ربما لم أفهم ما يجري بشكل محدد، لكن الأمور بدت بالنسبة لي، حينما استنكرت واشنطن ولندن اعتراف موسكو بالإقليمين الانفصاليين، كأنها المرحلة الأولى مما سيتحول إلى اجتياح روسي كامل لأوكرانيا، ومقدمة ربما لأكبر نزاع مسلح في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ كانت اللهجة المستخدمة [من قبل واشنطن ولندن] مختلفة. فلقد احتوت على مقدار من الشعور بالانتصار وتبرير [المخاوف المعلنة سابقاً]، وحتى القول "لقد كنت محقاً!".
إنها روسيا، مع وجود رئيسها الشرير فلاديمير بوتين تؤكد وبشكل يثلج الصدور ومطابق لما اعتبره الصقور في الدول الغربية "نمطياً في تصرفات" [بوتين] الخبيثة. فخلال ساعات، بدأت الولايات المتحدة الأميركية وجزء كبير من الدول الأوروبية في الإعلان عن البدء بتطبيق دفعات من العقوبات التي كانوا بصدد إعدادها منذ أسابيع (من أجل تغطية الحقيقة أنهم ليسوا مستعدين فعلياً للقتال من أجل أوكرانيا).
في المملكة المتحدة، شعر النواب في مجلس العموم البريطاني بحرية المزايدة في عربدة حقيقية من "الروسوفوبيا" [رهاب روسيا]، وشنت الحكومة في نهاية الأمر هجوماً على رجال الأعمال الأوليغارشيين المقربين من بوتين، ومصارفهم. [الأوليغارشيا هي حكم الأقلية بشكل متسلط]. وتحديداً، نتحدث عن ثلاثة من كبار رجال الأعمال المؤثرين في روسيا وخمسة مصارف، كأن الفرصة سنحت اليوم وببساطة لفعل ذلك، وإنه لم يكن متاحاً في السابق.
بدت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس وقد ارتسمت الجدية على محياها، بعد نسيان الخطأ الجغرافي الذي ارتكبته أخيراً حول روسيا، جلست إلى مكتبها وعلم الوحدة البريطاني خلفها، وهي توقع على تطبيق العقوبات الجديدة. وقدمت دول البلطيق والبولنديين، السردية المعتادة، "إننا كنا قد حذرناكم من ذلك" في رسالة نشرتها قنوات البث العالمية. وحتى إن الدولة التي تتحفظ دوماً على الإتيان بأي خطوة قد تدخلها في نزاع على غرار ألمانيا، انضمت أيضاً إلى حلقة المنددين عبر التقاط المستشار الألماني أولاف شولتز الفرصة التي أرسلتها السماء لإعلان تعليق العمل بمشروع خط أنابيب "نورد ستريم 02" [السيل الشمالي 2 Nord Stream]، وهو خط أنابيب الغاز المثير للجدل في ائتلافه الحكومي المؤلف من ثلاثة أحزاب. فلقد اتفق الجميع أن ما توقعوه منذ فترة طويلة أي اجتياح روسيا لأوكرانيا، قد وقع في النهاية.
أكان الأمر كذلك؟ هل وقع فعلاً؟ ما هو المتغير الذي حدث هذا الأسبوع بالمقارنة مع الأسبوع الماضي؟ بشكل من الأشكال فإن الجواب هو أن كل شيء قد تغير، ربما. ومن جهة أخرى ربما لم يتغير إلا القليل.
اقرأ المزيد
- أهالي كييف يلجأون إلى مترو الأنفاق كما فعل سكان لندن
- الفوضى تعم كييف والأوكرانيون بين الفرار وتخزين السلع
- عندما تتخاصم الجغرافيا والتاريخ في "دونباس"
- الجيش الأوكراني يعلن مقتل جندي في الشرق الانفصالي
- بوتين ينتقد "تجاهل" الغرب المخاوف الروسية وجونسون في كييف
- بوروشينكو يعود إلى كييف ونافالني غير نادم
- بوتين يدير ظهره للعقوبات ويعلن الحرب
لكن ما هو المتغير الأكيد، وكيف! لقد بدا ذلك من خلال موقف الكرملين العلني. فما رأيناه يوم الاثنين الماضي لم يكن استكمالاً لــ"نمط معين من التصرفات" التي كانت معروفة، إذ يبدو على الأغلب أن ما رايناه هو أن بوتين قد نفد صبره. فبعد 24 ساعة على ما بدا أنه اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي على المضي قدماً بالمبادرة الفرنسية الدبلوماسية والاتفاق المبدئي على عقد قمة أميركية روسية، عمد الرئيس بوتين إلى تمزيقها كلها.
