ألقت الأزمة الأوكرانية بظلالها على أولويات عدة في العالم، بما في ذلك دول الخليج التي كانت جهودها منصرفة إلى التعاطي مع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة والتفاعل الدولي معها، إن كان في اليمن، أو مفاوضات فيينا واللقاءات المتكررة مع مسؤولي النظام الإيراني.
لكن تطور الأزمة الأوكرانية مع روسيا على النحو الراهن الذي تجاوز التهديدات اللفظية إلى الحشد العسكري وتبادل إطلاق النار، جعل المشهد شرق أوروبا هو الأكثر إلحاحاً، خصوصاً في مؤتمر "ميونيخ" (مينسك) في ألمانيا، حيث لا صوت يعلو فوق صوت جارتيها الشرقيتين موسكو وكييف، في وقت ترى فيه برلين وجيرانها الأوروبيون الصراع على أبواب حدودها وجودياً أكثر من أي صراع آخر في مثل منطقة الشرق الأوسط والعالم الأبعد.
في هذا السياق، يأتي الحراك الدبلوماسي الخليجي على هامش المؤتمر الأمني الأهم في العالم في دورته الـ58، في وقت عادت الأحاديث فيه إلى إعادة كتابة قواعد النظام العالمي بين القوى العظمى مجدداً، إذ التقى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود عدداً من المسؤولين السياسيين في المنطقة والعالم، وناقش معهم كلاً على حدة "أوجه العلاقات الثنائية في مجالات التعاون المختلفة، وسبل دعمها وتعزيزها بما يخدم المصالح المشتركة ويحقق مزيداً من الاستقرار والازدهار... وتطرق إلى فرص تعزيز التنسيق الثنائي، إضافة إلى مناقشة سبل دعم كل ما من شأنه أن يسهم في استقرار وحفظ الأمن والسلم الدوليين، كما تبادل معهم وجهات النظر حيال عديد من القضايا الإقليمية والدولية".
هواجس إيران من أوكرانيا
كما التقى وزير الخارجية القطري الشيخ محمد آل ثاني نظيريه الأميركي والإيراني، في وقت تستعجل فيه طهران توقيع اتفاق نووي تسربت بالأمس بعض تفاصيله، التي تبرهن بعضها على أنه لا يسير على هوى النظام الذي نفى بعضاً مما تضمن تقرير "رويترز" عن التسريب، إلا أن وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان أقر من ميونيخ عقب لقائه نظيرته الألمانية إن بلاده تتوقع من برلين أن تلعب دوراً فعالاً في ضمان حقوق إيران "كطرف متضرر" من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الذي أبرمته طهران وقوى عالمية في عام 2015.
حديث الأطراف المختلفة الجديد عن "اتفاق وشيك"، ليس مرده فقط إلى أن الكيل طفح بالمعنيين، خصوصاً في أميركا وأوروبا من مسلسل مفاوضات لا يصل إلى نتيجة، وإنما أيضاً في بعض جوانبه يعود إلى خشية إيرانية من أن تسرق الأزمة في أوكرانيا الاهتمام وتصرفه عن ملفها، خصوصاً أنها تلمس إلى أي حد، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منخرطان بالكلية في الأزمة الأوكرانية، مما جعل واشنطن تكثف اتصالاتها مع حلفائها في الخليج من أجل أوكرانيا أولاً، قبل الملف النووي الذي كان سابقاً في صدارة هذا النوع من الاتصالات، كالذي أجراه الرئيس جو بايدن بالملك سلمان أخيراً.
#ميونخ | سمو وزير الخارجية الأمير #فيصل_بن_فرحان @FaisalbinFarhan يلتقي معالي وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السيد أنتوني بلينكن، وذلك على هامش أعمال مؤتمر ميونخ للأمن pic.twitter.com/GfMn9tCZ7r
— وزارة الخارجية (@KSAMOFA) February 19, 2022
الأزمة فرصة اتفاق مقبول
لكن من الناحية الأخرى قد تبدو حاجة واشنطن الملحة إلى حلفائها في الخليج التي ظهرت مجدداً، في طلب دعم جهودها الرامية إلى تأمين الخليج تدفق الطاقة في الأسواق العالمية تحسباً لأي موقف انتقامي قد تتخذه روسيا باستخدام الطاقة كسلاح، قد ينقلب فرصة لتعزيز الخليج موقفه هو الآخر، المتعلق بالاتفاق النووي المرتقب مع إيران.
وبالتزامن تستضيف قطر الدول الرئيسة المنتجة للغاز اعتباراً من غد الأحد في إطار قمة دعي إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تنعقد وسط مخاوف أوروبية بشأن إمدادات الغاز الروسي مرتبطة بأزمة أوكرانيا.
