يستطيع القارئ عبر 163 صفحة مفعمة بالألوان المائية، أن يطلع على المحطات الرئيسة في حياة الرسام المكسيكي الثوري دييغو ريفيرا التي استغرقت من الكاتب فرانشيسكو دي لا مورا والرسام خوسيه لويس بيسكادور، ست سنوات كاملة لسردها على نحو "غرافيكي"، في سيرته الذاتية الصادرة حديثاً عن دار أرت ماسترز. وهي تضمنت واحدة من أعظم قصص الحب في القرن العشرين، إلى جانب المشاعر والتناقضات (الإنسانية والسياسية) في حياة احتشدت بالأحداث والسفر والترحال والصعود إلى القمة والهبوط إلى القاع، وقدر لا يستهان به من القسوة والحنان.
أثر على حائط
أكثر ما يلفت في موهبة ريفيرا الاستثنائية، هو إعلانها عن نفسها في وقت مبكر عبر أصابع طفل في الثالثة راحت تخربش على الجدران، وحين ضُبط متلبساً بفعلته، قام والده بتغطية الحوائط بعدد من السبورات وقطع القماش بدلاً من معاقبته. بهذه الصورة لريفيرا يستكشف الكتاب قصة حياة امتزجت فيها الأسطورة بالواقع.
تأكدت براعة دييغو في الرسم والتلوين في سن السادسة، عندما انتقلت أسرته إلى مكسيكو سيتي عام 1893، فحرص في العاشرة من عمره على الالتحاق بأكاديمية سان كارلوس لدراسة الفنون الجميلة. بدا الصبي الذي كانه آنذاك ممتلئاً بالنشاط والحماسة. في الليل، يواصل دروسه عن الفن، وفي الصباح يهرول إلى مدرسته الكاثوليكية ليكمل تعليمه الرسمي، مستوعباً في أكاديمية سان كارلوس، طرائق كثير من مدرسيه مثل سانتياغو ريبول، وسالومي بينيا، وفيليكس بارا، وخوسيه ماريا فيلاسكو وأنطونيو فابريس. ومتأثراً بالمثل، بخوسيه غوادالوبي بوسادا، الذي كان يملك مطبعة بالقرب من مدرسته.
في عام 1905، منحه وزير التعليم والفنون الجميلة في المكسيك راتباً شهرياً للتفرغ. وبعد عامين، منحه حاكم ولاية فيراكروز راتباً إضافياً قدره 300 بيزو شهرياً يسمح له بالسفر إلى أوروبا. هكذا تمكن دييغو من أن يجوب العالم، وأن يصبح في سن العشرين من أكثر الشخصيات المؤثرة في المشهد الفني الباريسي، إلى جانب بيكاسو وموديلياني وبراك وسواهم. لكن الكتاب يستفيد أكثر من خلال مشاهده الملحمية التي نفذها بيسكادور من عودته إلى المكسيك، حيث بدأ العمل بأسلوبه الخاص: انصهار اللوحات الجدارية لعصر النهضة الإيطالية، وما بعد الانطباعية، والواقعية الاجتماعية، والمستقبلية وفن ما قبل كولومبوس.
لوحات تخرج من إطاراتها
على الرغم من أن عديداً من الصفحات يتبع طريقة المربعات القياسية كما في الكومكس، فإن عدداً كبيراً من الصور يظهر في صفحتين، منها صورته وهو على فراش الموت وشبح فريدا يأتي لزيارته. وكذلك أول لوحة جدارية له في القصر الوطني في مكسيكو سيتي، الممتدة على أربع صفحات، التي تبدو مثل عدد كبير من الصفحات، كأنها خرجت من أحد إطارات او أفاريز ريفيرا على الحائط.
ريفيرا الذي ارتبط اسمه بالحركة الجدارية كان رساماً ثورياً بأكثر من طريقة، التقط في أعماله صوراً نموذجية للثقافة المكسيكية، معبراً عن الصراع الطبقي والتمجيد العمالي والريفي. فهو أحد مؤسسي نقابة العمال الفنيين والرسامين والنحاتين في عام 1922. انضم في العام نفسه إلى الحزب الشيوعي المكسيكي، ولا غرابة في ذلك، فوالده كان صحافياً منخرطاً في السياسة الثورية. أثناء سفره التقى بلينين في باريس وستالين في موسكو، وفي ما بعد، وفر لتروتسكي لجوءاً في المكسيك.
تعرض ريفيرا للنقد في كثير من الأحيان بسبب لوحاته المثيرة للجدل، فجدارياته تعكس في موطنه المكسيك والولايات المتحدة، الاضطرابات المتناقضة في شخصيته وزمنه. لوحته الجدارية "أحلام الأحد في ألاميدا" تصور إغناثيو راميريز حاملاً لافتة تنفي وجود الخالق. وعلى الرغم مما أثاره هذا العمل من غضب شديد، فقد رفض ريفيرا إزالة النقش. لم تُعرض اللوحة لمدة تسع سنوات، حتى وافق ريفيرا على إزالة اللافتة، ولكن معلناً إلحاده.
