مع تراجع الفصائل الولائية سياسياً، ازداد الصراع المسلح ميدانياً، لا سيما بين "عصائب أهل الحق" التي يقودها قيس الخزعلي ضمن "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية"، و"سرايا السلام" التابعة لمقتدى الصدر. وبرز ذلك جلياً في محافظة ميسان خصوصاً، وسكان جنوب العراق عموماً، إذ لم تتوقف عمليات الاغتيالات ضد بعضهما بعضاً بشأن تشكيل الحكومة الجديدة.
فبعد اغتيال القيادي في "سرايا السلام" كرار أبو رغيف، حين أطلق عليه مهاجمون وابلاً من الرصاص وهو داخل سيارته بصحبة زوجته، وقد شيع جثمانه عدد غفير من الصدريين وسط مدينة العمارة مركز محافظة ميسان، أرسل الصدر على الفور وفداً إلى محافظة ميسان، وقبلها دعا في بيان إلى التهدئة وعدم السماح للصراع السياسي أن يتحول إلى اقتتال شيعي- شيعي.
أما قيس الخزعلي ففي تغريدة على حسابه في "تويتر" بتاريخ 10 فبراير (شباط) الحالي، أعلن عن تشكيل لجنة للتعاون مع الوفد الصدري، مع ضرورة الاحتكام إلى القانون، وتمتد وظيفة هذه اللجنة للتقصي عن "الحقائق مع الأخوة في التيار الصدري عن كل أحداث القتل المشبوهة"، ابتداءً من تاريخ 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، عندما تم اغتيال القيادي في حركة "العصائب" وسام العلياوي وأخيه حسام الضابط في الشرطة.
كما عدّ الخزعلي في تغريدة سابقة، بأن الاغتيالات المتبادلة بين أتباعة وأتباع الصدر "فتنة"، ودعا شيوخ العشائر إلى التبرئة من مرتكبي هذه الجرائم.
أما رئيس تحالف "الفتح" هادي العامري فقد أصدر بياناً بشأن أحداث ميسان، وحذر من "الانجرار وراء الفتن والانصياع لمشاعر الغضب". وجاء في البيان أيضاً، "ما تشهده ميسان من حوادث دموية أمر يبعث على الأسى والقلق، ويؤدي إلى سلب الشعور بالأمن والاستقرار". مشيراً إلى أنه حذر سابقاً من حالات التصعيد التي قد تتسع معها دائرة العنف المتبادل لتأخذ مديات خطيرة "يصعب وضع حد لها".
وبحسب تصور العامري، فإن الاقتتال المحلي الذي أنفق لأجله "الأعداء" المليارات ولم ينجحوا، ربما يقدم إليهم بهذه الطريقة مجاناً وعلى طبق من ذهب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تغريدة على "تويتر"، كتب المتحدث باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود حيدر، في رسالة وجهها إلى "أصحاب القرار والسلاح في الوسط والجنوب"، طالبهم فيها بأخذ العبر والدروس من الاقتتال الداخلي الكردي خلال سنوات التسعينيات، ومن "الاقتتال والدمار في المناطق ذات الأغلبية السنية"، لافتاً إلى أن "الشرارة التي تتحول إلى لهيب ستحرق الجميع بلا استثناء".
وعلى هذا النمط "التويتري"، كتب النائب محمد إقبال الصيدلي أن "تصاعد مؤشرات التحول من الصراع السياسي إلى العنف، والأشكال المدمرة، نتيجة حتمية لخلل بنيوي في طبيعة النظام السياسي الذي وصل إلى مراحله النهائية". وأضاف "لا بديل جاهز في العراق، وهذا ما يعمق الأزمة ويوسع آثارها". كما يرى أن "المشهد الأخير بدأ الإعداد له من مدة، وسيسدل الستار على مزيد من الجمام والدم".
وبغض النظر عما سردناه آنفاً، يبقى السؤال لماذا سلسلة الاغتيالات غالباً ما تكون محصورة بين هذين الفصيلين حركة "العصائب" و"سرايا السلام"؟ فعلى الرغم من وفد الصدر وتعاون الخزعلي تعرض الشيخ كريم الكعبي، إمام جمعة التيار الصدري في مدينة العمارة إلى محاولة اغتيال فاشلة. على كل حال، كما هو معلوم كان قيس الخزعلي يخدم في برانية مقتدى الصدر، إذ واجبه تحضير وتقديم الشاي للحاضرين، وعندما وجدت فيه إيران إمكانية انشقاقه عن الصدر، دعمته بالمال والسلاح في تشكيل ما يسمى "عصائب أهل الحق"، وبالتدريج عبر جرائم القتل الطائفي والخطف والنهب والبطش في مناطق ومدن العرب السنية، صار زعيماً ميدانياً وأحد أمراء الحرب، لذا وجد في نفسه نداً جريئاً تجاه الصدر، خصوصاً أنه يعلم بعض الخفايا عن الصدر وتياره.
وما يقوم به الخزعلي ضد أتباع الصدر، ليس بمقدور نوري المالكي فعله، إذ إن فرق الموت التي شكلها لا تمتلك تلك السعة للدخول في صراع مسلح ضد "سرايا السلام"، وحتى في "صولة الفرسان" التي شنها المالكي عام 2008، في البصرة ومحافظات جنوبية أخرى، جرى فيها قتل واعتقال المئات من مقاتلي التيار الصدري على مدى أسابيع، كان مسنوداً بقوات الاحتلال الأميركي وقتذاك.
وبالنسبة إلى هادي العامري وجناحه المسلح في "منظمة بدر"، فكذلك لا يجرؤ بالدخول في نزاع مسلح ضد مقتدى الصدر، فهو ومنظمته الإيرانية التأسيس، شاركوا بالقتال ضد قوات بلدهم في حرب الثماني سنوات (1980-1988)، لذلك فإن شعبيتهم صفر داخل المجتمع العراقي. فلا غرو أن يطالب العامري بعدم الانجرار وراء الفتن، ويبالغ في ذكر المليارات التي أنفقها الأعداء لتأجيج الاقتتال بين فصائل الشيعة.
وفي الوقت ذاته، لا يود الصدر التصعيد المسلح ضد الخزعلي وأتباعه، فهو الفائز في الانتخابات العامة، وصاحب الكتلة الكبرى، وبذلك يريد الحفاظ على هذه النتيجة، التي بسببها تحدث عمليات الاغتيالات المتبادلة، وربما تؤدي إلى اشتعال النزاع المسلح.
كيفما كان الأمر، فإن ما قاله مسعود حيدر عن دروس الاقتتال الكردي- الكردي صحيح، إذ تتحكم فيهم المصالح الخارجية، ولكن ليس صحيحاً عن وجود اقتتال في "المناطق الغربية"، فدخول تنظيم "داعش" لا يعني نزاعاً مسلحاً سنياً، إذ لا يوجد في تلك المناطق سابقاً أحزاب أو حركات سياسية جرى بينها صراع مسلح بسبب ارتباطات بدول خارجية.
أما قول النائب محمد الصيدلي ففيه تحليل واقعي عن الخلل البنيوي في طبيعة النظام السياسي القائم. وبحسب تصوري، فإن هذا الخلل المزمن لا يمكن إصلاحه إلا بسقوط تلك الأسس التي بُني عليها، لكي يتحقق الاستقرار المطلوب في دولة تسيطر على بنيانها المدني والعسكري والأمني. وأن وجود الفصائل المسلحة وتضارب المصالح الخارجية ستؤدي نتيجتها إلى تصادم مقبل بين تلك الفصائل آجلاً أو عاجلاً.