كان الروائي العراقي، المقيم في هولندا، محمد حياوي يختار أرض رواياته السابقة في العراق، ولكن في روايته الخامسة "سيرة الفراشة" كانت سوريا هي مكان روايته. في روايته الجديدة "سفر وحشي" ابتعد حياوي كثيراً من العالم العربي واختار هولندا وأفريقيا فسحة جغرافية تدور فيها الأحداث والوقائع. وعلى رغم تغيير المكان في عمله الجديد الصادر عن دار "صلات ميديا" في أمستردام، إلا أن حياوي بقي مخلصاً لأجواء "ألف ليلة وليلة"، بخاصة أن هذا العمل يدور في زمن "مستعمرات العبيد" في أفريقيا، وخلال رحلة تقوم بها مغامرة هولندية شابة لاستكشاف منابع النيل ومناطق الطوارق في قلب أفريقيا، وكان ذلك في عام 1860.
هذا الزمن الاستشراقي بامتياز، الذي صنع في مخيلة الأوروبيين ذلك النمط الأبدي عن المنطقة العربية والشرقية، صنع كذلك الصورة النمطية الوحشية للأوروبي في أذهان الشعوب الأفريقية، التي كانت تعيش كالطرائد، سواء في الأقفاص الكبيرة للعبيد، أو هاربة باستمرار كي لا يتم استرقاقها وبيعها.
تبدأ الرواية، التي وصلت هذا العام إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، مع فصل بعنوان "قبور مائية" وهو يجري في زمن لاحق بعشر سنوات على انتهاء المغامرة التي تحكي عنها هذه الرواية. وهي اللحظة التي يُفصح فيها محامي السيدة "ألكا" عن وصيتها الخاصة بتركتها الهائلة للسيد أو "العبد" هجين. وهي وصية تمنح كل ثروتها له. وهي الثروة التي جمعها والدها من التعويضات الهائلة التي حصل عليها من الحكومة البريطانية لتحرير العدد الهائل من العبيد الذين كانت العائلة تمتلكهم في المستعمرات الأفريقية. وهذا بالضبط مناقض لشخصية هجين الذي يخاف أن يقبل الوصية، ويدخل في منازعات مع "الورثة البيض". فهجين ليس سوى "عبد أسود من ملكية المستعمرة التي تركها لها والدها".
مستعمرات قصب السكر
هذه البداية التي لن تشكل سوى أربع صفحات من الفصل الأول، سرعان ما تنتهي، لتبدأ البداية الحقيقية من سفر هجين إلى هولندا. هجين الذي بلغ 16 سنة في ذلك الوقت، وولد وكبر في مزرعة لقصب السكر، ولم يغادر مستعمرة "ديميرا" في غويانا سابقاً، يحصل على صك حريته من سيد تلك المستعمرة، الذي يرسله لخدمة عائلة مالك المزرعة الهولندي الراحل "فيليب تينيه" في لاهاي. سبب إرسال هجين، وتعرفه على ابنة ذلك الغني الراحل في لاهاي، هو أن ابنته "ألكا" سمعت بمواهب هجين الفذة في "تلك الألعاب السحرية الخاصة بألواح الفضة والتصوير"، والتي تعلمها على يد معلم إيطالي في تلك المزرعة أو المستعمرة.
رحلة هجين، وهو حر، إلى لاهاي، تعني حياة جديدة. حياة تبدأ من صك الحرية ذاك. وأن يذهب مباشرة ليعيش بين عائلة من النبلاء، فكأن الأقدار ذاهبة به ليعيش نبيلاً مستقبلياً، لكنه لا يعرف كم الأخطار التي تنتظره منذ لحظة حريته تلك. هذه الرحلة تسرد رحلات عدة لهجين. رحلته التي تبدأ نحو لاهاي، على سفينة كبيرة، نتعرف خلالها إلى شخصيات عدة، وقصص عدة، مثل حكاية السيد جاستن والفقيرة الخلاسية ماربيلا. لكنها سرعان ما تسرد رحلته الأولى في القدوم إلى هذه الأرض كنتاج لليلة جامحة قضاها أحد البيض مع امرأة سوداء من السودان اسمها "عريبا". لذلك ولد كطفل بري يرعاه الجميع. يرعاه الجميع لأن الرجل الأبيض بقي مجهولاً من جهة، ولأن الرجل الأبيض قتل أمه عندما ولدته من جهة أخرى.
هذه الرحلة الأولى لا بد أن تتضمن سبب لقبه "هجين"، حتى صار اسمه، وذلك بسبب لون شعره البني الملفوف، وبشرته النحاسية، وعينيه الملونتين. وعند وصوله إلى لاهاي نتعرف إلى حكايات أكثر، فبالإضافة إلى شخصيات العائلة الثرية الذاهب إلى خدمتها، وهي الأم وابنتها ألكا وعمتها، نتعرف إلى حكايات بعض العمال هناك، مثل النجار جاكوب.
