فجأة تظهر ابتسامة رضا وفخر عريضة على وجه المذيع، ويقول بكل ثقة: "معنا مداخلة حصرية من سير مجدي يعقوب. أنا فخور جداً. هذه بالنسبة لي ثالث مرة أكلّم حضرتك فيها. حضرتك أب لكل الشباب. أنت داعم دائماً للشباب". فيرد سير مجدي "أنا اللي سعيد بكم. ناس محترمون وتشرفوا البلد".
تتدخل المذيعة لينالها حظ الحديث مع "سير مجدي". تقول وابتسامة زهو على وجهها رداً على مجاملة "سير مجدي" الرقيقة وإشادته بهما: "سير مجدي منور. وبجد لنا الشرف إن أول مداخلة هاتفية في البرنامج تكون مع حضرتك. وعلشان مانطولش عليك لي سؤال".
السير والريس
وسألته المذيعة سؤالاً طويلاً عريضاً حول رأيه في المبادرات "اللي بتعملها البلد علشان الغلابة"، وكلمة يوجهها إلى الأطباء الذين لا يشعرون بمتاعب الناس، ولو حتى بتقليل ثمن الكشف. هنا يدلي "سير مجدي" بدلوه فيقول ما قل ودل: "الريس بيحس بشعبه. والشعب أساساً يعلم أن الريس بيحبه. وهو بيحب الريس، وهو حاسس بالفئة الكادحة، والدكاترة الذين لا يساهمون لرفع المعاناة عن الشعب زي ما الريس بيعمل أقول إن كلنا واحد وكلنا عايشين في بلد واحد".
هذا البلد الواحد لم يتحمّل من ساقه حظه العاثر فيه أن يتابع تفاصيل المداخلة الهاتفية العجيبة الغريبة المريبة، حيث لا الصوت صوت "السير"، ولا مخارج الألفاظ، ولا المفردات نفسها مفرداته، ولا "السير" من عادته أن يجري مداخلات هاتفية في برامج تلفزيونية، لا سيما المغمورة المذاعة على قنوات اكتسبت سمعة عدم الدقة والاعتماد على القيل والقال، واعتبار الترند هدفاً والإثارة غاية والمحتوى والعدم سواء.
نبرة مختلفة
ولأن "سير مجدي يعقوب" جراح القلب العالمي المصري الشهير أشهر من نار على علم، ولصوته نبرة متميزة، ولمخارج ألفاظه طريقة متفردة، ولأن الكلمات القليلة التي ينطق فيها في إعلانات مراكز القلب التي يقوم عليها لعلاج أمراض قلب الأطفال بالمجان لغير القادرين يحفظها الجميع عن ظهر قلب، فقد انتفض كثيرون مغردين ومدونين ومبلغين كل من يهمه الأمر عن المداخلة التي وصفوها بالمفبركة والبرنامج الذي نعته البعض بـ"الفضيحة"، والمذيعين المشاركين حتماً في هذه المهزلة.
لكن، المهزلة صارت مصيبة حين جرى التنقيب عن المذيع والبحث في أصله المهني وفصله التاريخي في مجال العمل التلفزيوني، فاتضح أنه سبق وكان طرفاً في تلقي مداخلات وهمية من أشخاص يدعون بالتنسيق مع قناة أخرى كان يعمل فيها أنهم شخصيات عامة شهيرة.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
وعلى الرغم من أن المستشار القانوني للقناة محمود العسال، مسرح المداخلة المفبركة، قال إن التحقيقات الداخلية أثبتت أن الواقعة ليست الأولى في مسيرة المذيع الشاب، وإنه قام بفعلة مشابهة في قناة أخرى كان يعمل فيها، إلا أن البعض رجح أن تكون تلك محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قبل القناة، والخروج من الفضيحة بأقل أضرار ممكنة.
وقال العسال، إنه تقرر إيقاف البرنامج، ومنع ظهور المذيعين بطلي الواقعة، وإيقاف كل المخرجين والمعدين، وإحالتهم على التحقيق.
