أسهمت التكنولوجيا في لعب دور مهم وأساس في بروز بعض الأصوات وانتشارها، وربما في صناعة نجوميتها في مرحلة لاحقة. وعرف أصحابها كيف يستمرون وكيف يراكمون نجاحاتهم من عمل إلى آخر، مع عدم الاكتفاء بتقديم أغنية واحدة ناجحة ويتيمة ينتهون معها، خصوصاً في هذا الزمن الاستهلاكي الذي يفرض على الفنان تقديم عمل جديد كل ثلاثة أو أربعة أشهر، لكي يحافظ على وجوده في الساحة الفنية كما في ظل التنافس الحاد بين الأصوات الجديدة الذي تعكسه مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقدمها تطبيق "تيك توك" الذي تنتشر عبره يومياً آلاف الفيديوهات لأصوات غير معروفة تمكنت من حصد آلاف المشاهدات خلال فترات زمنية محدودة.
برامج هواة وشركات إنتاج
ولان الزمن تغير، وجد الجيل الجديد في الـ "سوشيال ميديا" ضالته كوسيلة بسيطة ولكن مهمة، للتعريف بموهبته ولتحقيق الانتشار السريع له ولأعماله، كما شعر أنه لم يعد بحاجة إلى شركات إنتاج تدعمه فنياً من خلال إنتاج أعمال له وتصويرها وتسويقها، أو حتى المشاركة في برامج هواة فنية تساعده في "الإفراج" عن موهبته لمدفونة وتعريف الناس بها، لكنها تمنحه نجومية موقتة سرعان ما تنطفئ مع إنتهاء عرض البرنامج أو الخضوع لمزاج لجان تحكيم لتقوم موهبته، عدا عن أنه يلمس فاعلية سحرية لمواقع التواصل الاجتماعي من خلال سرعتها في إيصاله إلى شريحة كبيرة من الناس في وقت قصير لا يتعدى الأيام وأحياناً الساعات، وحصده لآلاف المشاهدات و"اللايكات" من خلال تفاعلهم معه، لكن المشكلة التي يجب التوقف عندها هي عدم وجود ضوابط تتحكم بمستوى الفن الذي يقدمه بعضهم عبر هذه المواقع، مما أسهم في إفساد الذوق العام وانتشار كثير من الأعمال الهابطة أداء وكلاماً ولحناً، مقابل أغاني أخرى تملك المواصفات المطلوبة بل حتى إنها تكون أفضل بكثير من أعمال النجوم، واللافت أن كلا النوعين يحصدان نسب مشاهدة عالية يتفوقون بها بأضعاف مضاعفة على المشاهدات التي تحققها أعمال النجوم، بمن فيهم نجوم الصف الأول. هل تتحمل التكنولوجيا المسؤولية في تراجع مستوى الأغنية أم أن دورها كان إيجابياً لكونها أسهمت في اكتشاف الأصوات والمواهب الجديدة؟
نجاح بالصدفة
حول هذا الموضوع يرى الملحن والموزع الموسيقي إحسان المنذر بداية أن هناك سوء استخدام للتكنولوجيا في عالم التوزيع الموسيقى ويوضح، "الطريقة السيئة في استعمال التكنولوجيا كانت نتيجتها أغان مصطنعة ومتشابهة، حتى إننا أصبحنا نعتقد بأن الموزع الموسيقي هو واحد فيها جميعاً، في حين أن التكنولوجيا المتوافرة في كمبيوترات الموزعين هي واحدة ويتم استخدامهم لها جميعاً. أما بالنسبة إلى السوشيال ميديا مثل (تيك توك) و(فيسبوك) و(إنستغرام) فإن نشر موال جميل عبرها وحصده لألاف الإعجابات لا يعد مقياساً للإبداع لأنه قد يكون مجرد صدفة، ولا يعني بالضرورة أن صاحبه قادر على تقديم الإبداع نفسه في كل مرة ينشر فيها موالاً جديداً.
ثم يحصل الخطأ عندما تقوم محطة تلفزيونية محترمة باستضافة صاحب هذا الموال في برامجها وبجلوسه في المكان الذي كان يجلس عليه فنان كبير، أي أن المشكلة تكمن في تقويم وسائل الإعلام لهذا الشخص انطلاقاً من العدد الهائل من الإعجابات التي يحصدها، في حين أن الاستمرارية هي المهمة، فمثلاً بعد النجاح الكبير الذي حققه هاني شاكر مع أغنية "علي الضحكاية" فإنه أتبعها بمجموعة من الأغنيات الجميلة ساعدته في تحقيق الاستمرارية، وأنا أسمع كثيراً من الأعمال الجميلة ولكنني لا أستطيع القول إنها دائمة، لذا يجب التفريق بين النجاح الذي يحصل صدفة وبين الموهبة الحقيقية".
