كان "عيادة الدكتور كاليغاري" مفاجأة حقيقية حين اكتشفه هواة السينما في العالم عند بدايات عشرينيات القرن الماضي، لذا لن يكون غريباً أن يحل دائماً في مراكز متقدمة في مختلف استطلاعات الرأي التي سوف تُجرى بعد ذلك حول أكثر الأفلام قوة وتأثيراً في تاريخ السينما، ولا سيما في الأول من تلك الاستطلاعات، أي ذاك الذي أجري خلال المعرض الدولي في بروكسل عام 1958، وحل فيه في المركز العاشر. ويمكننا القول إن هذا الفيلم حتى اليوم، وعلى الرغم من انقضاء كل تلك العقود، لا يزال يحتفظ بقوته التعبيرية، ولا يزال يعد واحداً من أهم الأفلام ذات البعد السياسي. وهنا لم يكن صدفة أن يعنون باحث وفيلسوف كالألماني سيغفريد كراكور واحداً من أهم الكتب التي حللت النازية الهتلرية وصعودها "من كاليغاري إلى هتلر"، في محاولة جدية منه لإيجاد الخيط المنطقي الذي يربط الصورة التي رسمها الفيلم لشخصية الدكتور كاليغاري بالصعود المفاجئ لهتلر وسط هالة من الفوضى الاجتماعية والعنف وتغييب العقل والتصلب العنصري اجتاحت ألمانيا بدءاً من تلك السنوات، وحتى قبل بروز هتلر، ما أضفى على الفيلم هالة تنبوئية مدهشة.
مجرد كابوس في عقل مريض
ونعرف أن أحداث الفيلم تبدأ في سوق شعبية يوم عيد في عام 1830 حين يقوم الدكتور كاليغاري بتنويم المدعو سيزار (كونراد فيدت) مغناطيسياً، ومن ثم يدله على فتى طالب بين حضور العرض، ويتنبأ لذلك الطالب بأنه لن يعيش حتى الفجر. وبالفعل يسقط الطالب قتيلاً خلال الليل. هنا سرعان ما تساور الشكوك صديقاً للطالب يتهم كاليغاري بالمسؤولية عن الجريمة. وفي تلك الأثناء يكون كاليغاري قد واصل ممارساته أمراً سيزار نفسه باختطاف صبية. فينفذ سيزار العملية، لكنه سرعان ما يتهالك ويموت بفعل الإرهاق. ويلي ذلك ملاحقة كاليغاري والقبض عليه وإيداعه السجن. غير أنه يتمكن من الهرب من سجنه لاجئاً سراً إلى مستشفى أمراض عقلية سيصبح بشكل ما مديراً له. وهنا وقبل أن تبدو الحكاية كلها غير منطقية وغير قابلة للتصديق سيكشف لنا الفيلم عن أن كل ما رأيناه إنما كان حكاية وهمية ساورت أفكار واحد من نزلاء مستشفى المجانين نفسه، شاء أن يبتدع تلك الصورة لمدير المستشفى لغرض في نفسه.
السيناريو المتغير
حسناً قد يتساءل القارئ هنا: إذا كنت الحكاية مخترعة وتبدو أقرب إلى حلم كابوسي، كيف حدث لها أن فهمت فهما سياسياً وما علاقتها بهتلر؟ للجواب عن هذا السؤال المشروع علينا أن نستكمل حكاية إنتاج الفيلم نفسه، لنشير إلى أن هذه النهاية إنما كانت ما أضافه منتج الفيلم المدعو بومر إلى الفيلم الأصلي بعد انتهاء توليفه، وبعد أن كانت أحداثه تتوقف مع وصول الدكتور كاليغاري إلى إدارة المستشفى. وكان ذلك هو السيناريو الذي وضعه، على أية حال، الكاتب المعروف كارل ماير مقتبساً إياه عن قصيدة للشاعر التشيكي هانز جانوفيتش. والحال أن سيناريو ماير كان لا يخلو من استعادة فواصل من ذكريات الحرب، إنما في استخدام ساخر غايته الهزء من السلطات البروسية التي "تحول الناس إلى آلات تنفذ ما تؤمر به دون أن تفكر" كما في خوض الحروب بخاصة، وعلى الطريقة التي تعامل بها الدكتور كاليغاري مع سيزار محولاً إياه إلى آلة تقوم عنه بمهام يتطلع إلى تنفيذها. وهذا في الحقيقة ما يعطي الموضوع جوهره ومنطقه من حيث الاتهام الذي يوجهه الفيلم إلى السلطات، سواء كانت استشفائية أو سياسية أو كنسية، أو حتى عسكرية، بأنها تتعامل مع البشر كأسلحة في المعارك التي تخوضها من دون أن تكون لهم هم أنفسهم مصلحة في ذلك.