لكن التضحية بكل من وما سبق لم توقف طوفان الغضب والسخرية، وهو الطوفان الذي أصبح القشة التي قصمت ظهر الجماهير العريضة غير الراضية عن المشهد الإعلامي منذ سنوات.
سنوات هيمنة الـ"توك شو" على عقول ملايين المصريين ووقتهم وإرادتهم أفضت إلى مرحلة جديدة هذه الأيام. فقبل ما يزيد على عقدين، تفجّرت برامج الـ "توك شو" لتتحوّل من ظاهرة إلى أسلوب حياة، ومنصة تعبير، وحزب سياسي، وجماعة خير، وزاوية مسجد، ومقهى تنكيت.
على مدار سنوات، أصبحت برامج الـ "توك شو" التلفزيونية المصرية، لا سيما المسائية أقرب ما تكون إلى صمام أمان لـ "فش الخلق"، والتنفيس عن الضغوط، وأداة من أدوات التغيير السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو كل ما سبق مجتمعاً.
حتمية التغيير
اجتماع المصريين على حتمية التغيير المتبلور في أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 أدى إلى مرحلة جديدة من مراحل الـ "توك شو" التي يعتبرها كثيرون إحدى الأدوات الفاعلة في أحداث ما يسمّى بـ "الربيع العربي" في نسخته المصرية. ظاهرة الـ "توك شو" كانت أداة من أدوات التغيير، سواء المقصود أو غير المقصود، عبر التوعية والتهيئة والتعبئة.
لكن، سنوات التمهيد للتغيير، وبعدها سنوات ما بدا أنه تغيير، وما تلاها من سنوات ما بعد التغيير، ثم سنوات إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما بدا أنه تغيير، نجم عنها سنوات حالية من إغراق في مشهد إعلامي تلفزيوني يشوبه الكثير والكثير من المشكلات بعضها إرث قديم، والبعض الآخر تخبط حديث.
حداثة التدليس
الحداثة هي آخر ما يمكن أن تُنعَت بها فبركة المداخلات وتزييف المصادر وادعاء الظواهر الغريبة والكذب والتدليس في المحتوى الإعلامي بشكل عام. فكم من قضايا إعلامية انكشف عنها ستار التدليس أو الكذب أو ادعاء مصادر مزيفة في أكبر المؤسسات الإعلامية، مثل "بي بي سي" و"نيويورك تايمز" و"دير شبيغل" وغيرها. لكن تبقى الفروق واضحة في طريقة التعامل مع التزييف ووجود قواعد ضوابط وتوازنات رقابية على الأداء الإعلامي من دون الإخلال بحرية الصحافة وكذلك مصداقيتها وصدقها وشفافيتها.
شفافية العديد من البرامج التلفزيونية بات حديث المصريين. المكالمة المفبركة ببدائية والكذب المخطط بسذاجة لـ "سير مجدي يعقوب" فتحت باب الغضب، لكنها لم تبتدعه. ومع باب الغضب الجماهيري المفتوح، ظهرت مواقف مفضوحة ومعها وعي شعبي متنام واضح المعالم.
المعالم كثيرة. فقط تحتاج إلى رصد وتحليل. الإعلامي المصري شريف عامر غرّد تعليقاً على واقعة فبركة مكالمة "سير مجدي يعقوب" بأربع كلمات مصحوبة بفيديو للفضيحة المفبركة: "إلى من يهمه الأمر".
إلى من يهمه الأمر
من يهمهم الأمر كثيرون. لكن من يتابعون الأمر كثيرون أيضاً، ومنهم من ذكر موقفاً مشابهاً كان عامر نفسه طرفاً فيه. فقبل أسبوع واحد بالتمام والكمال كانت جهات التحقيق تستمع لأقواله عما ورد في برنامجه قبل أسابيع عن "المحلل الشرعي" الذي استضافه، ليتحدث عن زواجه بـ 33 امرأة مطلقة حتى يتم ردهن مجدداً لأزواجهن، الذي اتضح في ما بعد أن المحلل مفبرك والزيجات مفبركة والمسألة برمتها كذبة كبرى من ألفها إلى يائها.
