كما جرت العادة. من اليوم، وحتى السادس عشر من الجاري، سيتسنى للوسط السينمائي اكتشاف أحدث الأفلام من عروض عالمية أولى تأتي من كل أنحاء العالم، في حين ستكون عروض الأيام الأربعة الأخيرة (من 17 إلى 20) من نصيب الجمهور. أما الإجراءات الصحية فقاسية ولا تشبه أياً من التدابير الاحترازية التي فرضها أي من المهرجانات السينمائية سابقاً. فعلى كل رواد المهرجان أن يلتزموا بثلاثة شروط تتيح لهم المشاركة فيه: أن يكونوا قد تلقوا جرعتين من أي لقاح معترف به أوروبياً، وأن يرتدوا الكمامات طوال فترة وجودهم داخل الصالات والمقرات والمراكز التابعة للمهرجان، وأن يجروا فحص "بي سي آر" كل 24 ساعة. الشرط الأخير أغاظ كثيراً أهل السينما، وخصوصاً النقاد والصحافيين. فعملية الخضوع لفحص كهذا تعتبر مضيعة وقت كبيرة، خصوصاً أن الذين تلقوا 3 جرعات من اللقاح لم يتم إعفاؤهم من هذا الإجراء الذي اعتبر كثيرون أن فيه مبالغة، فحضور العروض الجماهيرية لا يتطلب أي فحص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصحافيون الذين يغطون هذا النوع من النشاطات الثقافية، حيث تتسارع وتيرة الأشياء، لا يملكون رفاهية الوقت، فهم على الدوام يركضون من عرض إلى مقابلة، وبين هذا وتلك يجدون بالكاد حيزاً زمنياً لإرسال موادهم إلى الصحف التي يراسلونها. لذلك، فإن إجراء فحص "بي سي آر" يومي هو عبء إضافي عليهم. هذه السياسة الصحية الصارمة جعلت الكثير من الذين كانوا يستعدون للعودة إلى برلين بعد عامين على ظهور الوباء، يلغون سفرهم إلى برلين لتغطية مهرجانه المنتظر، وبعضهم تكبد بعض الخسائر نتيجة الإلغاء. هناك أيضاً من تساءل عما سيحدث إذا جاءت نتيجة الـ"بي سي آر" إيجابية مثلاً، فتبين أن بعض الفنادق في برلين يُرغم الضيف على مغادرة الفندق في حال كان مصاباً. واقترح البعض الآخر شراء بوليصة تأمين تغطي نفقات الحجر الصحي في حال الإصابة، في حين دعا الصحافي الإيطالي ماركو كونسولي إلى تأسيس صندوق دعم، لمد العون إلى كل الذين قد يقعون في وضع مماثل في برلين بعد إصابتهم.
نتيجة هذه العراقيل، وصل عدد الصحافيين الذين سيغطون المهرجان إلى 1670 مقابل 3500 لدورة عام 2019، علماً بأن هذا الرقم يشمل عدد الصحافيين الذين حصلوا على الاعتماد، لا الذين سافروا فعلاً إلى برلين لحضور المهرجان. ومن المتوقع أن يعود الرقم وينخفض قليلاً.
قوانين صارمة
مهما يكن، يبقى خيار التمسك بدورة حضورية خطوة شجاعة في ظل هذه الظروف المعاسكة التي تهيمن على الثقافة منذ سنتين، خصوصاً في دولة ذات تقاليد صارمة ومتشددة في تطبيق القوانين والحرص على سلامة المواطن. في المقابل، وجه الكثير من الانتقادات إلى المهرجان في الإعلام الألماني. صحيفة "برلينر مورغنبوست" حذرت من حدوث "كارثة" إذا ما تحول المهرجان إلى حدث لنشر الوباء، في حين كتبت "داي تسايت" أن عدم اقتراح برنامج أونلاين خطوة رجعية وغير مسؤولة.
من المفيد التذكير في هذا السياق بأن اثنين من أهم المهرجانات السينمائية الدولية، "سندانس" الأميركي، و"روتردام" الهولندي، ألغيا دورتيهما في مطلع هذا العام بسبب الوباء، في حين مهرجان كليرمون فيران الفرنسي للفيلم القصير قرر إقامة دورة حضورية غير آخذ في الاعتبار إعداد المصابين المتزايدة في فرنسا. وها هو ذا مهرجان برلين يحذو حذو المهرجان الفرنسي العريق، مبرراً قراره هذا بفكرة أن الثقافة السينمائية هي الرابحة الأكبر من فعل المشاركة، بعيداً من الفردانية التي تتجسد في المشاهدة المنزلية. وهذا الخيار هو أيضاً رغبة السينمائيين أنفسهم. فالسينما تسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية بين الناس، تلك الروابط التي كاد الوباء يقضي عليها.
يترأس لجنة تحكيم المسابقة هذا العام المخرج الأميركي من أصل هندي أم نايت شيامالان (51 عاماً)، صاحب فيلم "الحاسة السادسة" الشهير، وهو سينمائي يتعذر تصنيفه، في سجله الذي يضم 14 فيلماً روائياً طويلاً، الغث والسمين، ولا يمكن بالتالي توقع ما هي الأفلام التي ستعجبه. أما أعضاء لجنته، فهم: المخرج البرازيلي من أصل جزائري كريم عينوز، والمنتج الفرنسي من أصل تونسي سعيد بن سعيد، والمخرجة الألمانية الجزائرية آن زهرة براشد، والمخرجة الزيمبابوية تسيتسي دانغارمبغا، والممثلة الأميركية كوني نيلسن، وأخيراً وليس آخراً المخرج الياباني روسوكي هاماغوتشي الذي قدم فيلمين مهمين العام الماضي هما "عجلة الحظ"، و"الفانتازيا" الذي كان قد فاز عنه بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في برلين، وفي العام نفسه شارك في مهرجان كان مع "سوقي سيارتي"، حيث فاز بجائزة السيناريو.
افتتح المهرجان بـ"بيتر فون كانت" للمخرج الفرنسي الكبير فرنسوا أوزون، وهو نسخة "رجالية" إذا صح التعبير، من فيلم "دموع بترا فون كانت المرة" (1972) للمخرج الألماني الراحل راينر فرنر فاسبيندر. الفيلم تمثيل دوني مونوشيه، إيزابيل أدجاني، وهنا شيغولا التي كانت لعبت في فيلم "فاسبيندر". أما الأفلام المتسابقة على جائزة "الدب الذهبي" وغيرها من الجوائز في المسابقة التي ستمنح في 16 الجاري، فعددها 18، سبعة منها تحمل توقيعات نساء، في حين أن مجموع الأفلام المعروضة يصل إلى 250، أي أقل بقليل من السنوات الماضية.