إنها قضية تاريخية أرهقتها الحجج وتناوبت عليها الأبحاث، فليس كل مسلم عربياً وليس كل عربي مسلماً، ومع ذلك فإن مساحة التداخل بين العروبة والإسلام كبيرة للمشترك الثقافي بينهما منذ فجر الإسلام وحتى اليوم، فهناك أمم قبلت الدين والثقافة معاً، فأصبحت عربية اللسان مسلمة الديانة، وهناك أخرى قبلت الجانب الروحي من الدين الجديد ولكنها بقيت على ثقافتها التاريخية ورأت ألا تقبل الثقافة العربية، على الرغم من أنها لغة القرآن وأداة الإسلام الحنيف للوصول إلى قلوب أتباعه، وأنا أكتب الآن في محاولة لإجلاء بعض الحقائق التي يجب أن تكون واضحة لكل من يتطرق لهذا الموضوع:
أولاً: إن هناك تصوراً وهمياً في الدول العربية يظن أنها قبلت الدين الإسلامي وثقافته العربية منذ بداية يوم الفتح، وهذا قول غير صحيح، فبالنسبة إلى الحالة المصرية على سبيل المثال، فإننا نكتشف أن مصر ظلت قبطية الديانة لا تتحدث العربية لما يقرب من قرنين بعد وصول الفاتح عمرو بن العاص إليها، وقاومت الغالبية المصرية الدين الجديد وظلت على مسيحيتها في الإطار القبطي للمصريين، وليس هناك اعتراف بعروبة مصر إلا ذلك الذي حدث بعد وصول الفاطميين إليها من شمال أفريقيا وهم يحملون فهماً خاصاً للدين الجديد مع اضطرابات في الحياة السياسية وحكم البلاد، عندما أسرف القادمون الجدد في أخذ "الجزية" وإثقال كاهل المصريين بالضرائب الجديدة على نحوٍ أدى إلى دخول غالبية مصرية إلى الدين الجديد الذي حملته اللغة العربية، ويوم أن قبلت الكنائس القبطية المصرية إقامة صلواتها باللغة العربية، كان ذلك هو التوقيت الذي نعتبره إيذاناً بعروبة مصر، بعد أن قبلت الغالبية الإسلام ديناً والعربية لغة ولساناً.
ثانياً: لقد استقبل الفرس الفتوحات العربية بمقاومة لا بأس بها، ولكنهم قبلوا الدين الجديد بالتدرج الذي بدأ من "دولة المناذرة" باعتبارها المساحة الفاصلة بين العرب والفرس قبل الإسلام، وتسلّل الدين الجديد إلى قلوب أبناء الأمة الفارسية ولكنهم لم يتحمسوا للعربية ولأبجديتها الصامدة بديلاً للغتهم الأم وثقافتهم الموروثة، والملاحظ هنا أنهم لم يقبلوا المذهب الشيعي إلا بعد قرون عدة مضت على الفتنة الكبرى، ولذلك فإن تشيّع العراقيين كان أسبق من تشيّع الإيرانيين بقرون عدة وهو ما يؤكد أهمية "حوزة النجف" وأقدميتها على "حوزة قم"، ولذا فإن الشيعة العرب يعتزّون بعروبتهم، تمييزاً لهم عن الفرس الذين اعتنقوا المذهب الشيعي بعد دخولهم الإسلام بفترة طويلة، ونحن ندرك دائماً أن القبول بالثقافة الجديدة أمر صعب يحتاج إلى فترات زمنية طويلة حتى تتغلغل تلك الثقافة في ضمير الوافدين إليها، فالجانب الروحي يتسلل بسرعة إلى الوجدان ولكن التركيبة الثقافية تحتاج إلى وقت أطول وظروف مختلفة.
ثالثاً: إن التلازم بين العروبة والإسلام في الدول التي قبلت الاثنين معاً يختلف عنه في الدول التي قبلت أحد الشطرين وتحفظت على الآخر، فالروم الأرثوذكس في الشام، خصوصاً في لبنان يرتبطون بشدة بالجانب الروحي المستمد من أجدادهم الغساسنة العرب، ولذلك كانت العلاقات الإسلامية المسيحية دائماً أكثر استقراراً في بلاد الشام عنها في بلاد أخرى مثل مصر. كما أن درجة التسامح المتبادل كانت أقوى منها في مناطق أخرى من العالم الإسلامي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رابعاً: إن الذين ينظرون إلى العالم بشيء من التعميم الجائر لا يدركون أن تأثيرات العامل الثقافي هي الأقوى وهي الأكثر من غيرها قدرة على تشكيل مظاهر الحياة ومناطق التصرف لأبناء الحضارات المختلفة والثقافات المتعددة، لذلك فإن التلازم بين الإسلام والعروبة لم يكُن حتمياً، بل باركته كثير من الأصوات والأقلام على امتداد ما يقرب من 15 قرناً.