هكذا ولدت التعبيرية
ولكن، حتى وإن كان الفيلسوف كراكور قد حلل في الأعماق البعد الأيديولوجي الذي يسِمُ "عيادة الدكتور كاليغاري" وسط حديث شامل عن التيار التعبيري الذي أراد أصلاً أن يحلل انبثاقه وهيمنته على اللعبة الفنية عند بدايات القرن العشرين، لا شك أن الجانب الفني من هذا التيار، وتحديداً من هذا الفيلم بالذات، لم تكن أهميته تقل عن أهميته الأيديولوجية. ومن هنا كان من الطبيعي لتحليل كراكور أن يعود إلى العشرية الأولى من القرن العشرين، حيث بالتوازي مع ولادة التحليل النفسي على يد سيغموند فرويد وصحبه تحديداً في فيينا التي كانت تشهد نهاية عالم بأسره دون أن تفصح عما سوف يُولد على أطلاله، ولد التيار التعبيري كرد فعل على المذهب الطبيعي، كما على الانطباعية في الأدب، كما في الرسم والموسيقى وغيرها من الفنون، وذلك تحت وطأة الهزائم والثورات المتعاقبة وبداية انهيار الإمبراطوريات والتحركات الاجتماعية ما أطلق أنماطاً جديدة من التعبير، جمعت الفن إلى السياسة والعلم والتحليل النفسي إلى العمران في بوتقة واحدة غابت فيها الفواصل بين شتى وسائل التعبير، وهو ما نلاحظه بشكل جلي في هذا الفيلم الذي شهد تجديداً في الأداء التمثيلي على الرغم من صمته، ونوعاً من التشويه الخلاق في الملابس والديكورات، واشتغالاً مبالغاً فيه على لعبة الضوء والظلال كما على الماكياج والأداء الجسدي الذي غالباً ما بدا كنوع من كوريغرافيا، دون أن ننسى اللجوء إلى تعبيرية جديدة من نوعها، ولا سيما في مختلف الصور التي كانت تحيط المجرم بهالات ضوئية تعطي شخصيته ملامح خارجية دورها أن تعكس روحه الداخلي.
جزء من تيار
كل هذا كان في غاية الجدة يومها، لكن "عيادة الدكتور كاليغاري" لم يكن متفرداً فيه، حيث إن ما يلفت حقاً هو أن مخرجه روبرت فاين الذي لن يتمكن على أية حال من تحقيق أي عمل لافت من بعده، إنما كان يسير في مجال تحقيقه هذا الفيلم على خط سار عليه من قبله ومن بعده مبدعون أسهموا معه في تكوين هذا التيار الذي سمي تعبيرياً، ولا سيما في أفلام لمخرجين قد يكون فيلمه هذا من أقواها، لكن بعضهم صمد أكثر منه ليحقق أفلاماً عدة، سواء في أوروبا، ولكن لاحقاً في أميركا، وحسبنا أن نذكر هنا فريدريش مورناو الذي حقق في السياق نفسه تحفتين هما "نوسفراتو" و"آخر الرجال"، ثم رحل إلى الولايات المتحدة، حيث حقق واحداً من أروع الأفلام السينمائية في زمنه، "الفجر" قبل أن تقضي عليه حادثة سير قاتلة، وفريتز لانغ الذي سيحقق واحداً من أروع الأفلام في تاريخ السينما في ألمانيا، وهو "متروبوليس" الذي سيكون من أكثر أفلام هذا التيار إثارةً للنقاش، لينهي حياته لاحقاً في هوليوود واحداً من كبار مجدديها المبتكرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين العقل والجنون
ولكن على الرغم من كل الأسماء الكبرى لمبدعين أسهموا في هذا التيار التعبيري، يبقى "عيادة الدكتور كاليغاري" فيلمه العلامة، وذلك لأنه لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل عملاً فنياً متكاملاً تندمج فيه الروابط الجمالية بالأبعاد الاجتماعية والسياسية والعلمية، عبر غوص في روح ألمانية تبدو هنا مسكونة بالصراع الأبدي بين الخير والشر، بين النور والعتمة، وبخاصة بين العقل والجنون، وهو الأمر الذي لا بد لنا من أن نعزوه إلى كون معظم أفراد الفريق الذي حقق الفيلم متجمعاً من حول روبرت فاين، ألمانيا بدءاً من كاتب السيناريو ماير، وصولاً إلى الفنانين التشكيليين الثلاثة الذين تضافروا على تحقيق ديكورات الفيلم بطابعها المسرحي السيكولوجي المذهل، والذي يبقيها حتى اليوم في الأذهان كتجربة تشكيلية فريدة من نوعها في عالم السينما. وهم كانوا من أشهر الرسامين التعبيريين حينها: هرمان فارم، ووالتر روهرغ، وليل داغوفر. وهنا إن ذكرنا أن المشروع كان قد صيغ أول الأمر لكي يحققه فريتز لانغ، يمكننا أن نموضع هذا الفيلم في مكانه الصحيح من المناخ الفني الذي كان سائداً حينها في ألمانيا والنمسا سواء بسواء، بالتالي لم يكن غريباً أن يتمكن هذا الفيلم من إدخال السينما الألمانية إلى الشاشات العالمية، حيث عرفت نخبة متفرجيه أن تنظر إليه بوصفه "نبوءة بما سوف يعيشه العالم خلال المراحل الزمنية التالية من مناخ كابوسي". وهذا بالضبط ما سوف يلتقطه سيغفريد كراكور ليبني عليه تلك الأفكار التي ملأت كتابه "من كاليغاري إلى هتلر".