ويجمع منتدى الدول المصدرة للغاز الدول الأعضاء الـ11 التي تملك أكثر من 70 في المئة من احتياطيات الغاز في العالم، بما في ذلك روسيا وقطر والجزائر ونيجيريا، إضافة إلى سبع دول مراقبة وثلاث دول بصفة ضيف.
يأتي هذا الحدث في وقت تتهم فيه واشنطن موسكو بالتحضير لغزو عسكري لجارتها الأوكرانية، الأمر الذي أسهم في ارتفاع أسعار الغاز. واتجهت أنظار أوروبا، الساعية إلى تنويع مصادرها من إمدادات الغاز لتقليل اعتمادها على روسيا، إلى الأعضاء الآخرين في منتدى الدول المصدرة، لكن غالبية الدول الأعضاء
أكدت أنها وصلت إلى طاقتها الإنتاجية القصوى ويمكنها فقط تزويد أوروبا بالغاز على المدى القصير، شرط موافقة زبائنها الحاليين.
ووفقاً لدبلوماسيين ساعدوا في التحضير لاجتماعات القمة، ستتركز المحادثات حول الطرق الممكنة لزيادة الإنتاج على المدى المتوسط. وقال أحدهم لوكالة "الصحافة الفرنسية" طالباً عدم الكشف عن هويته "أيديهم مقيدة على كل حال، ولم يعد هناك غاز متوفر".
قطر تبحث عن دور
بالنسبة للمحلل الخبير في شؤون الخليج في "كينغز كولدج" أندرياس كريغ، تحاول قطر فرض نفسها كوسيط في الساحة الدبلوماسية بحيث تتم إضافة الملف الأوكراني للمناقشات الجارية معها حول عدة ملفات.
وقال: "يمكن لقطر استخدام هذا المنتدى للتحدث مع روسيا بشأن أوكرانيا، لأن جميع المشاركين قلقون من عواقب تصعيد الأزمة على أمن إمدادات الغاز العالمية".
وأصاف أن بإمكان روسيا الانخراط في محادثات مهمة مع قطر لأن الزبائن الأوروبيين يرون أن الإمارة مورد بديل. وتمتلك روسيا حالياً 40 في المئة من السوق الأوروبية وقطر 5 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال كريغ: "ستكون فرصة جيدة لقطر لاستخدام المنتدى حتى تعرض على الولايات المتحدة التوسط بينها وبين روسيا في هذه الأزمة".
ولقطر أيضاً مصالح متقاربة مع إيران في قطاع الغاز، وقد دعمت المحادثات في فيينا لإنقاذ الاتفاق بشأن برنامج طهران النووي.
ويرى كريغ أن "رفع العقوبات عن إيران سيكون له تأثير أيضاً على قطاع الغاز وصادرات الغاز، وهو ما يتماشى مع هدف المنتدى للحفاظ على أمن إمدادات الغاز".
نذر اتفاق سيئ
كانت وسائل إعلام إسرائيلية قد نقلت عن مسؤولين سياسيين إسرائيليين أن اندلاع حرب شرق أوروبا بين روسيا وأوكرانيا سيقلص اهتمام المجتمع الدولي بالملف النووي الإيراني والمباحثات الجارية في العاصمة النمساوية، فيينا.
وذكرت صحيفة "يسرائيل هايوم" أن متابعة الإدارة الأميركية لمجريات الوضع والأزمة الأوكرانية ربما يدفعها لتقديم تنازلات أكبر للإيرانيين في مفاوضات فيينا، موضحة أن هناك انتقادات أميركية داخلية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لإدارة جو بايدن، بشأن سياستها تجاه النووي الإيراني، بينما يرى رئيس مركز الخليج للدراسات صقر الغامدي، أن الأوروبيين على الرغم من اهتمامهم بالأزمة الأوكرانية، فإن حرصهم على الاتفاق النووي وفق الصيغة التي يرغبون لا يقل أهمية واستراتيجية بالنسبة إليهم.
هدف بوتين أبعد
أما بالنسبة إلى روبن نبليت في "شاتام هاوس" البريطاني، فإنه بالمعنى الأشمل يخلص إلى أن أحد أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إشعال الأزمة مع أوكرانيا، هو خطه حدوداً جديدة مع أميركا والغرب، تؤكد منطق أنه لا يمكن تجاوز رغبات الكرملين من دون تحمل العواقب.
