تشن السلطات في إقليم كردستان العراق حملة غير مسبوقة لغلق العديد من النوادي والملاهي الليلية ومراكز التدليك والمشتبه في ممارستها أعمالاً "مخلة" كالدعارة، وسط ترحيب واسع على الصعيد الشعبي ومن المؤسسات الدينية.
وانتشرت ظاهرة النوادي الليلية والحانات في مراكز المدن الكردية الرئيسة في أعقاب النمو الاقتصادي والخدمي والاستقرار الأمني اللافت الذي شهده الإقليم، في أعقاب سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، ما خلق بيئة مناسبة لاستقطاب المستثمرين المحليين والأجانب، فيما كانت المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الاتحادية تعاني توترات أمنية جراء الهجمات التي كانت تشنها جماعات متشددة كـ"القاعدة" وتنظيم "داعش"، بين عامَي 2005 و2017.
شروط وضوابط
وأعلن قائمقام قضاء أربيل نبز عبد الحميد، خلال مؤتمر صحافي عقده يوم الأربعاء 9 فبراير (شباط) الحالي، عن انطلاق "المرحلة الثانية لإغلاق النوادي الليلية والمطاعم ومراكز المساج (التدليك)، إذ تم أخيراً رصد نحو 16 مركزاً للمساج غير مرخصة، ولا توافي التعليمات والشروط والضوابط القانونية والصحية على مستوى النظافة والعاملين فيها، وفي بعضها تُرتكب أعمال الدعارة"، مبيناً أن "قرارات صدرت من أجل تنظيم عمل هذه النوادي، وهناك انخفاض ملحوظ في المشاكل التي كانت تشهدها منذ اليوم الأول لانطلاق الحملة".
وكان عبد الحميد أكد في وقت سابق أن هذه "الحملة ليست الأولى، لكنها أكثر شدة، بغية الحد من ظاهرة الدعارة التي تجد لها فسحة للانتشار في هذه الأماكن"، مبيناً أن "قطاع السياحة يُعد أحد القطاعات المهمة، والحكومة أولته اهتماماً خاصاً، وتسعى إلى جذب مزيد من السياح عبر الاهتمام بالمرافق والأماكن السياحية وتوسيعها". وحسب بيانات رسمية صادرة من هيئة السياحة، فإن عدد السياح في الإقليم بلغ معدلاً غير مسبوق خلال عام 2021 متجاوزاً أربعة ملايين سائح، بزيادة وصلت إلى 525 في المئة على مدى السنوات السبع الماضية.
إجراءات صارمة
وشهدت المرحلة الأولى غلق عشرات النوادي الليلية واعتقال 200 شخص، بينهم 77 امرأة، مع مصادرة كميات كبيرة من الحبوب المخدرة والأدوات المستخدَمة في تناول المواد المخدرة. واقتحمت قوتان أمنيتان أحد النوادي لتعتقل العشرات من مرتاديه بتهمة ممارسة أعمال "مخلة" وصادرت سيارات وأوراقاً نقدية. وذكرت وسائل إعلام محلية أن من بين المعتقلين فتيات شهيرات من اللواتي يُعرفن بـ"الموديل" ويروجن لأنشطتهن عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتقول الحكومة المحلية في أربيل إن الخطوة تهدف "لحماية المصلحة العامة، والحد من الظواهر السلبية المخلة بالآداب العامة ومراعاة الأعراف والتقاليد الاجتماعية". وأكدت أنها تواصل "الحملة بغية إعادة تنظيم الحفلات الليلية. وسيتم غلق الأماكن المخلة بالشروط والضوابط والتعليمات، وستُتخذ الإجراءات القانونية الصارمة بحق مالكيها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويُعد الإقليم وجهة سياحية للعراقيين القاطنين في مناطق الوسط والجنوب، لقربه الجغرافي وتميزه بمناظر طبيعية خلابة، ما يوفر للسائحين، خصوصاً ذوي الدخل المحدود، قضاء العطلات والمناسبات بطريقة تعوضهم عن بذل الوقت وعناء السفر وتكاليفه إلى الدول السياحية المحيطة، مثل تركيا ولبنان، حيث تنظم شركات سياحية محلية رحلات شبه يومية إلى المدن الكردية.