خامساً: إن شيوع اللغة العربية بين أقطار الشرق الأوسط أعطى انطباعاً سيادياً للعرب على غيرهم من المسلمين الذين لا يتحدثون لغة القرآن، وأدى ذلك بالضرورة إلى درجة عالية من الربط بين الإسلام والعروبة، وأصبحنا أمام حالة من الشعور العام بأن الإسلام عربي المولد والنشأة، وأن فجره وضحاه وعصره مرتبطة كلها بالتاريخ العربي مهما كان صعوده وهبوطه، وليس ذلك غريباً بل هو أمر طبيعي، فالأرض العربية مهبط الوحي ومبعث الرسالة ومصدر التنوير، لذلك استقر في ذهن المسلمين غير العرب أن القيادة الدينية والزعامة الروحية يُستحسن أن تكونا عربيتَي الأصل، فإذا قيل مصر في بلد إسلامي، فإن ذلك يستدعي بالضرورة مكانة الأزهر وقيمته المتفردة في العالم الإسلامي. ولقد قال رفسنجاني، الزعيم الإيراني الأسبق إن "أغلى أحلامه أن يتمشى في صحن الأزهر". وإذا هبطت في مطار ماليزيا الدولي وعرف ضابط الجوازات أنك مصري، فسوف يردد أمامك كلمة "مصر الأزهر"، ولقد كان لي زميل رحل عن عالمنا منذ أيام هو السفير شكري فؤاد يوسف وهو واحد من أقباط مصر الذين نعتز بهم كثيراً، كان مستشاراً للسفارة المصرية في غانا وعندما حان وقت صلاة الجمعة، أصرّ الحاضرون من مسلمي غانا على أن يؤمهم في الصلاة، فاعتذر لهم بأنه مسيحي وكان ردهم التلقائي أنك من بلد الأزهر وتقرأ القرآن بالعربية وأخذ يشرح لهم حتى اقتنعوا بصعوبة أنه عربي مصري ولكنه ليس مسلماً بل هو مسيحي، وكل ذلك يثبت التلازم في الذهن الشرقي عموماً بين القومية والدين، بين العروبة والإسلام.
سابعاً: إن التقاطع بين المشروعين الإسلامي والعروبي أو ما نطلق عليه التقاطع بين المشروعين الديني والقومي كان ولا يزال النموذج الأوضح لذلك التداخل الذي استقر في ذهن الأغلب الأعم من المسلمين وغيرهم أيضاً. وعندما ارتفعت شعارات المد القومي في ستينيات القرن الماضي، فإن ذلك ارتبط بشكل مباشر بنظيره الكاسح لشعارات القومية العربية، ولكن جاءت نكسة 1967 لتؤدي إلى تراجع المشروع القومي وبروز نظيره الديني، وبذلك اكتشفنا ذلك الصدام المستتر بين المشروعين، ومع ذلك بقي التلازم بين الإسلام والعروبة في ذهن العامة وأنهما وجهان لعملة واحدة! بل لقد شهدنا كتابات كثيرة وتحليلات عدة تناولت الروابط الوثيقة بين مصادر الدين ومقاصد شريعته وبين عناصر أخرى للحكم بكل ما فيها من شخصنة ولهفة على الحياة وتكالب على المناصب.
إن استقراء النقاط السابقة يوحي لنا بأن التداخل بين الإسلام والعروبة يمثل عقبة شائكة أمام المتغيرات السريعة والمواقف المتلاحقة، ولا شك في أن التيار الليبرالي الصامد أصبح يتيح لنا منهجاً لدراسة بعض الدول الإسلامية في محاولة لفهم تأثير العروبة في الإسلام، وبقي أن نقول في كلمات واضحة إن العروبة لا تمثل شارة حمراء لأصحابها ولا وقفية ينتفعون منها ولكنها هي كل ذلك جميعاً، فالذين يلوحون بالاهتمام بالرموز من دون المواضيع التراثية، بعيداً من العقل الجمعي والتفكير الرشيد، إنما يسيئون للعروبة والإسلام معاً، ولقد لاحظنا من استقراء تاريخ المنطقة أن دعاة المشروع القومي ومن ولدت على أيديهم الفكرة القومية كانوا في أصولهم نتاجاً للعرب غير المسلمين، بخاصة مسيحيي الشام وبلاد المهجر، ذلك أن العربي يشعر غالباً بانتمائه القومي إذا لم يكُن منتمياً للغالبية الدينية ويجد في ذلك ستاراً يحميه أمام تلك الغالبية التي لا يدين بدينها. بل إنني أزعم هنا أن المسلمين العرب لا يتحمسون كثيراً لتناول القضايا القومية من منظور ديني، فرمزية القدس مثلاً تأتي من أنها أرض عربية محتلة في حرب يونيو (حزيران) 1967 وما تلاها من مواقف شجاعة، عندما قاوم العرب الفلسطينيون الغطرسة الإسرائيلية في محاولة جادة لإثبات الحقيقة وهي أن التلازم بين الإسلام والعروبة يخضع لمفهوم شائع يتصل بالجانب الروحي للدين. حتى نردد معاً "إن ما لله لله وما لقيصر لقيصر".