ومع أنه لم يشر في هذا الصدد إلى الملف النووي الإيراني باعتباره إحدى القضايا التي تحاول فيها أميركا الخروج عن دائرة خطوط روسيا الحمراء، فإن محاولة الروس احتكار دور الوسيط بين واشنطن والإيرانيين في المفاوضات قد يجعل ملف الاتفاق هو الآخر غير بعيد عن إثارة نقمة رجل الكرملين القوي.
ويرى الكاتب نبليت في محاولته قراءة دوافع بوتين في تهديد أوكرانيا غير المعلنة، أنها قد يكون من بينها الإشارة، إلى أن الاهتمام بالصين عوضاً عن روسيا لا يرضي غرور رجل اعتاد أن يكون دوماً هو محط الأنظار.
وأضاف: "إذا كان هدف بوتين الآخر هو إعادة تركيز اهتمام الولايات المتحدة، وبدرجة أقل، الاهتمام الأوروبي بعيداً من الصين والعودة إلى روسيا ومصالحها الأمنية، فقد نجح في ذلك".
كانت وسائل إعلام روسية اعتبرت أنه من غير المفاجئ "ربط الملف النووي بالاقتراحات الروسية المقدمة وبالسلوك التصعيدي للناتو ربطاً مباشراً"، وهذا ما تفطنت له وسائل إعلام إيرانية، رأت أن من مصلحة روسيا إبقاء الملف النووي الإيراني ورقة تستخدمها في مساوماتها مع الغرب، لدى السجال حول الملف الأوكراني.
ولهذا حرص المفاوض الإيراني علي باقري مع اشتداد الأزمة الأوكرانية، على نزع تلك الورقة من الروس بالقول: "بعد أسابيع من المحادثات المكثفة، اقتربنا أكثر من أي وقت مضى من التوصل إلى اتفاق. لم يتم الاتفاق على أي شيء حتى يتم الاتفاق على كل شيء"، كما كثف البريطانيون والفرنسيون ضغوطهم لإحراز النتيجة النهائية، حتى تحدثوا عن "أيام تفصلنا عن الصفقة النهائية"، بعد الاتفاق على أهم البنود.
شيفرة "الإخوة الصالحين"
وفسّر تحليل مركز واشنطن للدراسات في هذا الصدد خطبة المرشد الإيراني علي خامنئي أخيراً التي تناول فيها الاتفاق النووي مع الغرب بعد طول صمت، بأنها أشبه ما تكون بإشارة إلى إعطاء الضوء الأخضر، على الرغم من تجنب زعيم البلاد ذكر ذلك صراحة. وقال، "تمحور انتقادي حول ضرورة مراجعة بعض النقاط في (خطة العمل الشاملة المشتركة) كي لا تنشأ مشاكل في المستقبل. فبعض هذه النقاط لم يتم احترامها، وبرزت مشاكل لاحقاً، كما يرى الجميع الآن". ونوه بمن سماهم "الإخوة الصالحين والثوريين في مجال الدبلوماسية، الذين يعملون على رفع العقوبات وإقناع الطرف الآخر بالقيام بذلك".
أما بالنسبة لدول الخليج فإن تقديراتها بشأن الاتفاق النووي مع إيران ظلت مختلفة، طبقاً لتفاوت علاقتها وثقتها بطهران، إلا أنها جميعاً تؤيد اتفاقاً يحد من زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وهو ما تقول دول في المجموعة مثل السعودية، إن الاتفاق بصيغته السابقة قام بعكسه، فيما تتجنب حتى الآن على الأقل إظهار اهتمام استثنائي بالملف الأوكراني، بخاصة أن أعضاء "أوبك+" فيها يربطهم اتفاق مهم مع روسيا.
وفي اللقاء بين وزيري خارجية أميركا والسعودية أنتوني بلنكن والأمير فيصل بن فرحان على هامش "ميونخ"، تركزت المحادثات على "مناقشة سبل تعزيز الجهود المشتركة بشأن وقف انتهاكات مليشيا الحوثي الإرهابية بحق اليمن وشعبه الشقيق، التي تقوم بتعطيل الحل السياسي في اليمن، كما تناول الجانبان أهمية تعزيز الجهود المشتركة لوقف اعتداءات الحوثي المستمرة على المنشآت المدنية والاقتصادية، وتهديدها للملاحة الدولية"، وفقاً لوكالة الأنباء السعودية (واس)، التي أضافت أن الجانبين "تبادلا وجهات النظر حيال البرنامج النووي الإيراني والمفاوضات الدولية المبذولة في هذا الشأن، بالإضافة إلى المستجدات الإقليمية والدولية والجهود المبذولة بشأنها"، من دون أن تخص بالذكر الأزمة الأوكرانية.