امرأة واحدة لا تكفي
لم يخل الكتاب بالطبع من المشاهد الجنسية، فالفنان الثائر كان يتمتع بجاذبية كبيرة انساق إليها كثير من النساء. أصابعه كانت تجيد العزف على أجسادهن بقدر ما تجيد النقش على الجدران، وحرفته التي لا تعرف الكلل تناسبت تماماً مع حبه للحياة. وعلى طول الطريق كان يجمع حوله مئات المعجبات، تزوج أربع مرات، وعمد إلى معاملة البعض منهن بشكل سيئ للغاية، أنجب أطفالاً (بعضهم مات)، ووبخ نفسه لأنه لم يكن أبداً أباً صالحاً، خلاصة القول: ريفيرا على الرغم من كل جاذبيته، كان الأسوأ في تاريخ العشاق.
تعرف على غوادالوبي مارين زوجته الثانية وهو متزوج بالفعل، وتزوجها في يونيو(حزيران) 1922. في العام نفسه التقى لأول مرة بفريدا كالو حين كلف برسم لوحة جدارية في قاعة مدرستها الثانوية في مكسيكو سيتي. ذات ليلة سألته التلميذة المفعمة بالحياة إذا كان يمانع في أن تشاهده وهو يعمل، فسمح لها. كتب دييغو في سيرته الذاتية: "كانت ترتدي ملابس لا تختلف عن أي طالبة أخرى في المدرسة، لكن أسلوبها يميزها على الفور". "جلست وراقبتني بصمت، مركزة عينيها على كل حركة للفرشاة... لم يكن لدي أي فكرة أنها ستكون زوجتي ذات يوم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد ست سنوات قدر لهما أن يلتقيا مجدداً. بدأت العلاقة الحقيقية وهو متزوج بالفعل، وتوجت بالزواج في 21 أغسطس (آب) عام 1929، كانت كالو في الثانية والعشرين وكان يبلغ ضعف عمرها، فضلاً عن التفاوت الكبير في الحجم الذي وصفته أمها بزواج الفيل من الحمامة. في اقتباس مشهور أشارت كالو إلى "حادثين خطرين في حياتها"، أولهما حادث الحافلة الذي جعلها تعاني مدى الحياة، والآخر زواجها من دييغو. "دييغو كان الأسوأ بكثير". تعترف كالو التي لم تخلف تراثاً تشكيلياً رائعاً فحسب، بل خلفت أيضاً ملامح حياة تمتلئ بالوجع والقلق والمعاناة من خلال لوحاتها الذاتية، مذكرة إيانا بتلك المصائر المأسوية لأصحاب القلوب الكبيرة والمشاعر الرقيقة.
انتقل الزوجان إلى الولايات المتحدة، وقضيا بعض الوقت في سان فرانسيسكو ونيويورك وديترويت في النصف الأول من الثلاثينيات. يركز الكتاب على تلك الفترة، فقد حظيت أعمال دييغو بإعجاب شديد في الولايات المتحدة، على الرغم من تبنيها الأيديولوجية الاشتراكية، وأثرت تأثيراً ملحوظاً في برامج عمل الرئيس فرانكلين روزفلت، وكثير من الفنانين الأميركيين.
في هذا الوقت تقريباً، بدأت كالو تعاني من الإجهاض المستمر. لم تكن قادرة على الإنجاب بسبب الإصابات البالغة في عمودها الفقري وبطنها ورحمها، وهو ما تركها تعاني من آلام شديدة لبقية حياتها، وجعل من اعتلال صحتها موضوعاً عبرت عنه في عديد من أعمالها الفنية.
الحب لا يصنع المعجزات
كان ريفيرا زير نساء سيء السمعة، وصفه أحد الأطباء بأنه "غير مناسب للإخلاص"، وجاء رد كالو لينم عن قلبها الكبير: "لا أعتقد أن ضفاف النهر قد تعاني من ترك المياه تجري على راحتها" مضيفة: "دييغو ليس زوجاً لأي امرأة ولن يكون أبداً، لكنه رفيق عظيم".
وعلى الرغم من كل التفاهم، أدت علاقة دييغو بأخت كالو إلى انفصال الزوجين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1939، تاركة أثراً عميقاً في نفسها. ومع ذلك، لم يمض وقت طويل حتى التم شملهما مجدداً في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1940، في حفلة صغيرة، وعادا إلى المكسيك بعد فترة وجيزة ليستمر زواجهما، مع كل الخيانات والفضائح، حتى وفاة كالو في عام 1954 عن عمر يناهز 47 سنة.
في الليلة السابقة لموتها، قدمت له كالو خاتماً قبل 17 يوماً من الذكرى الخامسة والعشرين على زواجهما، وأخبرته أنها تشعر أنها ستتركه "قريباً جداً". وصف ريفيرا في سيرته الذاتية يوم وفاة كالو بأنه "أكثر الأيام مأسوية" في حياته: "بعد فوات الأوان أدركت أن أجمل جزء في حياتي كان حبي لفريدا". في 24 نوفمبر 1957، توفي رسام الجداريات بسبب قصور في القلب عن عمر ناهز 70 سنة. كان ريفيرا يتمنى أن يختلط رماده مع رماد كالو في منزلها مدى الحياة، لكن بناته وزوجته السابقة رفضوا بشدة، فدفن في قاعة المدينة في مكسيكو سيتي.
على الرغم من أن علاقة الحب بين دييغو وفريدا لا يمكن تصنيفها إلا في إطار العلاقات المدمرة، إلا أن ارتباطهما كان قوياً بما لا يدع مجالاً للشك، ربما لأنه كان يستمد استمراريته من مناطق أخرى، كما يظهر في المقطع التالي من يوميات كالو: "دييغو = زوجي / دييغو = صديقي / دييغو = والدتي / دييغو = والدي / دييغو = ابني / دييغو = أنا / دييغو = الكون".