عادات وتقاليد
حكايات تتوالد بعضاً من بعض، والراوي العالم لا يمل من توليد تلك القصص حتى نصل إلى الشخصية الرئيسية ألكا، التي تنفر من العادات والتقاليد البرجوازية، ومن كم التمثيل والتملق الذي يجعلها محط انتقاد من تلك الطبقة، وقربها من الخدم والناس البسطاء. ألكا التي تشعر بالفرح عندما تتخلص من خطيبها الألماني الغارق في سجون تلك العادات والتقاليد "التافهة" من وجهة نظرها. تتوطد علاقة هجين بألكا، ولن يصبح خادمها الحر فقط، بل مساعدها، وحاميها من فجائع عدة مغامرات تقوم بها ألكا. وبمساعدة من جاكوب سيكون بإمكان هجين أن يحقق فكرته بأن يصنع لألكا كاميرا متنقلة لتصوير المناظر خارج القصر، وهي كانت أمنية كبيرة لألكا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لن تنتهي مغامرات ألكا أبداً، فتطرح على هجين رغبتها الأكبر باكتشاف منابع نهر النيل، التي لم تكن مكتشفة في ذلك الوقت. وثروتها الهائلة تسهل عليها تحقيق رغبتها، من خلال شراء سفن وحاجيات كثيرة، واستئجار خدم وجنود وقبطان لذلك. ولكن هذه الرحلة لن تكون سهلة في زمن العصابات وقطاع الطرق وصائدي العبيد والمخاطر الطبيعية التي يربيها وحش عظيم كنهر النيل.
لن تصل ألكا إلى منابع النيل، لأنها تفقد خلال رحلتها أمها وعمتها وخادمتيها فلور وآن، بالإضافة الى قبطان السفينة وكثير من الجنود، فتتراجع عن تلك المغامرة. وعوض أن تعود إلى الحياة المخملية في هولندا، تتحول إلى تحقيق أمنية أخرى؛ وهي اكتشاف مناطق الطوارق في الصحراء، وخلال ذلك تفقد هي نفسها حياتها، ويعود بها هجين ليدفنها على ضفة نهر النيل، لتتقمص روحها شكل جنية تعزف للفلاحين، قبل أن تختفي في النيل.
أزمنة وأمكنة
يستخدم حياوي زمنين يتداخلان ويبتعدان خلال فصول الرواية الـ 15، وهما زمنا الحاضر المتدفق، والماضي الذي لا يمضي بسهولة. وينجح صاحب "خان الشابندر" في تقريب الشخصيات من القارئ من خلال وصفه الدقيق والبطيء لظاهرها، ومن خلال الحوار الذي يشرح دواخلها. وخلال ذلك الانتقال من أفريقيا إلى هولندا، والعودة من جديد إلى أفريقيا، يتعرف القارئ إلى تلك الأمكنة بوصف متمهل وبطيء، يجعل هذه الرواية تتضخم حتى تصل إلى أكثر من 300 صفحة.
يستخدم صاحب "غرفة مضاءة لفاطمة" تقنيات عدة من أجل جريان سرده بتشويق يناسب المغامرات الكثيرة، والمصائر المؤلمة لشخصيات هذا العمل. وهي تقنيات سردية يستفيد منها في تكثيف القصة القصيرة والبعد البصري السينمائي. ويعتمد تلك العين المجلوبة من حكايات "ألف ليلة وليلة"، إذ يتنقل صاحب "بيت السودان" بمهارة بين حكايات هذه الشخصية وتلك، ويجد بيسر منابع التقاء الأرواح الإنسانية وتضادها، مستغرقاً في دواخل شخصية هجين التي تعيش حباً كبيراً لألكا، يبلغ حالة التبعية والذل وفقدان الحرية الشخصية.
رواية مثيرة ووحشية في الوقت نفسه، يقضي القارئ فيها وقته وهو متقطع الأنفاس. رواية عن الاستشراق وزمن استمرار الرق على رغم قوانين منعه، وتلك الأفكار والمواقف التي ترافق مشاهدة بشر مضطهدين في أقفاص كبيرة جاهزة للبيع. رواية "سفر وحشي" تلقي إضافة جديدة على أسلوب محمد حياوي (ولد في مدينة الناصرية العراقية عام 1965) الذي لا يجد فكاكاً من قصص "ألف ليلة وليلة" وأنفاسها وكوابيسها وإثارتها وتشويقها.