ليس من المعروف عن الكرملين سرعة تحركه أو انفتاحه على الكشف عن عملياته، لكن في غضون ساعات خلال يوم واحد، عقد الرئيس بوتين لقاءً متلفزاً لمجلس أمنه القومي، داعياً علانية، بحسب ما نقلت كاميرات التلفزيون، إلى تلقي الدعم من وزرائه الأساسيين كي يغير مسار الأمور. لقد ألقى خطاباً مطولاً، بدا غاضباً أحياناً، للأمة، ومن خلاله وجه الانتقادات إلى كبار المجرمين، ومن بين هؤلاء لينين (وهذه تعتبر سابقة له)، وانتقد ستالين واليوم أوكرانيا. في تلك الأثناء، وقع بوتين على قرارين يعترفان باستقلال جزأين من المناطق الأوكرانية يطالبان بالحكم الذاتي، إن لم يكن استقلالها الكامل، عن حكومة كييف طوال السنوات الثماني الماضية. كذلك أعد خلال اليوم نفسه الأمر لدخول القوات المسلحة الروسية تلك المناطق كــ"قوات لحفظ السلام".
تمثل الأثر الأهم والمباشر لكل تلك القرارات في إلغائه بضربة قلم واحدة مفاعيل الإطار الوحيد المتاح للتوصل إلى تحقيق السلام في شرق أوكرانيا، لا سيما اتفاقات مينسك، التي جرى التوصل إليها بعد مفاوضات شاقة بين روسيا وفرنسا وألمانيا، من دون أن يقترب ذلك الاتفاق من دخول حيز التنفيذ الفعلي.
إذ تتمثل النقطة الأساسية ضمن تلك الاتفاقات في العمل على الإبقاء على وحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها واستقلالها كدولة، ويرتقي توقيع روسيا على تلك الوثيقة إلى مستوى اعترافها باستقلال دولة أوكرانيا. وبمقدار ما تبقى اتفاقات مينسك طموحاً، يستمر وجود إمكانية بأن تحظى مناطق الانفصاليين في لوغانسك ودونيتسك على فرصة إعادة الانضمام إلى أوكرانيا موحدة يوماً ما، لكن ربما دولة أوكرانية تتبع شكلاً من أشكال اللامركزية في الحكم.
في ظل ذلك الوضع، فإن اعتراف موسكو بجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية، وفق تعريفهما، لا يغير الشيء الكثير بالمقارنة مع الدراما التي تحيط بالقرار ومعانيه، إذ ماتت اتفاقات مينسك كرسالة منذ مدة طويلة على أرض الواقع. وقد عملت القوات الخاصة الروسية والمتحالفين معها في الإقليمين، منذ فترة طويلة، حتى لو يعترف رسمياً بوجود تلك التشكيلات المسلحة. وعلى الرغم من مسارعة الدول الغربية إلى فرض العقوبات على روسيا بسبب الاجتياح الروسي، ليس واضحاً تماماً أن القوات الروسية قد عبرت إلى الإقليمين، سواء على شكل قوات حفظ سلام أو بأي صفة أخرى.
ففيما أن عبور قوات مسلحة روسية إلى تلك المناطق سيعد بمثابة "اجتياح" بالمعنى الرسمي للكلمة، إذا أخذنا في الاعتبار أن حدود أوكرانيا المعترف بها دولياً قد اخترقت، فليس واضحاً بعد متى أو حتى إذا كان ذلك سيقع، وإذا وقع هذا الاجتياح فإلي أي حد سيغير ذلك الأمور على أرض الواقع. فمنذ ثماني سنوات، تقع مناطق لوغانسك ودونيتسك التي يسيطر عليها الانفصاليون التابعون لروسيا، خارج سيطرة الحكومة المركزية الأوكرانية. وسيضفي الوجود العسكري الروسي الرسمي بعضاً من الوضوح حيال ما يجري، بغض النظر عن عدم الرغبة في مثل ذلك الوضوح من قبل أوكرانيا.
لذلك، فإن ما سيجري لاحقاً سيكون مهماً للغاية. إن لم تصل قوات من روسيا، ففي تلك الحالة لن يقع الاجتياح، ولن يكون لإعلان بوتين اعترافه بالإقليمين كدولتين جديدتين، أي أثر سوى القضاء على عملية السلام الفاشلة [اتفاقات مينسك] في تلك المنطقة. ولكن، في حال دخول القوات الروسية، فإن من شأن ذلك أن يحول تلك المناطق إلى مناطق [أوكرانية] محتلة من قبل عدو. وحينها، سيبقى الوضع السياسي والعسكري على ما هو عليه إجمالاً، لكنه سيتخذ شكلاً من أشكال الوضع الدائم.