كما تشير التقديرات إلى أن نحو نصف مليون من العراقيين العرب يقيمون في الإقليم الذي يتجاوز عدد سكانه ستة ملايين نسمة، إما بإقامة شبه دائمة أو تلك المتعلقة بالعمل والأنشطة التجارية. وحسب بيانات الأنشطة العقارية فإن المواطنين العرب يستحوذون على أكثر من 70 في المئة من نسب شراء الدور والشقق السكنية.
مواجهة مسلحة
وشهدت محافظة السليمانية أيضاً إجراءات مماثلة، حسب عضو اللجنة العليا في قائمقامية مركز القضاء، ديار جمال، الذي أكد غلق عدد من النوادي الليلية، وصرح أن "بعض النوادي أو المطاعم كان لها حجرات خاصة تُمارس فيها الدعارة، وهذا يخالف القوانين والتعليمات، وبعض هذه الأماكن سبق أن ارتكبت مخالفات مماثلة ووقع أصحابها على تعهدات بعدم تكرارها، وأحيلوا على القضاء".
وبالتزامن مع إعداد هذا التقرير، أعلنت شرطة السليمانية أن "شخصاً أصيب في إطلاق نار عقب شجار في حفل ساهر يحييه كل ليلة مطرب شهير، وتم إلقاء القبض على مطلق النار ومصادرة سلاحه". وكشفت قائمقامية المحافظة عن أنها "كانت تلقت في السابق شكاوى عدة من أهالي المنازل المجاورة للحانة عن معاناتهم، وتم إخطار صاحبها رسمياً بمنع إقامة الحفلات الغنائية، وسيتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه".
حانات وسط الأحياء
وطالت الحملة بلدة عنكاوا، أربعة كيلومترات شمال مركز أربيل، حيث تنتشر عشرات الحانات والنوادي الليلية التي يقع العديد منها قرب الأحياء السكنية. وأكدت السلطات غلق أكثر من ثمانية نوادٍ وحانات، غالباً ما كانت محل شجب من سكان البلدة طيلة العقدين الماضيين.
وكانت رئاسة أساقفة "إيبارشية أربيل الكلدانية"، أكدت أنها طالبت منذ عام 2010، السلطات، بالحد من التزايد المضطرد للحانات والمراقص التي تجاوزت أعدادها الـ150، وتعمل وفق تراخيص رسمية، من دون أن تلقى "استجابة جدية". وذكرت رئاسة الأساقفة أن "فتح أكثر من 40 محلاً لبيع المشروبات الكحولية ومثلها من الفنادق والموتيلات و12 حانة وغيرها من قاعات الحفلات هو عدد مبالَغ به يفوق حاجة المنطقة بالمقارنة مع حجم بلدة صغيرة".
وعلى خلاف النوادي الليلة المنتشرة في أربيل ضمن مواقع تجارية محددة بعيدة نسبياً من المنازل، فإن المشهد في بلدة عنكاوا مختلف في ظل قرب وتداخل المواقع التجارية والسياحية مع الأحياء السكنية.
وقال أحد مواطني البلدة رفض نشر اسمه إن "أهالي عنكاوا منذ أكثر من عقد يعانون ظاهرة انتشار النوادي الليلية، التي حولت حياتهم إلى جحيم جراء الصخب وانتشار الغرباء والسكارى الذين يرتكبون تصرفات مخلة في الفضاء العام، في بلدة تشتهر بتاريخها الحضاري والثقافي".