وكانت النيابة العامة قد تلقت بلاغاً في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عقب ظهور "المحلل" على شاشة التلفزيون مع عامر الذي حاوره عن "مهنته" المثيرة، التي انعكست بقدر أوفر من الإثارة والسخونة والمشاهدة والمتابعة والـ "لايك" والـ "شير" وأصبحت ترنداً زاعقاً على منصات التواصل الاجتماعي عما جرى في الحلقة، وأن محتواها يعرّض قيم الأسرة للخطر، ويهدد السلام الاجتماعي، ويعمل على إشاعة الفجور في المجتمع.
المجتمع المتعجب
المجتمع الضارب كفاً بكف تابع مفاجآت وتوابع فقرة المحلل الشرعي مع الإعلامي شريف عامر فوجئ بأن المحلل اتهم مسؤول إعداد البرنامج بأنه اتفق معه على الكذب، وادعاء حكايات الزواج بالمطلقات، لتحليل إعادتهم إلى عصمة أزواجهن، واعداً إياه بأن يكون نجماً لامعاً بمجرد ظهوره التلفزيوني، وهو ما نفاه مسؤول الإعداد، وتستمر القضية بين نفي هذا وتأكيد ذاك.
وبين نفي الاتفاق على الكذب وتأكيده، تتوالى ذكريات الفبركة القريبة على ذاكرة المصريين. الإعلامية المثيرة للجدل ريهام سعيد لها سجل حافل من اتهامات الفبركة، ثم الإيقاف عن العمل، ثم العودة، ثم الفبركة فالإيقاف وهلم جرا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قائمة الحلقات التي احتوت على قيل وقال واتهام بالفبركة ونفي ثم إثبات أو تبرئة كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر فبركة ظاهرة جان يتمكن من أجساد فتيات ويتم إخراجه على الهواء مباشرة، وتقدم إحدى الفتيات "الملبوسات بالجان" بشكوى للقناة التلفزيونية بأنها لم تتقاض مكافأتها نظير ادعاء حكاية المس بالجان، واختراق خصوصية فتاة تعرضت للتحرش في مركز تجاري، حيث نشر صوراً خاصة لها أخذتها من هاتفها المحمول من دون استئذانها واستخدام الصور لتتهمها بأنها سيئة السلوك وتستحق التحرش، والاتفاق مع أشخاص على شراء أطفال وتصوير عملية البيع والشراء، ثم اتهام هؤلاء الأشخاص لها وطاقم إعدادها بتحريضهم على خطف الأطفال بغرض التصوير، وضرب ثعلب صغير انهمرت الدموع من عينيه، وهو قابع أسفل قدميها بعد نجاحها في صيده والسيطرة عليه بالضرب، وقولها للمشاهدين إن "الصيد البري متعة كبيرة"، والتنمر بالنساء البدينات في حلقة خصصتها للسمنة قالت فيها: "الناس التخينة (مملتئة القوام) ميتة، عبء على أهلها وعلى الدولة. الناس التخينة تشوه المنظر"، والقائمة طويلة.
القائمة طويلة
طول القائمة تواتر وتمدد وتوغل في السنوات القليلة الماضية. لكن القائمة نفسها ليست جديدة. عرف المصريون ما يعرف بالرشوة في مقابل الظهور الإعلامي لأطباء في البرامج. وصال كثيرون وجالوا حول الثقة التي فُقِدَت في المحتوى الإعلامي والمصداقية التي خدشت حول أطباء يدفعون المال في مقابل الظهور الإعلامي على أمل الترويج والدعاية لهم ولعياداتهم.
لكن الإعلام يتبدّل والساحات تتوسع والقنوات تزيد والأسس والقواعد ومعايير اختيار الإعلاميين ورسم سياسات القنوات وتحديد أهداف المحتوى الإعلامي أيضاً تتبدل وتتوسع وأحياناً تنقلب رأساً على عقب.
عقب انتشار فضيحة مكالمة "سير مجدي يعقوب" المفبركة والتأكد من التدليس وتبيان نية النصب والاحتيال، قررت هيئة المكتب في المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام إيقاف البرنامج، حيث جرت المداخلة، وإحالة المسؤولين في القناة على التحقيق، ومخاطبة نقابة الإعلاميين للتعامل مع الشق التأديبي الخاص بمقدمي البرنامج.