واستطراداً، يحدث ما سيعتبر تحولاً حقيقياً إذا اخترقت القوات العسكرية الروسية "خط الاشتباك" المعروف بين القوات العسكرية التابعة لأوكرانيا وتلك التي يسيطر عليها الانفصاليون في مساعيهم للسيطرة على نحو ثلثي إقليمي لوغانسك ودونيتسك الباقية تحت سيطرة القوات الحكومية الأوكرانية. وإذا وقع ذلك، فهل ستقوم القوات الروسية بالهجوم للسيطرة على كييف وبقية الأراضي الأوكرانية؟ حينها بالضبط، سيكون واضحاً أمامنا ذلك الاجتياح الروسي الكامل الذي حذرت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من وقوعه لبعض الوقت وكل المخاطر التي قد يولدها مثل ذلك العمل.
وكذلك تشمل الاحتمالات الأخرى أن تتحرك روسيا للاعتراف باستقلال الإقليمين وضمهما إلى السيادة الروسية، بالطبع "نزولاً عند رغبة الإقليمين"، على غرار ما جرى في شبه جزيرة القرم في 2014. وقد تشير زلة لسان رئيس الاستخبارات الروسية خلال اجتماع "مجلس الأمن القومي الروسي" بأن ذلك لا يزال خياراً محتملاً، على الرغم من أنه قد تعرض للتأنيب مباشرة من قبل بوتين على "خطئه" الذي ارتكبه.
وإضافة إلى ذلك، يبدو أن زعيمي الانفصاليين في الإقليمين طالبا موسكو أثناء مناسبات عدة في السنوات الثماني الماضية، بأن تضم المنطقتين إلى روسيا، ورفض هذا الطلب مراراً، إذ أيدت موسكو دوماً بقاء تلك المناطق على حالها كجارين غير تقليديين لأوكرانيا، على شاكلة نزاعات "مجمدة" أخرى تشكل جزءاً من تركة عملية انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، بدلاً من المخاطرة بضم مناطق صدأ مدمرة مع ما تضمه من شعب فقير وغير راض، ما قد يغزي حال من عدم الاستقرار في خاصرة روسيا في جنوبها الغربي.
ويترك ذلك أمامنا السؤال التالي، وهو لماذا اتجهت روسيا لتغيير موقفها فجأة من نهجها في التعامل مع المنطقتين الانفصاليتين، علماً بأن مثل ذلك القرار، بحد ذاته، لا يغير إلا القليل، ورد الحكومة في كييف يبقى حتى الآن ضعيفاً إلى حد ما. بالطبع إن موقف المناطق الأوكرانية من المناطق الانفصالية كان دائماً متضارباً. فمن ناحية، إن الفخر القومي يدحض نظرية قبول خسارة جزء من أراضي بلادك، بغض النظر عن حجم تلك المناطق وصغرها. من ناحية أخرى، ينظر كثير من الأوكرانيين في مناطق أخرى من البلاد، إلى هؤلاء من أبناء وطنهم الذين يقاومون سلطات الحكومة في كييف، بوصفهم ضحايا معتقدات سوفياتية لا مكان لها اليوم في أوكرانيا الحديثة. لا يمكن لهؤلاء أن يهنأوا أنفسهم بحسن التخلص من أولئك [الانفصاليين]، لكنهم يقتربون من ذلك.
في المقابل، ربما يوجد سبب أكثر أهمية لتغيير الكرملين موقفه بشكل مفاجئ. فبعد حشد الكرملين قوة عسكرية كبيرة على الحدود الأوكرانية، لا تهدف إلى مجرد إثارة ذعر الأوكرانيين بقدر رغبته في الضغط من أجل الحصول على تنازلات أمنية من الدول الغربية، من دون أن ينجح في تحقيق أي تقدم في ذلك، الأمر الذي دفع موسكو ربما للشعور أنه عليها الإتيان بعمل ما لإنهاء ما تعاظم كي يصبح مواجهة خطيرة. إن الاعتراف بجمهورية لوغانسك الشعبية وجمهورية دونيتسك الشعبية كدول مستقلة، ربما يكون بنظر موسكو أقل الاحتمالات خطورة.
إن إرسال القوات النظامية الروسية كـ"قوة حفظ سلام" يمكنه أيضاً وللمفارقة المساهمة بإضفاء نوع من النظام على الوضع حول "خط الاشتباك" الذي أصبح أكثر هشاشة في الأسابيع الأخيرة، والمخاطرة ليس فقط بمجرد تدهور الأوضاع، بل ربما إشعال حرب أوسع، إذ يتمثل الخطر في أنه لو تصرفت الدول الغربية كأن ما جرى حتى الآن مجرد بداية لاجتياح كامل، بدلاً من كونه مجرد عملية ضيقة يمكن لموسكو أن تشنها للحفاظ على ماء الوجه، حينها ربما يقرر الرئيس بوتين أنه، بدلاً من إطلاق الحد الأدنى من العمل العسكري، سيلجأ إلى السيناريو الأكبر ويقرر أن الحرب الواسعة النطاق تبقى الخيار الأفضل.
© The Independent