ورأى في أسباب الظاهرة أن "أصحاب الحانات والنوادي الليلية المخالفة ربما لديهم مَن يسندهم من أصحاب النفوذ، وإلا ما صعوبة فرض القانون على مخالفات ما زالت مستمرة كل هذه السنوات على حساب سكانها المسالمين الذين وجهوا الدعوات المتكررة بكل السبل القانونية والإعلامية، ناهيك بالتظاهرة التي نظموها قبل خمس سنوات لوضع حد لهذه المعاناة ومقاضاة الفاسدين".
ترحيب وإشادة
ورحب المواطن العراقي وسام بطرس بالإجراءات الأخيرة قائلاً إن "هذه الخطوة تستحق الإشادة، وبدأنا نعيش بعضاً من مردودها. مع كل فجر كنت أستيقظ على صخب الغناء والرقص في أحد الفنادق القريبة من منزلنا، وكنا نفزع في كثير من الأحيان على أصوات شجار وإطلاق نار، كما كان مرتادو تلك الأماكن يركنون سياراتهم داخل الأحياء وأمام منزل السكان، نظراً إلى افتقار أغلب هذه الفنادق إلى موقف للسيارات". وأعرب بطرس عن أمله في أن "تواصل السلطات إجراءاتها وأن لا تكون مؤقتة كما حصل في السابق، وقد طالبنا مراراً بتخصيص مواقع خاصة لهذه النوادي والحانات بعيداً من المناطق السكنية".
ولاقت الخطوة ترحيباً وإشادة من "اتحاد علماء الدين" في الإقليم الذي أكد في بيان أن "حملة الاعتقالات طالت مجموعة كبيرة من المومسات، فضلاً عن غلق عدد من النوادي الليلية". موضحاً أن "انتشار هذه الأماكن يشكل خطورة كبيرة على المجتمع ويشوّه أسسه، ويؤدي إلى تحطيم حدود القيم الأخلاقية والأعراف والثقافة الكردية الأصيلة، لكون هذه الأفعال لا تنسجم مع أي قيم وتطور، كما تنافي شرائع الدين الإسلامي الحنيف"، داعياً "السلطات إلى مواصلة الحملة واتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه المخالفين".
ازدواجية في القرارات
وتعقيباً على الحملة، أكدت نائبة عن حزب "جماعة العدل" الإسلامية التي تتبنى منهج "أهل السنة والجماعة"، أنها من خلال متابعتها ظاهرة النوادي الليلية "يتبين أن العديد منها، خصوصاً في محافظتَي أربيل والسليمانية تواصل فتح أبوابها. ومن بين المرتادين أبناء المسؤولين، وقد تم استقدام عشرات الفتيات من الدول المجاورة". وقالت إن "هناك ازدواجية في القرارات، ففي حين يتم إلزام رجال الدين والمساجد بشتى القرارات، لكن لا نرى فرض إجراءات ضد هذه الحانات التي تبقي أبوابها مفتوحة لحرف شبابنا". وتساءلت عن دور المنظمات المعنية بحقوق المرأة قائلة، "أين دوركم، ألا ترون كيف تتم المتاجرة بأجساد النساء؟".
وللإقليم تجارب سابقة مع تلك الظاهرة، وسط مجتمع محافظ بغالبيته، وأشهرها في محافظة دهوك وقضاء زاخو عندما اندلعت في عام 2011 أعمال عنف وتحولت إلى أزمة حملت بين طياتها طابعاً سياسياً، عندما أقدم شبان بعد خروجهم من صلاة الجمعة وهم يكبرون على اقتحام وحرق محلات لبيع المشروبات الكحولية وحانات وفنادق سياحية وصالونات تجميل، وذلك استجابة لدعوة وجهها أحد رجال الدين، قبل أن يدخلوا في مواجهات مع قوات مكافحة الشغب ما أدى إلى إصابة 30 شخصاً، وقام شبان موالون للحزب "الديمقراطي الكردستاني" الحاكم بزعامة مسعود بارزاني، بحرق مكاتب تابعة لحزب "الاتحاد الإسلامي" الذي يتبنى نهج الإخوان المسلمين، متهمين إياه بالوقوف وراء الأحداث.