مقدمو البرامج
لكن مقدمي البرنامج، أي برنامج، صاروا في السنوات القليلة الماضية في حد ذاتهم ملفاً جديراً، لكن عصياً على الفتح والنقاش والمراجعة. معايير اختيار المذيعين معروفة. لكن ما تنضح به الشاشات يطيح بالمعروف. فمثلاً عدد من القنوات الخاصة المتخصصة في إذاعة أفلام عربية وأجنبية غير أصلية وذات جودة هزيلة وذلك بين وصلات تبدو أنها برامجية، لكنها في حقيقة الأمر إعلانية.
مذيع واحد لا ثاني له هو السمة المشتركة في هذه القنوات. فهو يستضيف شخصاً ما يقول إنه طبيب ليتحدثا عن منتج "طبي عشبي" قائم على الكركم في قناة هنا، ويمسك بقلم، ويخط خطوطاً ويكتب كلمات على لوح ورقي جميعها يدور حول المنتج العشبي ذاته في قناة أخرى، وفي ثالثة يعرض المنتج ويقرأ نشرته بإفاضة واستفاضة وذلك على مدار ساعات اليوم الـ 24.
نماذج كثيرة وشوائب عديدة تعكر صفو المشهد الإعلامي المصري، وتستدعي وقفات أو مراجعات أو كليهما من قبل اختصاصيين لا تقتصر معارفهم على قوانين الإعلام وقواعده وكتبه التي وضعها الأولون فقط، لكن تمتد إلى العصر الرقمي وكواليس الأبواب الخلفية والنوافذ غير الشرعية التي تتسلل منها المئات رأساً إلى الشاشات ومنها إلى بيوت المصريين والمصريات.
معايير الـ "توك شو"
قبل عامين، وضع المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام 21 معياراً لبرامج التوك شو. المعايير تراوحت بين تحديد مدة البرنامج وعدد الفواصل الإعلانية، وأن يكون القائمون عليه من مذيعين ومعدين أعضاء في نقابات إعلامية، وأن يكون رئيس التحرير مسؤولاً عما يرد في البرنامج، ويتأكد من المصداقية مع دعم الأخبار والمعلومات بتقارير مصورة، والتأكد من مهنة الضيف والتفرقة الواضحة والصريحة بين الإعلام والإعلان وغيرها.
لكن، واقع الحال لا يشي بالتزام كثير من هذه القواعد، بل يعكس العكس. في كليات الإعلام يدرس الطلاب والطالبات مادة "إعلام الأزمات"، لكن في واقع الحال يجدون أنفسهم منخرطين عقب التخرج في أزمات الإعلام أكثر من إعلام الأزمات.
ملكية القنوات التلفزيونية وسُبل اختيار الكوادر الإعلامية وأهداف البرامج التلفزيونية والعلاقة بين الرسالة والربح المادي وتحديد المسؤوليات وسن مواثيق العمل الإعلامي الأخلاقية والمهنية وظهور برامج فجأة واختفاؤها فجأة أيضاً وبزوغ نجم مذيعين ثم انطفاؤه وانزواؤه لحين إشعار آخر وغيرها من القواعد الحاكمة والمنظمة للمشهد الإعلامي التلفزيوني المصري تنتظر من يناقشها وينظمها ويشهرها ويعلن عنها.
الإعلان والإشهار حالياً يقتصران على الإعلان عن الفضائح، وإشهار الأزمات التي تفلت من محاولات التكتيم وجهود التعتيم. وفي كل مرة يتعرض فيه المشهد لهزة عنيفة كهزة مكالمة "سير مجدي يعقوب" تتصاعد المطالبات بالتنظيم ودعوات التنقيح وحتميات المراجعة. لكن في كل مرة، يثبت الزمن بأنه قادر على تضميد الجروح وتخفيف الغضب وتأجيل المطالبات وتسويف الدعوات للأزمة المقبلة.