من ناحية أخرى يرجع المنذر لجوء بعض النجوم إلى تغيير أسلوبهم الغنائي كلاماً ولحناً وتماشيهم مع الموجة الغنائية السائدة إلى خوفهم من الاختفاء. ويضيف، "هم بحاجة إلى الدفاع عن نجاحهم، لذا يراقبون ما هو الناجح ويتبعونه لكي يؤكدوا أنهم موجودون على الساحة ويقدمون الموضة وما هو مطلوب و(الجمهور عاوز كده)، وأنا أعتبر أن هذا التصرف دليل ضعف لأن الفنان الواثق والمتمكن من نفسه يتمسك بأسلوبه الغنائي ويحافظ عليه ويحسنه ويضيف إليه، أما التقليد فينزل النجم الكبير عن العرش المتربع عليه".
في المقابل، أكد المنذر تفاؤله بالحال الغنائية على الرغم من كل شيء. موضحاً، "فليغنوا جميعاً ولكن يفترض بالناس أن يميزوا وأن يكون حكمهم قديراً وليس عشوائياً، وأن يتأملوا أكثر وأن يفرقوا بين الجيد والسيء. أنا مع إقبال الناس على الرياضة وشتى أنواع الفنون لأننا نعيش في عصر يشهد تراجعاً كبيراً في المبادئ والآراء السياسية".
ولأن الجمهور هو الحكم ولأن حفلات "الهشك بشك" تستقطب جمهوراً أكثر من حفلات النجوم. يوضح، "هناك فن يشبه المونولوغ يقدم في علب الليل ويؤديه مطرب مهضوم يسلي الناس وينعشهم وهم يأكلون ويشربون ويرقصون، ولكن بعيداً منها لا يمكن أن يسمعه الجمهور. كل شيء له وقت وكل فنان له ساحة، وهؤلاء ليسوا فنانين بل أشخاص تسلية يحبهم الناس ويحضرون حفلاتهم، وعندما يحين الجد فإنهم يفضلون الفن الراقي والجيد والجدي".
جيل جديد وفن هابط وأشباه فنانين
الفنان وائل جسار يرى أن الـ "سوشيال ميديا" سيف ذو حدين، فهي من ناحية تسهم في انتشار جيل جديد من الفنانين، ولكن من ناحية أخرى فإن ما يقدمه معظمهم ليس إلا فناً هابطاً ومبتذلاً. ويتابع، "لا يمكن إلا أن نوجه اللوم للناس الذين يشجعون هذا النوع من الفن وهو في الأساس ليس فناً بل نوع من التسلية، لأنهم عندما يصفقون لمن يقدمونه وعندما يجد هؤلاء أنهم يحققون نسبة مشاهدة عالية على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنهم يحققون النجاح تلقائياً، مع أنهم لا يملكون المؤهلات والصوت والموهبة، وهذا يعني أن الناس يسهمون في صعود أشباه الفنانين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، يؤكد جسار أن الجيد موجود إلى جانب الرديء غنائياً، ويفترض بالناس أن يحسنوا الاختيار لأن من يقدمون فناً راقياً لا يحققون نسب مشاهدة عالية كتلك التي يحققها من يقدمون فناً هابطاً. ويضيف، "الذوق العام تغيّر كثيراً لأن جيل التكنولوجيا لا يفكر إلا بأقدامه وبالرقص وهز الخصر، ولا أنكر أنني أشعر بالانزعاج عندما يحصد من يقدم فناً هابطاً مشاهدات أكثر من المشاهدات التي تحققها أعمالي، ولكنني لا أنزعج منه و"الله يرزقه"، بل أنزعج من حال الانحطاط ومن انعدام الذوق العام الذي وصل اليه الفن، وهذا الوضع سوف يستمر بل وسيزداد تدهوراً ويصبح أكثر سوءاً، طالما أن هناك تكنولوجيا وتطوراً، خصوصاً أنه يحظى بالتشجيع ولا يوجد من يلجمه".
شر لا بد منه
من جهته، يقول الشاعرالغنائي علي المولى إنه مع التكنولوجيا على الرغم من بعض مساوئها، ويشير إلى أن "التكنولوجيا فتحت الباب أمام أصحاب المواهب كي يعبروا عن موهبتهم ويصلوا إلى الناس بسهولة، ولكنها في الوقت نفسه أوجدت نوعاً من الفن الهابط كما أبعدت الناس حتى من أنفسهم وعن القلم والورقة، وألحقت الأذى بصورة الفنان في أماكن معينة، ولكنها شر لا بد منه".
الحال الغنائية ليست في أفضل أحوالها ولا في أسوأها، كما يؤكد المولى الذي يوضح، "تكمن أهمية التكنولوجيا بأن الفن بفضلها لم يعد محصوراً بصناع الأغنية لكونها أتاحت الفرصة أمام أي شخص يحب الفن لأن يطرح الأغنية التي يريدها، مما جعل السوق الغنائية أكثر غنى واتساعاً. أما على المستوى الفني فإنها خلقت موجة جديدة وهي مستمرة إلى الأمام، ولكن لا يخلو الأمر من وجود فئة تقدم الفن السيء والرديء".